الفصل السادس من رواية "الفتيت المبعثر" للكاتب العراقي محسن الرملي
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
-6-
&
اشتدّ حرّ الصيف واشتدّت الحرب ضراوة، فأعادت إلينا قوافل من شباب القرية في توابيت وأعلام وأوسمة شجاعة، ولتعويضهم قامت الشرطة بحملة كبيرة للقبض على كل الهاربين، فأخذت قاسم وسعدي وإسماعيل وكامل ونوري وشيت وألقت بهم وراء قضبان السجن العسكري في قاعات طويلة كانت مرابط لخيول الإنكليز قبل الاستقلال، وفي كل قاعة كان أحد أبناء الحاج عجيل مركزاً للاستقطاب و لفت النظر حتى قاد ذلك ـ فيما بعد ـ إلى عزلهم في زنزانات منفردة، فبينما كان قاسم يجمع من حوله سجناء قاعته ليرسم في أوضاع متباينة، وليخط لهم بالوشم عبارات الحب والحرية والعذاب على أذرعهم وأكتافهم والصدور، كان سجناء قاعة سعدي ينتقون أفضل مفروشاتهم ليرتبوها تحته في محاولة منهم: كي يستعيدوا معه ـ ليلاً ـ بعض دفء فرش زوجاتهم، وكان الحراس أول من يرسمهم قاسم وأول من يفترشوا سعدي، وحين علم المدير بالخبر، أمر قاسم أن يرسم صورة لـ "القائد" فلم يستطع فعزله، وأمر سعدي أن يكف عن تسهير السجناء فلم يستطع فعزله، إلا أن سعدي كان يخلع سرواله ويصعد على صفيحة الفضلات في زنزانته واضعاً مؤخرته في النافذة الصغيرة التي تفصل بينه وبين سجناء قاعته ليصعدوا هم بدورهم وينالونه من هناك، وحين علم المدير بذلك أظهر غضباً عارماً ونقل سعدي إلى حجرة خاصة ملاصقة لمكتبه تتوفر فيها سبل الراحة !! للسجناء المتميزين، وقيل فيما بعد: أن ثمة باباً سرّياً ضيّقاً، كان يربط بين المكتب والحجرة، يغطيه من جانب المكتب دولاب خزانة الأضابير ومن جانب سعدي خزانة الملابس الداخلية ومنها: حمالات أثداء وقمصان نوم نسائية حمراء، ولم ينفِ سعدي تلك الأقوال&& ـ لاحقاً ـ ولم يفصل في التعليق عليها بأكثر من ابتسامة بلهاء وملامح جامدة وترديد عبارة: "ياه..كانت ذكريات حلوة مع السيد المدير!"، ولم يقل لقاسم: بأن: لولاه لما اكتفى السيد المدير بعزله وإنما لأهلكه تعذيباً..
& اشتدت الحرب فأصدر "القائد" بعد أشهر مكرمة إعفاء السجناء العسكريين من العقوبة وإعادتهم إلى وحداتهم، وإعفاء السجناء السياسيين من الحياة وإعادتهم إلى بطن أمهم الأرض بعد أن تحبل بهم الثلاجات مدة تمكّن أهلهم من دفع تكاليف حبال المشانق التي كلّف استيرادها ميزانية الدولة عملة صعبة، وفي أول إجازة لسعدي ـ بعد العفو ـ طلب من أمه أن تغزل له حبلاً ليضعه في كتفه مثل العريف ففعلت عمتي مسرورة، ظنّاً منها أنه قد رقي إلى رتبة ما في الجيش وأنه سيواصل خدمته، إلا أن ذلك لم يحدث، فبعد أكثر من تجربة ناجحة لانتحال رتب الضباط والمراتب الأخرى ضجر سعدي من الحياة العسكرية لأنها "ليست حلوة" وفرّ إلى حقول الذرة حيث الأولاد والحمير والّلـذة، كما هرب قاسم أيضاً بعد أن شاهد مدناً وقرى مُخَرّبة ودخل في بيوت هجرها أهلها تاركين أقداح الشاي حتى منتصفها، وصوراً تحدق بمرارة، ثياب العرس وراء الباب وتمكّن من حضور عرس ابنته شيماء: تلك الفتاة النحيلة الرقيقة المستكينة خلاف أمها و كانت فرحته بزفافها فرحة حقيقية لم يشعر بمثلها منذ زفافه وحسيبة التي& تخشى من أن تفتك الأمراض بابنتها قبل الزواج فلم تتمالك نفسها من الرقص وهي تراها في ثوب العرس الأبيض.. صغيرة، جميلة مثل دمى الأطفال تتشبث أناملها بمرفق عريسها البدين الذي يكاد شحمه أن يفتق أكمام البذلة ويقطع أزرارها وهو يمسح العرق المتصبب من جبهته المحّمرّة ورقبته الغليظة.
&& كان الحرّ شديداً والحرب شديدة، فشكّلت الحكومة لجنة من خبراء غلاظ الرقاب والأكباد لتقدير العوق البدني والنفسي والعقلي الذي سيتم بموجبه إعفاء المواطن المعاق من أداء الخدمة أو زجّه فيها، وستقوم هذه اللجنة بإعادة فحص كل مجانين الوطن الأعزاء، بمن فيهم عبود عجيل الرملي الذي وضعته الشرطة في قفص سيارتها بعد أن انتزعته من أحضان عمتي الباكية المتوسلة بهم: "واللّه العظيم ..الولد مخبول..مسكين". حاول الحاج عجيل طمأنتها بالقول: إن ما يفعلونه مجرد اختبار بسيط وسوف يعيدونه، مع أنه كان في قرارة نفسه يود لو أنهم يأخذونه إلى الجيش لأنّه يعتبر الجيش مصنع الرجال، فعسى أن يسوي من حال ابنه ويسد به ثغرة تركها سعدي أو قاسم، وعلى امتداد الطريق كان يروي للشرطة عن حياة عبود منذ أن ولد جميلاً ضاحكاً وروى لهم ـ بفخر ـ حكاية جدّه الذي طعن الضابط الإنكليزي "ابن الكلب" وقال لهم: ان له ولد آخر اسمه أحمد هو الأول على الجامعة في دراسة القانون وستنصبه الحكومة قاضياً، وابناً آخر اسمه عبد الواحد في خط النار الأمامي ولم يذكر لهم شيئاً عن سعدي أو قاسم أو محمود، وأعاد ما قاله لهم على مسامع اللجنة حين مثل بين يديها ساحباً عبود من ياقته بعد أن أنهكه الوقوف في طابور آلاف المعاقين والشمس.. قال خبير ذو صلعة كبيرة لعبود زاجراً "ما اسمك؟"، فجفل عبود ولم ينبس بكلمة، أعاد عليه والده الطلب مذكراً إياه بالأسـماء التي كان يحفّظها له تحت النخلة فراح عبود يعد الأسماء لوالده حتى الجد العاشر فقال له الأصلع "عد لنا من الواحد إلى العشرة"، فتهلل عبود بلعبة السجع التي علّمها له سعدي وأولاد القرية وراح يعد للأصلع و هو يبتسم متغنياً بالقوافي المرتبكة للكلمات: "واحد.. يركَبكَ عبد الواحد، اثنين.. يركبك عمي حسين، ثلاثة.. في مؤخرتك شعاثة، أربعة.. يركبك مدير المطبعة، خمسة.. بكَ أدمسه، ستة..بكَ..بكَ...".
&& لم يعبأ عبود بصراخ أبيه الذي طفق يحاول إيقافه: "عيب يا ولد..يا ولد اسكت". وحاول أن يذكّره بالمقاطع التي حفّظها له من النشيد الوطني.. فلم يسكت "سبعة.. بك اطبعه، ثمانية.. يركبك مدير ألمانيا، تسعة.. أبوك يبلعه، عشرة.. بكَ أحشره"، ثم قفز وهو يصفق بنشوة كما كان يلعبها مع سعدي وأصحابه. ولم تأخذ اللجنة بهذا الهبل كدأبها مع الآلاف ومنهم من أجاد أداء أعقد أدوار الهستيريا والجنون أملاً بالخلاص، على الرغم من أنهم قد لاحظوا بوضوح كثافة حاجبيه وبروز جبهته وبوزه وغرابة أطرافه ولونه الأربد إلا أنهم أحالوه ـ مثل الجميع ـ إلى غرفة التعذيب التي يطلقون عليها تسمية "الغربال" والتي ضعف فيها أعتى المدّعين تحت لسع ضرب أسلاك الكهرباء الغليظة، فكان عبود يقهقه لوقع الجلدات الأولى على جلده بينما أدار والده وجهه عنه تألماً وتعالى الصراخ بعد لحظات فهزّ الجميع: كان عواءً ذئبياً متوحشاً.. ذئبياً تماماً أخاف الجّلاد نفسه فتأكدت اللجنة من جنونه ودفعت به مع والده إلى الرصيف حيث استنجد عجيل ببعض المارة من "أولاد الحلال" كي يرفعوا معه عبود في كيس إلى حوض سيارة أجرة أعادته إلى عمتي الجالسة أمام بوابة خشب البلوط تنتظرهم تحت الشمس، و كانت المفاجأة أكبر حين نهضت وتقدمت فاتحة ذراعيها لتستقبل عبود المحمول من إبطيه بين السائق وعجيل وإذ بوردة تقبل راكضة لترتمي في أحضانها... بصمت.. خائرة القوى، مصفرة الوجه، منفوشة الشعر و ناشفة الحلق. ترك عجيل الولد في يد السائق وهرع إلى وردة يسألها فشهقت ثم انفجرت بالبكاء على صدر عمتي متمتمة: "فوزي مات يُمّه" فصاحت عمتي معها "يبووووه يا مكرودة يا أم جاسم".
&وتسمّر الحاج في مكانه لبرهة ثم التفت إلى السائق وقال: "زوج ابنتي استشهد في الحرب دفاعاً عن الوطن"... ومع ان وردة قد أنجبت لفوزي طفلة بجمالها وأصرّت على أن يكون اسمها وردة أيضاً وتركتها له عند أهله.. إلا أنها لم تتمكن طوال فترة زواجها من أن تعرف: هل كان فوزي رجلاً يستحق الاحترام أم لا ؟!. كانت تسعى لمعرفة ذلك وفق ما قاله قاسم عن الرجل الذي يستحق الاحترام. وهذا أشد ما يؤلمها في رحيله فربما كان رجلاً يستحق الاحترام... لم تعرف.. ولم تكفها الأيام السبعة من كل شهر في إجازته من تحديد خصائصه بدقة... كانت الحرب تأخذه أكثر منها.. حتى أخذته&&&&&& إلى الأبـد.
&
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف