ثقافات

الفصل السابع من رواية "الفتيت المبعثر" للكاتب العراقي محسن الرملي

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
&
-7-

الهجوم الذي سقط فيه فوزي هو الهجوم نفسه الذي سقط فيه عبد الواحد، ولكن وصول فوزي إلى القرية ملفوفاً بالعلم ومصحوباً بوسام الشجاعة قد سبق وصول عبدالواحد ملفوفاً بالعَلم، مصحوباً بوسام الشجاعة الذي سلّمه المسؤول الحزبي ومدير الشرطة إلى الحاج عجيل ببالغ الاحترام والانحناء، قال الأول: "مبروك استشهاد ولدكم" وأضاف الثاني: "كان بطلاً شجاعاً روى بدمائه الزكيه تراب الوطن الغالي". لطّخَت عمتي وجهها بالسخام وهالت رماد التنور على رأسها و خارت في الأرض مثل شاة ذبيحة. حاول عجيل تذكيرها بتمثيلية "الخنساء" إلا أنها غابت عن التذكر، وتعالى صراخ النساء في مندبة ملأت فناء الدار وناحت عجائز بأبيات حزن قديمة:
&"ريت العمر ماطال&&يقصر عسنّه
&&&&&&&&& & يخلص عبنّه هموم&&&&&&&&&&& ونّه على ونّه"
ولم يفهم عبود شيئاً فعوى، وربت الملا صالح على كتف الحاج عجيل وقال كأنه يُلقنه "قلْ إنّا للّه وإنّا إليهِ راجعون" فرددها عجيل وأضاف:
"أ رأيت يا ملا؟: عبد الواحد ولد نشنن" فرمقه الشيخ باستغراب ثم ابتعد عنه هامساً "استغفر اللّه". بكى قاسم بمرارة وقال لشاطئ النهر: "لقد سفحوا دمك يا ابن أمي بلا معنى..الهي..ما أوجع ذلك!" بينما كان سعدي يركل رماح القصب ويضربها ببعضها صارخاً:"أحمق..غبي..مغفل..عبد الواحد مغفل". ثم بكى ونام هناك أياماً. خمّشت وردة خديها وشقت ثوبها وارتدت الأسود وودت لو تعوي مثل عبود. لكن صراخها على فقيدين أفقدها صوتها طويلاً، ثم تزوّجت من عقيل ثم طلبت منه الطلاق بعد أن تركت له طفلة بجمالها، أصرت على أن يكون اسمها وردة أيضاً... حاول عقيل ثنيها عن عزمها على الطلاق فلم تستجب فاستجاب لها لأنها لم تعد تطيق العيش معه بعد أن اكـتشفت بأنه رجل لا يستحق الاحترام، لأنها حين طالبته بتوضيح موقفه تجاه ذلك الغريب البعيد قال: "من يأخذ أمنا يصبح عمنا.. دعينا بسلام"، فرمت عليه السلام وخرجت عائدة إلى بيت أهلها عاقدة العزم على أن لا تتزوّج للمرّة الثالثة إلا رجلاً يستحق الاحترام، وفتشت عنه حتى في المدينة عند ذهابها لزفة أحمد الذي تزوّج من المدينة "أجنبية" كما تقول عمتي التي آلمها ابتعاده عنها إذ استقر هناك غائباً في وظيفته وامرأته وأولاده الذين حرموا من حلم تربيتها لهم وكان أكبرهم طفلاً بالغ الذكاء، فاز على الجميع في لعبة الشطرنج حتى جده ووالده وعمه قاسم فمنحته عمتي طاقية أبيه القديمة المزينه بريش الديكة الملون، والتي احتفظت بها مع حزام مهده في صندوق عرسها العتيق، ورسم له عمّه قاسم صورة جميلة وهو يلعب الشطرنج. حدثه جده عن عمه عبد الواحد "البطل" وعن جده الذي قتل الضابط الإنكليزي "ابن الكلب". ظل عجيل يفاخر ببطليه ويذكرهما أينما حل: في مجلس قهوة القرية وعلى مسامع الضيوف ولأي سائق أو مسافر يجمعه معه طريق وللمصلين بعد صلاة الجمعة وللجيران ولعبود ولنخلة الدار، فيما يبكيه قاسم أمام النهر بحرقة "خسارة". وغزا الشيب شعر قاسم وازداد وجهه تجهماً الأمر الذي ادهش حسيبة وأولادها حين انفجر بالضحك حتى انقلب على ظهره وبانت فخذيه وهو يرفس الهواء بقدميه لعنف الضحكة التي اجتاحته وهو يسمع "القائد" في التلفاز يصدر قراراً بقطع أذن كل هارب من الجيش... دنت منه حسيبة وأجلسته وهي تسحب دشداشته إلى الأسفل كي تستر فخذيه عن الأولاد مستجلية ما انتابه، فوضع يده على أذنه الناقصة وقال من خلال ضحكته المتقطّعة: "الجرذ قضم نصفها وسيقضم هو نصفها الآخر". ضجت القرية بالضحك ونشطت السخرية بين الشعب وقيل "وإن هرب مرّة أخرى؟"، قيل "فالأذن الأخرى"، قيل "وإن هرب مرّة أخرى" فتشعبت الأقوال ومنها ذلك الذي أعدم بسبب قوله "سيقطع "ذاك" الذي يحبه سعدي" وعلّق الذي لحق به إلى حتفه "إذاً سينافس الولد في رزقه". وضحك الشعب وهو يتخيّل نفسه أكر الآذان فعدل "القائد" قراره بالإعدام.
& هبت أفواج الشرطة تطارد الهاربين، فاختبأ سعدي بسرعة قبل أن يداهموا بوابة البلوط. فتشوا في كل مكان: في غرف النوم، تحت الأسرّة، وراء الأبواب وفي المطبخ وبيدر التبن وبراميل الماء وعلى السطح وأطلوا في البئر ووردة تنظر إليهم بكراهية وتبصق على الأرض حتى خرجوا فخرج سعدي من مخبئه تحت الحمارة المجللة ببساط طويل متدلي حتى الأرض. مسح رقبتها وداعب أذنيها ووعدها خيراً ثم دلف إلى المطبخ بينما قبضوا على قاسم حين داهموا بيته وعثروا عليه في غرفة الرسم منهمكاً بألوانه، فأطلقت حسيبة بقوة صوتها استغاثةً سمعتها القرية كلها ومزارعو الحقول القريبة. ركضنا جميعاً نحو مصدر الصراخ لنرى فصيل الشرطة يقيد يدي قاسم بالحديد وراء ظهره ويقتاده إلى وسط ساحة القرية فمشينا خلفهم يتشفع الرجال بشرطة يعرفونهم وتتوسل النساء بأي شرطي وخيمت على القرية ظهيرة كابوسية ساخنة استشعر الجميع ما تنذر به من فجيعة وحاولوا إبقاء حسيبة في بيتها فثارت عليهم، ولم يجدوا غير والدها قادراً على إرغامها على المكوث في بـيتها مع أولادها. أغلق الحاج عجيل على نفسه باب غرفة الضيوف وارتمت وردة على عمتي لتبكيا بعد أن أغلقتا عليهن الباب و النوافذ وغطتاها ـ من الداخل ـ بالبطانيات كي لا تسمعا صوتاً وكان صوت حصى الدروب تحت حشودنا السائرة يشبه خربشة الجلد بمخالب خشنة. يتصاعد الغبار من الأحذية إلى الرؤوس فيتحوّل إلى طين في الوجوه عند التصاقه بالعرق المتصبب حراً و حيرة و عجزاً و خوفاً كنا كقطيع دواب صامت أو لاغط.. لا فرق!!.
& أوقفوا قاسم في منتصف الساحة و وسعوا من نصف دائرة الحشد حوله. همهمات أسف، أو ألم أو همس احتجاج لا يُسمع أو "لا حول ولا قوة إلا باللّه"، أو توسل أو تنفس يصطدم كله بكلمة تنطلق من فم شرطي: " قرار" ... شمس القرية، دموع النساء، ارتعاش الشيوخ، ارتعاب الأطفال، ذبول النخل، هروب العصافير، وقاسم مطأطئ الرأس بشعر منفوش. قيّدوا قدميه واقفاً، ويـداه خلف ظهره بالحديد. ثيابه مُلَطَّخة بالألوان.. أحمر.. أخضر.. أبيض.. وذكريات عنه في الرؤوس التي تطوقه حيّاً. لقد خطّ لها واجهة الدكاكين، أو صلّح لها مذياعاً ما، أو خطّ شاهدة قبر. وشاهدته كان قد أعدّها منذ زمن بعيد.. منذ ابتداء الحرب وركنها في زاوية المرسم مع بعض اللوحات القديمة: "هنا يرقد الإنسان قاسم عجيل الرملي مع أحلامه وهو مخترع الخط القاسمي..أُميت ولم يُمت ". وعلى قفا الشاهدة كتب عبارة طاغور:"إنني أنحني لكم جميعاً ثم أمضي في رحلتي".& ألوان.. وألوان ووجوم وارتباك ووجوف جاف مستحيل، وجوه صفراء، قلوب قارعة منقرعة، حناجر أضاعت أصواتها، بلاعيم عاطلة عن ابتلاع ريقها، ناشفة، مفعمة بطعم رمل صحراوي ورائحة دم، ملح، دمع أو لا دمع، عيون تنظر ولا تنظر ومدير الشرطة يسأل قاسم عن مطلبه الأخير فيضيّق نصف دائرة البشر، ليسمع و لا يسمع لولا أن صاح الضابط بأحد رجال الشرطة "هاتوا له أباه" أراد قاسم أن يوضّح لأبيه أموراً كثيرة، أو أن ينظر في نظاراته العزيزة نظرة أخيرة ويعتذر منه عن سيل أحزان قادمة، أو يُلمح إلى انعدام الفرق بين مقتله ومقتل عبد الواحد فالقاتل واحد والدافع واحد. ومدير الشرطة الذي منحه وسام شجاعة عبدالواحد هو ذاته الذي سيأخذ منه ثمن رصاصات إعدام قاسم ويكتب على تابوته "خائن" ... أراد أن يحتضن أباه ويعتذر عن طوفان أحزان قادمة، أو ينظر في نظاراته عسى أن يفهمه وينقل إلى حسيبة وأمه ووردة معنى انطفاء النور الأخير في عينيه، أن يخبرهم بأنه لم يرد الرحيل ولكن أجبروه عليه، أو يوصل إليه / وإليهم / وإليكم / وإلينا عبره بأنه سيصبح بعد الموت مثله / مثلهم / مثلكم / مثلنا جميعاً: مسلوب الإرادة والحرية والحلم ورأسه المحني حزناً: على نفسه وعليهم / وعليكم / وعلينا وعلى جمال الخط القاسمي وشاطئ النهر والحياة، هو مثل رؤوسهم / رؤوسنا حوله يديرها توزيع التفاتات النظر بين رأسه وانتظار مطلع رأس أبيه الذي لم يطلع، فقد رجع الشرطي وقال: "إنه يرفض" فاعتصر الألم قاسم متكثّفاً في لحظة موجعة... أشد إيلاماً من آلام مضت أو ستأتي فاقترب منه الضابط وامتدت الآذان لتسمع "إذاً لا تضيّع وقتنا، اطلب أي شيء آخر بسرعة". رفع قاسم رأسه وتطلعت القرية، والعالم تطلع إليهم وودّ لو يقول: أريد أن أرى شاطئ دجلة أو اقتلوني هناك حيث كنت أذهب منذ طفولتي حيث: ذراع حسيبة الأبيض في فجر أبيض، الوطن الأحمر في قلب أخضر، الصخرة والسمك، الخط القاسمي والرمل، قرار عدم المشاركة في حفلة القتل، جزيرة وسط النهر، حصى، جرف، نوارس... نوارس وأمواج وجريان الماء طويل..يطول، وطال تحديقه في الضابط صامتاً فأعاد عليه بنفاذ صبر: "ماذا تريد؟" هزّ قاسم رأسه: "لا شيء" فأشار المدير الضابط إلى من معه ليعصبوا عينيه واصطف فصيل الشرطة أمامه وفق الإيعاز إليهم بكلمة زاجرة& وبأخرى ثنوا ركبهم على الأرض، وبأخرى صوّبوا فوهات بنادقهم إليه فصاحت النساء جزعاً؟.. وانهارت بعضهنّ مغشياً عليهنّ، فرّ أطفال ونظر شيوخ إلى الغيم، ووُضعت الأكف على العيون كي لا تشهد أو لترى من بين خلل الأصابع، و أدار بعض منهم وجوههم، وصرخ الضابط "ارمِ" فلعلع الرصاص وارتمى قاسم على الأرض تحت مطر مجنون غربل جسده بثقوب حمراء تبدو عن بعد مثل شقائق نعمان حُمر، ووراء الباب سمعت حسيبة وأولادها صوت الرصاص فصرخت لبوة جريحة وجلس والدها الواقف / وراء الباب قبض الحاج عجيل على بلعومه، على تفاحة آدم، على إبرة القنفذ وشعر بها تؤلمه لأول مرّة في حياته، و كأن الرصاص كان ينغرس فيها / وراء الباب سدّت وردة أذني أمها بأصابعها، إلا أنها سمعت و غابت عن السمع منذ الطلقة الأولى ولكن... من يسد أُذني وردة ؟؟!!.
& ثقوب حمر.. حتى يخرّ أحمر ويخرّ منها الأحمر.. حدّقنا إليه والشمس.. مرمياً على الأرض أحمر.. برهة... تلوّى قاسم قليلاً في حركة واهية أخيرة... كأنّه حاول رفع جسده... ثم... همد ... جثّة ميتة إلى الأبد.

&

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف