بول كيندي: أفغانستان ما بعد طالبان.. وأغلال الإمبراطورية
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
سيكون من المشوق معرفة ما اذا كانت تلك الرؤية البلفورية الحذرة من التدخلات قد اثيرت في المشاورات البريطانية ـ الاميركية السرية وقبل اتخاذ قرار تدمير حركة طالبان واعادة صياغة السياسة الافغانية.
لقد عادلت ميزانية وزارة الدفاع ـ البنتاجون ـ في العام الماضي ميزانيات دفاع الدول التسع الاقوى بعد الولايات المتحدة. ضمن هذا الزخم العسكري ليس غريباً ان تصبح اجواء افغانستان تحت السيطرة التامة للقوات المتحالفة، وان تحط وتقلع قوات الخيالة الاميركية والقوات البريطانية الخاصة كيفما تشاء على الارض، وان يتم دعم قوات التحالف الشمالي والقبائل الافغانية الاخرى في حربها الثأرية على كابول وقندهار. وبالطبع اذا كان اسامة بن لادن يختبئ للان في كهوف الهملايا الباردة، فلن يُستغرب الامساك به قريباً وعلى الارجح ان يقتله احد رجال المارينز لان الامة الاميركية، او على الاقل الاغلبية، لا تتوقع اقل من ذلك كرد على احداث سبتمبر الارهابية.
الاغلبية التي تطالب بالرد تؤمن بان هذه الحرب ضد الارهاب انما هي بين الخير والشر، واي مقارنة مع الحروب الاستعمارية الاوروبية القديمة هي مجرحة وخاطئة. الولايات المتحدة، مدعمة بالحلفاء المخلصين، تريد فقط تدمير قواعد الارهاب في افغانستان (وانصارهم اينما كانوا) وتريد ان تساعد، بشكل او اخر، في اعادة بناء الامة الافغانية المشتتة ضمن اطر الامم المتحدة. معظم القوات الاميركية ستكون بالتأكيد (حسب الامل) قد عادت للبلاد في اعياد الميلاد، وربما بعد ذلك بقليل. تأديب الطالبان انُجز بالتوفيق على عكس الرؤى السوداء للعرافين، وسيمكن انهاء الحملة قريباً.
العملية الحربية حتى الان مدهشة بالفعل (وبالمناسبة يعود الفضل في ذلك لنوعية تعليم الضباط الاميركيين في الكليات الحربية منذ مطلع الثمانينات) لكن دعونا نعود الى عقل بلفور المثقل بالمخاوف. لم يكن بلفور من البرلمانيين البريطانيين الامبرياليين، او بروفيسوراً يسارياً، بل حمل خواص محافظة ذات طابع ثقافي ورصين. كان بلفور يشابه الدبلوماسي الاميركي الشهير جورج كينان، لا يثق في المبالغات الاثارية والشوفينية، ولم يكن حتماً صاحب شخصية جذابة. نستحضر روح بلفور هنا لانه اهتم وبعمق في تحديد مقاييس القوة واستعمالاتها. كان يتخوف ان الديمقراطية لن تواصل دعمها الاولي المندفع للحروب البعيدة، خصوصاً بعدما يحل الشقاء وتطول الحرب اثر الانتصار الاول. وتخوف بلفور ان تؤثر الحروب الكولونيالية على صانع القرار وتبعده عن الاحتفاظ بالتفوق الى اقامة علاقات ومساومات مع القوى الاخرى.
كان بلفور كثير القلق، فهو استاذ فلسفة اضافة لكونه رئيس وزراء سابق. مع ذلك كانت احاسيسه في العادة سليمة، ولم يزعجه مبدأ ارسال القوات الضخمة الى الخارج فقد عاصر تحطيم السير جرانت ويلزلي للوطنيين المصريين عام 1882 وهزيمة اللورد كيتشنر لقوات المهدي "المتطرفة" في السودان عام 1898، بل يتذكر بلفور قبل ذلك كيف عاقب الجنرال روبرت الافغان في عام 1880 على هجومهم السابق ضد القوات البريطانية، ولهذا اصبح لقبه اللورد روبرت اوف قندهار بعد ابادته للجيش الافغاني.
ذلك النصر تبعه انسحاب بريطاني حذر عبر ممر خيبر لان لندن ودلهي لم ترغبا في البقاء و"تحضير" الافغان. بالمقارنة، فان النصر في مصر والسودان ادى لتثبيت الامور وتبعه عقود من الادارة البريطانية والمساعي الجادة لحكم جيد. لقد تحول اقتباس وليم جلادستون "الاغلال في مصر" الى نكتة واسعة الانتشار انذاك. (الاقتباس اخذ من الانجيل في وصف بيع سيدنا يوسف الى فرعون، فقيل هنا الاغلال في مصر بمعنى التورط البريطاني الى درجة العبودية ـ المترجم)
من تونس والقوقاز حتى بورما والهند الصينية امتلأ العالم بالامثلة لمحاولات الغرب استعادة السيطرة والتحكم في المتغيرات، غالباً ما امكن التحكم في الامر، وكان على القوى المنتصرة تحمل المزيد من الواجبات. في عام 1918 كان بلفور متأكداً ان اخر شيء تحتاجه بريطانيا المنهكة من الحروب هو الاشراف على صراع قبلي في اسيا الوسطى.
هل هذا الاستطراد مفيد ؟ كما في حال كل المراجعات فالاجابة لا ونعم. لا لا لا كون اميركا 2001 ليست بريطانيا 1918، التقنية مختلفة، السياسات غير ما كانت عليه الى جانب فوارق اخرى. ونعم نعم نعم لان السؤال ذاته يتكرر : بعد ان تدمر خصمك في المرتفعات البعيدة، هل تنسحب بسرعة (خيار روبرت) او تبقى هناك فترة طويلة لاعادة البناء والسيطرة (خيار كتشنر) ؟
حتى الان يمكن القول ان الرئيس بوش ونائبه ديك شيني ووزير الخارجية كولن باول ومستشار الامن القومي كوندليزا رايس ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، وفي الخلفية جورج بوش الاب قد توافقوا سوياً في اطار فريد. تعاملوا مع كل الزوايا ك الاقتصادية والسياسية والتعاون الاستخباري ومهام الشرطة ـ وذلك عبر الكرة الارضية. من الصعب تخيل ادارة لكلنتون او غور تنجح هكذا بهذه الدقة.
لازال الطالبان يقاتلون من اجل قندهار وبضع مدن اخرى افغانية لم يسمع بها معظم العالم حتى الان. قد تكون لديهم مفاجآت ولكن مصير هذه المدن يبدو جلياً. بعض "الخبراء" في الشأن الافغاني (كم من الزمن عاشوا هناك يا ترى ؟) يدعون بأن الطالبان يفضلون الحياة في الجبال، وهناك من يخبرونا ان الطالبان هم غوريلا مدن واذا ما طردوا منها تصبح ايامهم معدودة.
بغض النظر اذا كانت هذه الحرب قريبة من النهاية الرسمية ام لا فان الولايات المتحدة الان تواجه مراجعات بلفور الحذرة. منطقياً هناك ثلاثة خيارات. الاول ببساطة، مغادرة افغانستان فور انتهاء المقاومة للقوات الاميركية وبعد قتل او اسر اسامة بن لادن. المحادثات السطحية في محلات الغسيل وبيع الخمور في كوينيتيكت تفيد بأن ما تريده الاغلبية الاميركية هو الوصول للعدو وتفجيره قطعاً والعودة بالجند للبلاد دون خسائر. هذه الاغلبية لا تريد الاقتراحات الداعية لانتهاز الفرصة والتأثير على تغيير النظام في العراق وايران وابعد من ذلك. اما اذا واجهت القوات مقاومة وخسائر اكبر حول قندهار فان الشعور بالانسحاب سيغلب وينمو ويجد الدعم من رجالات الكونجرس. لكن فكرة اشتراك اميركا في تدمير بقية افغانستان ثم ادارة الظهر لها، هي فكرة غير مسؤولة وسيقاومها كل من بوش وباول.
الخيار الثاني سيكون احالة القضية برمتها الى حضن الامم المتحدة، وها هو السكرتير العام كوفي أنان ومستشاروه يمتدحون انفسهم لما فعلوه للان. "الاولاد الاشداء" مثل الخيالة الاميركية والكوماندو المارينز سيكونوا قد اتموا العمل التدميري، وبعدهم سيحل دور الممثلين "الانعم" لتخطيط واعادة بناء السياسة والمجتمع والاقتصاد الافغاني. سيقدم الاميركيون بعض الدعم، لكن الدعم الرئيسي يتوقع من الامم الغنية النصيرة مثل اليابان والمملكة العربية السعودية. المنظمات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد وحتى برنامج التنمية واليونيسيف وبقية المنظمات التي اتهمت بالتقصير دوما من قبل اليمين الاميركي، كلهم سيندفعون للعب دورهم. حفظ الامن والقانون يمكن تسليمه لقوات الخوذ الزرقاء من تحالف تطوعي : كتيبة تركية واخرى اندونيسية وبعض السويد طيبو النوايا والتونسيون والنيجر والبلغار.
اذا اردنا الاسترشاد بالتاريخ الافغاني فان خيار "اعادة البناء بدون الاميركان" سيكون عملاً خطيرا. الان يتم تخزين الاسلحة في انتظار الجولة التالية للحرب الداخلية. ان مقتل أي قائد من طالبان او غيره من امراء الحرب يُلزم العائلة والاتباع بالانتقام، وبالتالي فان تحالف الفئات الافغانية مثل البشتون والتحالف الشمالي وبقايا الطالبان والقبائل المستقلة، لن يعمر طويلاً وعندما تنسلخ فئة عن هذا التحالف سيتم اللجوء للسلاح مجدداً. هل يظن احد بالفعل ان قوات حفظ السلام من الامم الصغيرة المحايدة سيمكنها ردع العنف ؟ او سيحترمها أي طرف؟ لا بد من القول ان القوى العسكرية الفعالة فقط مثل جند اللورد روبرت وقاذفات الرئيس بوش هي التي يمكنها كسب الاحترام في ذلك الجزء من العالم.
هذا يترك اميركا امام الخيار الثالث: البقاء في افغانستان لفترة طويلة بالتعاون مع دول اخرى ومع الامم المتحدة للقيام بمهمة بناء امة ستبدو معها المهمات التي انجزت للان في انجولا وكمبوديا والبوسنة سهلة للغاية. سيكون هناك تواجد عسكري اميركي في قواعد جوية ومعسكرات محمية، وسيتواجد المستشارون من مدنيين وعسكريين لاصلاح الحكومة. رئيسا القوات الدولية وحفظ الامن سيكونان اميركيين ايضاً ولن يكون هناك تحديد زمني لهذه المهمة (لقد تعلمنا ان شعارات عودة الاولاد قبل اعياد الميلاد تضر اكثر مما تنفع) الانسحاب سيأتي عند اكتمال البناء المدني المعقول.
كم من الوقت سيستغرق ذلك ؟ خمس سنوات ؟ خمس عشرة سنة ؟ لا احد يدري. هل سيبقى التزام الشعب والكونجرس على حاله بعد احداث سبتمبر دون تأثر عام بعد اخر مع احتمالات التعرض لخسارة من جراء القنص والالغام ؟ هل بدأ فريق الرئيس بوش، الذي لم يخطئ للان، في تحضير الامة لحرب طويلة ؟ اثناء التأمل في الخيارات قد يفيد دراسة الامثلة الاقدم ومنها تجربة "الاغلال في مصر". التذكير بذلك لا يعني النصح بالانسحاب السريع، في الواقع ان كل الدلائل الحالية تشير الى ان الخيارين الاول والثاني سيؤديان الى اراقة الدماء والدمار، لكن خيار البقاء المضني وبناء افغانستان محترمة قد يكون اصعب من الخيار المثير بالقاء القنابل في مداخل الكهوف. ولان الرئيس بوش مدرك لهذه الحقيقة فأن الوقت يقترب لابلاغ الشعب الاميركي ان النصر السريع في الميدان لا يُترجم دوماً الى حلول سياسية سريعة. اذ ان المرحلة الثانية من الحملة تشرف على البداية.
* استاذ التاريخ في جامعة ييل ومؤلف "نهوض وانهيار القوى العظمى" خدمة "لوس انجليس تايمز" ـ خاص بـ"الشرق الأوسط"
&
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف