فهمـي هـويـــدي : ليسـوا مدنيـين ولا ذميـين أو معـاهدين
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
(1)
مفتاح فض الاشتباه يتمثل فيما تحدث به الأصوليون من تفرقة ضرورية بين الحكم والفتوي, وقالوا أن الحكم هو الرأي الشرعي مجردا, الذي يقرر المبدأ والوضع الأمثل, أما الفتوي فهي تنزيل الحكم علي الواقع, وتقرير الوضع في ضوء ذلك الواقع بمختلف ملابساته وضغوطه التي ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار. لذلك فإذا كان الحكم انحيازا للأمثل, فإن الفتوي تقوم علي الموازنة, وتستخلص أفضل ما هو ممكن, أو الأقل ضررا من بين احتمالات عدة. وفي ظروف معينة فإن الفتوي قد تأتي برأي يختلف عن الحكم أو يناقضه, فالخمر محرمة بيقين, وإذا سألت أي مرجع ديني عن حكمها فسوف يبسطه أمامك علي ذلك النحو دون تردد. لكنك إذا سألت مفتيا عن حالة إنسان ضل طريقه في مكان قفر, وكاد يهلك من العطش, ولم يتوافر له سوي مشروب الخمر, فسوف يفتي بأن تعاطيها واجب لإنقاذ نفسه من الهلاك. وبهذا المنطق تصرف ابن تيمية حين مر علي قوم من التتار يشربون الخمر, فغض الطرف عنهم, وحين استغرب أحد رفاقه أنه لم ينههم عن المنكر, كان رده إنهم إذا أفاقوا فإنهم سوف يعيثون في الأرض فسادا, من ثم فللمسلمين مصلحة في ألا يفيقوا من سكرهم.
للأصوليين كلام كثير في التفرقة بين الأحكام والفتاوي, وثقه وفصل فيه الأمام شهاب الدين القرافي المتوفي في القرن السابع الهجري في كتابه الشهير الإحكام في تمييز الفتاوي عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام, وأهمية هذه التفرقة التي نحتاجها لفض الالتباس الذي عشناه في الأسبوع الماضي تكمن في أنها تؤيد كلام المراجع الفقهية بحسبانه أحكاما قررت المبادئ العامة, كما أنها ترحب بكلام معارضيهم أيضا, بحسبان ذلك فتوي قدرت ملابسات الواقع وخلصت منها إلي ما قالت به.. كيف؟ دعونا نتحري المسألة.
(2)
تصريحات المراجع الفقهية التي خرجت من القاهرة والرياض في وقت واحد( يوم12/4) قررت ما يلي:
* إن الإسلام يرفض ويدين العدوان علي المدنيين الأبرياء, سواء كان العدوان من جماعة أو طائفة أو دولة.
* إن شريعة الإسلام تصون النفس الإنسانية, وتدين من يعتدي عليها بقتلها ظلما وعدوانا, وذهب القرآن الكريم إلي أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا.
* إن الإرهاب ترفضه جميع الأديان السماوية والعقول الإنسانية السليمة, لذلك فإدانته واجبة علي كل مؤمن بتلك الأديان.
* إن ما يحدثه البعض بالإفساد في الأرض, بالاعتداء علي الأبرياء, وإزهاق النفوس, وتدمير الممتلكات أمر محرم, ولا يجوز شرعا ولا عقلا, وقد حذر الله سبحانه وتعالي المؤمنين من ارتكاب تلك الآثام.
* إن الإسلام يعامل أهل الذمة بالوفاء بالعهود والعقود, ويحفظ حق المعاهدين, إذا التزموا بالشروط التي يضعها عليهم المسلمون. وعندئذ يجب علي المسلمين المحافظة علي أهل العهد, وعلي أرواحهم وأعراضهم وأموالهم, وقد حرم الإسلام الاعتداء عليهم وانتهاك أي من تلك الحرمات.
* إن الاعتداء علي أهل العهد والذمة محرم شرعا, لأن الله تعالي حرمه وتوعد رسول الله صلي الله عليه وسلم فاعله بأعظم العقوبات, وهي حرمانه من الجنة, ذلك أنه إذا حدثت المعاهدة مع غير المسلمين, وجب حفظ نفوسهم وأموالهم وأعراضهم وذرياتهم وأهلهم, سواء كانوا مقيمين بين أظهر المسلمين, أو كانوا في بلادهم, وماداموا ملتزمين بشروط المسلمين عليهم, فينبغي الامتناع عن الاعتداء عليهم من أي باب.
* إذا ظهر من غير المسلمين المعاهدين الخيانة للمسلمين وعدم الالتزام بالوفاء بالشروط أو عدم الالتزام بالصلح الذي بيننا وبينهم, فإنه لا يجوز لنا أن نتعرض لهم بسوء إلا بعد نبذ العهد الذي بيننا وبينهم وإخبارهم بذلك.
من يقرأ هذا الكلام جميعا يجد أنه بمثابة تقرير للمبادئ العامة التي تنطبق في كل زمان ومكان, بل إن بعضه يوحي بأنه يستثني الوضع الراهن ولا ينطبق عليه, خصوصا ذلك الشق الذي يتحدث عن شروط المسلمين علي غيرهم, أي عن وضع تملك المسلمون فيه موقع القوة والغلبة, ففرضوا شروطا علي غيرهم تعين عليهم أن يلتزموا بها. ولا أظن أن المشهد الراهن له أدني علاقة بذلك الوضع, الذي للمسلمين فيه الغلبة المشار إليها.
لا أحسب أن أحدا يمكن أن يختلف علي تلك المبادئ والأحكام التي تقرر الوضع الأمثل في علاقة المسلمين بغيرهم, غير أننا إذا قمنا بتنزيل الأحكام علي الأرض الفلسطينية, خصوصا ما جري في الأسبوع الماضي من جانب الفلسطينيين وعملياتهم الفدائية داخل إسرائيل, فإن الفتوي في هذه الحالة لابد أن تمضي في اتجاه آخر, يخالف ما جاء به الحكم المتقدم.
(3)
السياق له خصوصية بالغة التعقيد والحدة في الصراع الذي تشهده أرض فلسطين, ولأن تحرير خصوصية الحالة شرط واجب الاستيفاء قبل إصدار الفتوي في حدودها, فقد بات ضروريا أن نستحضر أولا معالم تلك الخصوصية, حتي إذا اقتضي الأمر أن نستعيد بعض المعارف التي يعرفها الجميع.
فنحن بصدد غزوة عسكرية استيطانية, استهدفت اغتصاب الأرض وطرد سكانها واستجلاب وافدين جدد من أنحاء الكرة الأرضية لكي يتمكنوا من البلد الذي طرد شعبه. هذه الغزوة مارست بحق أصحاب الأرض أكثر من ثلاثين مذبحة لترويع الخلق, وأبادت أكثر من320 قرية ومدينة فلسطينية, ومنذ وقع الاحتلال عمدت النخبة العسكرية التي قادت الغزوة علي تنشئة أجيال مشبعة بروح الكراهية والرفض للفلسطينيين أصحاب الأرض, استنادا إلي نصوص مقدسة ومفاهيم توراتية تعتبر إبادة أي شعب غير يهودي يعيش فوق الأرض المقدسة بمثابة أم الفرائض التي يتعين علي المؤمنين الامتثال لها, ليس ذلك فحسب, وإنما عمدت تلك النخبة إلي تلقين الأطفال منذ صغرهم أن قتل الفلسطيني أمر عادي وطبيعي للغاية, حتي إن درس الحساب في الصف الثالث الابتدائي حين يعلم الطفل الجمع والطرح فإنه يضع أمامه مسألة تقول: إذا قتلت خمسة فلسطينيين وقتل زميلك سبعة, فكم واحدا تفوق بهم عليك زميلك؟!.
هذه الثقافة المهيمنة علي خلفية العقل الجمعي الإسرائيلي أفرزت مواقف متباينة تتراوح بين رفض الاعتراف بآدمية الفلسطينيين, هم حشرات, وثعابين عند البعض, وبين رفض الاعتراف بحقوقهم في دولتهم المستقلة والعودة إلي أرضهم التي طردوا منها.
هذا الرفض كان السبب الرئيسي في فشل محادثات السلام, التي أصرت خلالها إسرائيل علي تقنين الاحتلال وتوسيع نطاق الاستيطان والهيمنة علي المقدسات الإسلامية, الأمر الذي انتهي بإشهار العصي الإسرائيلية الأكثر غلظة في وجه الفلسطينيين, وانتخاب رجل مذابح صبرا وشاتيلا أرييل شارون رئيسا للوزراء بأغلبية65% من الاصوات, وبذلك الانتخاب بدأ فصل جديد في حياة الشعب الفلسطيني أعاد إلي الأذهان صفحة المذابح ومفردات الإبادة الجماعية. وكلما هدأت الأوضاع بصورة نسبية في الأرض المحتلة, عمد رجال شارون إلي إشعال الحريق وتأجيج المرارة والغضب. وقد بلغ التصعيد مبلغه خلال الأشهر الأخيرة حين امتدت الذراع الإسرائيلية لقتل أبو علي مصطفي زعيم الجبهة الشعبية, الذي كان أعلي مسئول سياسي فلسطيني فتكت به. ولم ترحم تلك الذراع حتي أطفال المدارس, الذين لا حول لهم ولا طول.
ظلت الظاهرة اللافتة للنظر في ذلك كله أن السياسة الإسرائيلية اختارت القمع والسحق سبيلا لإدارة علاقتها مع الفلسطينيين, وكان مثيرا في المشهد أنه كلما أوغل شارون وفريقه في الدم الفلسطيني, ازدادت شعبيته وارتفع رصيد التأييد الجماهيري له, أو علي الأقل فهذا ما تظهره استطلاعات الرأي الإسرائيلية, الأمر الذي يطرح علينا بعضا من الأسئلة الكبيرة.
(4)
هل هم مدنيون حقا؟
أدري أن إجابة السؤال تهتز في حالة الحرب, والحاصل الآن كما عبرت عنه الممارسات والتصرفات الإسرائيلية يجسد تلك الحالة بامتياز, الأمر الذي يقلص كثيرا المسافة بين المدني والعسكري. لكن الموقف في إسرائيل جاوز ذلك الحد, لأسباب كثيرة, أهمها أن المجتمع الإسرائيلي هو مجتمع عسكري بطبيعته, كل إنسان فيه حتي إذا ما بلغ سن الخامسة والخمسين, مكلف بأن يقضي شهرا كل سنة في الخدمة العسكرية وهو جندي احتياطي, تحت الطلب إذا ما دعت الحاجة, أي أنه إذا لم يكن مجندا ضمن الجيش العامل, فهو ـ رجلا كان أم امرأة ـ جندي في إجازة.
ثم هؤلاء المستوطنون الذين لا يتحركون إلا ومدافع عوزي معلقة علي أكتافهم, ويتمترسون وراء أسوار المستوطنات المدججة بالسلاح, والتي أصبحت أشبه بالقلاع الحربية, تخرج منها أسراب المهاجمين الذين يمطرون بيوت الفلسطينيين بنيران رشاشاتهم, ويحرقون زراعاتهم ويعملون علي ترويعهم, هؤلاء هل يعدون مدنيين أم عسكريين؟
من ناحية أخري هل يعد مغتصب الأرض مدنيا مسالما أم محاربا؟ حتي إذا لم يكن هو الذي قام بالاغتصاب, ولكنه استجلب من الخارج, وتملك بيتا وأرضا يعلم أنها ليست له, لكنها ممتلكات منهوبة من آخرين, هل يعفي من المسئولية عن الاغتصاب. إن القانون يعاقب من اشتري بضاعة يعلم أنها مسروقة, برغم أنه ليس سارقها, فهل يعقل والأمر كذلك أن يعفي من المسئولية من تملك أرضا يعلم أنها مغتصبة؟
علي صعيد آخر ما الرأي في قوم أعطوا أصواتهم لمجرم حرب سجله مشهور علي الجميع, ويزداد تأييدهم له وترتفع أسهم شعبيته بينهم كلما ازداد شراسة وأوغل في دم المسلمين, هل يعتبر هؤلاء مسالمين أم محاربين؟
فضلا عن هذا وذاك فمن المستقر فقها أن قتال أفراد جيش العدو واجب إذا ما وجدوا في غير أرض المسلمين, وهو أوجب وأكثر لزاما إذا ما وجدوا في أرض مغتصبة من المسلمين, يستوي في ذلك الجند المقاتلون أو الجنود الذين في الاحتياط, أو المستوطنون الذين هم في حكم جيش العدو.
ذلك قليل من كثيريرسم صورة للواقع تخرج الصراع علي أرض فلسطين من الحكم العام الذي يؤمن المدنيين ويحث علي الحفاظ علي حياتهم, ويعتبر قتل أي منهم بغير حق قتلا للناس جميعا.
(5)
هل هم أهل ذمة أم معاهدون؟
الذي نعلمه أن مصطلح أهل الذمة, قبل أن تبتذله الممارسات الرديئة, يقصد به ذمة الله ورسوله, ويتعامل مع أوضاع ما قبل استقرار فكرة المواطنة, أي في حالة وجود فئات من غير المسلمين تحت حكم الدولة الإسلامية, وهؤلاء يبرمون عقد ذمة مع الدولة التي تكفل لهم الحماية والرعاية والأمان, مقابل ولائهم ومسالمتهم ودفعهم الجزية بديلا عن إعفائهم من الخدمة العسكرية.
بهذا المعني فالإسرائيليون لا يعتبرون أهل ذمة بإطلاق, لأسباب أوضح من أن تشرح, من ثم فإنهم يخرجون من الحكم المتعلق باستحقاقات أهل الذمة, وبقي التساؤل عما إذا كانوا معاهدين أم لا؟
إذا كان لإسرائيل معاهدات مع بعض الدول العربية, فإن ما بينها وبين الفلسطينيين لا يتجاوز عدة اتفاقات ألغي الإسرائيليون بممارساتهم بعضها, بينما تنصلوا من البعض الآخر. ولم يعد سرا أن الساسة الإسرائيليين لا يشغلهم في الاتفاقات التي عقدوها إلا شيء واحد, هو تأمين مخططاتهم وتكريس احتلالهم وإضفاء الشرعية علي ذلك الاحتلال.
ليس بين الإسرائيليين والفلسطينيين معاهدات, والأفكار التي يطرحها الساسة الإسرائيليون هي نوع من الإملاء, الذي يراد به فرض حل عنصري واستيطاني للصراع, الأمر الذي يتعذر قبوله من جانب أي طرف فلسطيني يحترم إرادة شعبه, وهو ما يعني في حقيقة الأمر أن الإسرائيليين ليسوا مهيئين بعد لإقامة سلام حقيقي مع الفلسطينيين يقوم علي العدل لا القهر, ويلبي الحقوق المشروعة للشعبين.
والأمر كذلك فبوسعنا أن نقول بالفم الملآن إن الإسرائيليين ليسوا معاهدين بالنسبة للفلسطينيين, ومن ثم فكل ما قيل عن احترام حقوق المعاهدين يمكن أن ينطبق علي أي وضع آخر, غير العلاقة الفلسطينية ـ الإسرائيلية.
لست في مقام الفتوي, فذلك شرف لا أدعيه, لكني ربما كنت أقرب إلي مقام نفي الفتوي عن تصريحات المراجع الفقهية التي تابعناها في الأسبوع الماضي, حيث أكرر في هذا الصدد أن تلك التصريحات يتعذر انطباقها علي الوضع الفلسطيني ـ الإسرائيلي, وإنما هي قررت أحكاما عامة قد تنطبق علي أي وضع آخر.
أما من يريد أن يفتي في الشأن الفلسطيني, فعليه أولا أن يحاط علما بالملابسات التي أشرنا إليها, تلك التي تعد شاهدا آخر علي أن الفتوي يمكن أن تستخلص رأيا من المجتهد علي النقيض من الحكم العام الذي تقرره المبادئ المستقرة.
نعوذ بالله في هذا المقام من شر الالتباس, بقدر ما نستعيذ به في هذه الايام المباركة من شر الوسواس الخناس!(الأهرام المصرية)
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف