جريدة الجرائد

صلاح الدين حافظ : وماذا بعد عصر عرفات؟

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
باختصار يمكن القول إنه في ضوء الحرب التي أعلنتها إسرائيل طوال الأيام الماضية‏,‏ ضد السلطة الفلسطينية‏,‏ أنها قررت المضي قدما في تحقيق الهدف الاستراتيجي للسفاح شارون‏,‏ بالقضاء تماما علي هذه السلطة وهياكلها ـ وليس إضعافها فقط ـ وصولا إلي اعتصار الرئيس عرفات حتي يختنق وحيدا معزولا‏,‏ ربما دون أن تقدم هي علي اغتياله‏.‏
هكذا رأينا أن عرفات‏,‏ رمز الكفاح الفلسطيني ورأس السلطة‏,‏ محاصر في منزل صغير في رام الله‏,‏ لا يستطيع مغادرته‏,‏ لأن الدبابات الإسرائيلية تلتف حوله وتصوب مدفعيتها تجاهه‏,‏ بينما استباح الجيش الإسرائيلي بقرار سياسي علي أعلي مستوي‏,‏ قصف وتدمير كل ما يرمز إلي وجود السلطة الفلسطينية‏,‏ ابتداء من المقر الرئيسي لعرفات في غزة ورام الله‏,‏ وانتهاء بالمطار الفلسطيني الوحيد‏,‏ وطائراته العاجزة‏.‏
لكن الهدف الإسرائيلي لم يكن هو مجرد ضرب وتدمير رموز السلطة علي الأرض‏,‏ بقدر ما كان ولا يزال هو ضرب الرمز الأكبر الجالس علي رأس السلطة‏,‏ يتحكم في مجريات الأمور بمهارة اللاعب المحترف‏,‏ القادر علي التهدئة والتسخين في وقت واحد‏,‏ مهارته في إشعال الانتفاضة ونقلها من مجرد التراشق بالحجارة‏,‏ إلي المنازلة بالسلاح والرصاص الحي والهاون‏,‏ واقتحام أسطورة الأمن الإسرائيلي في العمق‏!‏
لكن التطورات الأخيرة‏,‏ ووحشية الهجوم الإسرائيلي‏,‏ في ظل التواطؤ الأمريكي والصمت العربي‏,‏ وضعت عرفات ليس فقط حبيسا في منزله برام الله لا يمكنه مغادرته حتي إلي غزة وأريحا‏,‏ لكنها وضعته في الحقيقة النهائية حبيس مأزقه التاريخي‏,‏ الذي يتنبأ البعض بأنه لن يستطيع النجاة منه هذه المرة‏,‏ كما سبق أن نجا عشرات المرات من مآزق سابقة‏.‏
مأزق الرئيس عرفات الآن هو أنه قد وقع بين مطارق الهجوم العسكري الإسرائيلي الشرس ـ الحرب الشاملة ـ التي تقضي علي كل ما بناه منذ عودته إلي غزة في ظل اتفاقي أوسلو عام‏1993‏ وعام‏1995,‏ وبين سندان الاصطدام المرير مع حلفائه وأشقائه الفلسطينيين أنفسهم‏,‏ الذين كانوا ومازالوا سنده الحقيقي‏,‏ حتي أولئك الذين يختلفون معه سياسيا أو تكتيكيا‏..‏ أي سندان الحرب الأهلية‏.‏
بين الحرب الإسرائيلية الشاملة‏,‏ والحرب الأهلية الطاحنة‏,‏ يصارع الرئيس عرفات نفسه وأفكاره واختياراته‏,‏ بعد أن ضاقت عليه الدائرة بل أغلقت عليه في لحظة هي الأصعب كما نتصور في تاريخه الممتد كفاحيا علي مدي نحو الأعوام الثلاثين‏,‏ خصوصا بعد أن انحصرت اختياراته‏,‏ بين إما وإما‏,‏ وليس هناك ـ ما يبدو ـ بديل أو اختيار ثالث‏,‏ كما تعود أن يجده في كل أزمة سابقة‏!‏
لذلك تسود أوساط إسرائيلية وأمريكية وأوروبية‏,‏ وربما عربية‏,‏ كثيرة الآن فكرة إنهاء عصر عرفات في قيادة كفاح الشعب الفلسطيني‏,‏ والبحث عن بديل‏,‏ لكن أحدا لم يخرج بعد بالإجابة عن السؤال الجوهري وهو‏:‏ ماذا بعد عرفات؟‏!‏
فهل هذا ممكن الآن‏..‏ دعونا نختبر المواقف‏.‏
‏***‏
بصرف النظر عن مدي شعبية عرفات بين شعبه الفلسطيني‏,‏ فإن هناك موقفين علي طرفي نقيض تجاه القضاء علي عرفات الآن‏,‏ بحجة أنه استنفد أغراضه وضعفت إرادته وقبضته علي مجريات الأمور‏,‏ بحكم العمر وبحكم التطورات المعقدة من حوله‏.‏
‏**‏ موقف إسرائيل الذي يقوده شارون‏,‏ ويري أن هذه هي الفرصة السانحة للتخلص من عرفات رمزا وشخصا وزعامة‏,‏ لأنه فشل في أن يلبي الشروط الأساسية للسلام للاستسلام‏,‏ وأنه أثبت عجزه‏,‏ أو هو تواطأ تجاه الراديكاليين الفلسطينيين‏,‏ أو من يسميهم شارون الإرهابيين‏,‏ وتساهل معهم وسمح لهم بالقيام بتحويل الانتفاضة من الحجارة إلي الرصاص والقنابل والسيارات المفخخة تنفجر بين وقت وآخر في عمق المدن الإسرائيلية‏,‏ علي غرار انفجارات الأسبوع الماضي في القدس وحيفا وغيرهما‏..‏ الأمر الذي لن تستطيع معه إسرائيل صبرا بعد الآن‏!‏
‏**‏ الموقف المناقض هو موقف دولة مركزية في المنطقة مثل مصر‏,‏ تقترب منه مواقف دول رئيسية أخري من أجنحة الاعتدال العربي‏..‏ وهو موقف يري أن خطة التخلص من عرفات والقضاء عليه‏,‏ تمثل خطا أحمر‏,‏ ليس فقط لأنه رمز الاعتدال الفلسطيني القادر دوما علي ضبط الموازين والإمساك بكل الخيوط في يده بحكم شخصيته وقيادته التاريخية‏,‏ بل كذلك لأن إقصاء عرفات ـ قتلا أو عزلا ـ سيشعل العنف الفلسطيني أكثر مما يتصور أحد ردا لمثل هذه الإهانة للكرامة الوطنية‏.‏
الخطورة في الأمر أنه في الوقت الذي تملك فيه إسرائيل‏,‏ سياسيا وعسكريا وماديا ومعنويا‏,‏ تنفيذ خطة إقصاء عرفات في الوقت الذي تريده‏,‏ دون أن تتعرض لمخاطر جسيمة من وجهة نظرها‏,‏ فإن الجانب العربي لا يملك سياسيا وعسكريا إنقاذ عرفات من مثل هذا المصير‏,‏ كما هو واضح الآن علي الساحة المكشوفة للجميع‏,‏ اللهم إلا من خلال الضغوط المعنوية‏,‏ سواء علي أمريكا‏,‏ أو عبر النافذة الضيقة مع إسرائيل‏,‏ علي غرار مهمة وزير الخارجية المصرية أحمد ماهر إلي تل أبيب قبل أيام‏,‏ والتي قال هو عنها إنها لإبلاغ رسالة إلي حكام إسرائيل من نتائج ما تفعله ضد الفلسطينيين‏,‏ بما في ذلك محاصرة زعيمهم عرفات وحبسه في مسكن صغير برام الله‏,‏ لا يستطيع مغادرته إلا بإذن ضابط صغير‏!‏
وبرغم وحشية شارون وتاريخه الملوث بالدماء والقتل والاغتيالات‏,‏ فإننا نعتقد أنه لن يقدم علي اغتيال عرفات‏,‏ ليس من باب التعفف‏,‏ ولكن من باب المناورة‏,‏ بتحقيق الهدف بطرق أخري تبدو أمام الجميع طبيعية وربما مقبولة‏,‏ استغلالا للضعف بل العجز العربي عن فعل شيء لإنقاذ عرفات ودعمه ومساندته في مأزقه الراهن‏,‏ وانتهازا لفرصة انشغال العالم مع أمريكا في حربها الحالية ضد الإرهاب الدولي‏,‏ التي تحتل الأهمية القصوي والأولوية المطلقة في واشنطن‏,‏ ومن ثم فإن ما يجري في الشرق الأوسط علي أهميته‏,‏ لا يشغلها كثيرا‏,‏ بل يجب ألا يشتت جهودها في الحرب علي الإرهاب‏!‏
لكن شارون ينفذ الآن خطة أكثر خبثا وقسوة‏,‏ ليس فقط لإقصاء عرفات‏,‏ ولكن أيضا لتدمير كل ما يرمز إلي احتمال قيام دولة فلسطينية حقيقية‏,‏ من بنية أساسية وكوادر وقيادات بشرية وقدرات عسكرية واقتصادية وإرادات سياسية أيضا‏.‏ فبعد أن حبس عرفات ـ القائد والرمز ـ في رام الله وقطع عنه الاتصال والتواصل حتي مع غزة‏,‏ بالشكل الذي جري‏,‏ ليفقده شرعيته السياسية أمام شعبه بحكم عجزه‏,‏ وليفقده كرامته الشخصية أمام الجميع‏,‏ يمضي في تنفيذ هدفه عبر مرحلتين واضحتين تماما‏.‏
‏*‏ المرحلة الأولي‏:‏ هي تدمير السلطة الفلسطينية ماديا ومعنويا بشكل كامل‏,‏ من أعلي إلي أسفل‏,‏ بحيث لا يبقي لها وجود حقيقي علي الأرض‏,‏ نازعا عنها كل قدرة علي المقاومة ـ حتي لا تتكرر الانتفاضة مثلا ـ بعد أن ينزع من يدي عرفات حتي أظافره التي طالما خربش بها جسد إسرائيل فأدماه‏.‏
وانظر إلي ما تفعله الصواريخ والطائرات الأحدث في العالم‏,‏ وكلها صناعة ومساعدة أمريكية لإسرائيل‏,‏ في تدمير كل ما هو فلسطيني‏,‏ من آبار الماء ومزارع الزيتون‏,‏ إلي مقار الشرطة ومخازن الأسلحة وقوات الأمن والمطار الفلسطيني الوحيد‏,‏ مرورا بمقر الرئاسة الفلسطينية المرفوع عليه علمها الملون‏!‏
‏*‏ المرحلة الثانية‏:‏ هي إجبار عرفات ورجاله الأقربين علي اتخاذ القرار الأصعب والاختيار الأسوأ‏,‏ وهو الدخول في حرب أهلية مع منظمات المقاومة الفلسطينية الأخري‏,‏ وحشره في صراع داخلي يصفي بعضهم بعضا‏,‏ ليسقط عرفات برصاص رفاقه ويسقط رفاقه برصاص أنصاره‏,‏ وتتحول دائرة الاشتباك والعنف من اشتباك فلسطيني ـ إسرائيلي‏,‏ إلي اشتباك فلسطيني ـ فلسطيني‏.‏
‏***‏
ولقد بدأت الدائرة الجهنمية تدور في ظل ضغوط متداخلة‏,‏ ونشطت السلطة الفلسطينية أخيرا في اعتقال نشطاء المقاومة‏,‏ خصوصا من حماس والجهاد والجبهة الشعبية‏,‏ بل من بين صفوف تنظيم فتح القاعدة الأساسية لعرفات‏,‏ بحجة ضبط الأمن وحماية السلطة من الانهيار ووقف العدوان الإسرائيلي الشرس‏,‏ فضلا عن الضغوط الخارجية خصوصا الأمريكية الداعمة بشكل سافر لإسرائيل ومخططها‏.‏
ويبدو أن أمريكا قد اقتنعت بوجهة نظر شارون‏,‏ ليس فقط في مساواة الهجوم الإرهابي الذي تعرضت له نيويورك وواشنطن‏,‏ بالهجوم الإرهابي الذي تعرضت له القدس وحيفا‏,‏ فإذا بالتناسق والتناغم الإسرائيلي ـ الأمريكي يبلغ مداه‏,‏ ليس فقط عبر التصريحات السياسية‏,‏ وممارسة الضغط العنيف علي الرئيس الفلسطيني ليعتقل ويحاكم الإرهابيين فورا وبشكل حاسم ونهائي‏,‏ ولكن أيضا عبر الإجراءات علي غرار ما فعلته السلطات الأمريكية أخيرا بمصادرة أموال وإغلاق مؤسسات في أمريكا بحجة تمويلها ودعمها لحماس والجهاد الإسلامي الموضوعتين أصلا علي قائمة الإرهاب‏!‏
وخلاصة الموقف الأمريكي المهموم بالحرب علي الإرهاب الدولي‏,‏ أنه لم يعد أمام عرفات إلا الفرصة الأخيرة‏,‏ حتي لو كان ثمنها الدخول في حرب أهلية مع رفاقه وأنصاره‏,‏ بينما أمام شارون أكثر من فرصة للمضي قدما في تدمير السلطة الفلسطينية واغتيال قياداتها‏,‏ وما بين الضوء الأخضر الذي أعطته واشنطن لشارون‏,‏ وبين الضوء الأحمر الذي وضعته أمام اغتيال عرفات شخصيا‏,‏ يتأرجح الموقف الأمريكي الآن‏,‏ ليحسب حساب ما بعد عرفات الذي سيسقط حتما‏,‏ ولكن بأيدي رفاقه نتيجة لحتمية الاصطدام به‏,‏ في ظل الظروف القاسية التي يعيشها ما بين مطرقة الحرب الإسرائيلية الشاملة عليه المسنودة أمريكيا‏,‏ وسندان الحرب الأهلية الفلسطينية المريرة المفروضة عليه‏,‏ والمطلوبة الآن إسرائيليا وأمريكيا‏,‏ وربما عربيا للأسف‏!!‏
وفي الحالتين يبدو الأفق ملبدا بغيوم سوداء‏,‏ لأن الخاسر الوحيد هو الشعب الفلسطيني خصوصا والصراع العربي ـ الإسرائيلي عموما‏,‏ في حين أن الرابح الوحيد هو شارون ودولته وأمريكا وصقورها‏,‏ ناهيك عن الكارهين العرب لعرفات الذين ملوا حكاية الكفاح الفلسطيني‏!!‏
وبرغم ذلك يبدو أن أحدا لم يحسب بشكل جيد ودقيق‏,‏ حقيقة الحساب الختامي لحشر عرفات بل القضية كلها في هذا المأزق الرهيب‏,‏ خصوصا قضية إقصائه قتلا أو عزلا بأيدي الإسرائيليين أو بأيدي الفلسطينيين‏..‏ إذ أنه برغم كل الملاحظات علي ممارساته عبر السنوات الطوال‏,‏ لا يزال أبرز قيادات الكفاح الفلسطيني منذ الشيخ الحسيني حتي الآن‏,‏ وهو اللاعب السياسي المحنك مهندس التوازنات‏,‏ الذي أجاد معادلة التنقل الحركي النشيط ما بين المقاومة المسلحة والمفاوضة المسالمة‏,‏ وهو كما نظن لايزال كما كان‏,‏ القادر علي ملامسة التوازن بين ألوان الطيف الفلسطيني‏,‏ من حماس والجهاد يمينا‏,‏ إلي الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية وصقور فتح يسارا‏.‏
وبرغم استسهال شارون لفكرة عزله‏,‏ الأمر الذي يلقي قبولا أمريكيا‏,‏ وربما عربيا باطنيا‏,‏ فإن خلافته ليست بمثل هذه السهولة‏,‏ خصوصا في ظل المزاج الفلسطيني الممرور من ممارسات الجميع ضده‏,‏ عربا وفرنجة‏,‏ المطحون بدبابات إسرائيل وحصارها القاتل‏,‏ لذلك تبقي خلافته محدودة ومحكومة بثلاثة احتمالات هي‏:‏
‏(1)‏ أن تتكاتف كل القوي الضاغطة إسرائيليا وأمريكيا وعربيا أيضا‏,‏ لتمكين حمائم السلطة من الحكم‏,‏ بقيادة رفاق عرفات الحاليين المعتدلين أمثال محمود عباس وأحمد قريع ونبيل شعث والرجوب‏,‏ الذين لا يتمتعون بعناد عرفات ودهائه‏,‏ لكنهم الأقرب إلي خط التسوية المطلوبة أو المرضي عنها‏!!‏
‏(2)‏ أن تقفز الأجيال الجديدة من فتح إلي المقدمة‏,‏ بحكم سيطرتها الميدانية الحالية‏,‏ وهي قيادات راديكالية بحكم السن والمعاناة والفكر والممارسة علي شاكلة مروان البرغوثي ذلك الشاب الذي أفرزته الانتفاضة‏,‏ وصار رمزا لجيلها الثوري الصاعد‏.‏
‏(3)‏ أن تتصدر الواجهة المنظمات الأكثر راديكالية مثل حماس والجهاد الإسلامي‏,‏ وربما مع الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية‏,‏ وهي الآن الواقعة بين فكي الكماشة‏,‏ اغتيالات إسرائيل لكوادرها‏,‏ واعتقال عرفات لقياداتها‏..‏ في حين تكتسب هي شعبة وأرضا جديدة كل يوم‏,‏ بفضل تصديها وتضحياتها ومقاومتها للعدوان والضغوط معا‏.‏
الأمر إذن أقسي وأمر مما يتصور الجميع‏,‏ خصوصا الذين يتهافتون علي أية تسوية وصلح‏!!‏(الأهرام المصرية)


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف