ثقافات

بائعات الدعارة المستترة

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

الـيـاس خـوري&
&&
لا ادري اذا كان من حقي كتابة هذه الاشياء. منير (ولنقل ان هذا اسمه)، روى الامور ببساطة، كمن يروي امرا عاديا في حياته اليومية. وعندما طلبت منه اعطائي بعض الصور التي التقطها رفض في شكل قاطع، وقال انه "سر المهنة".
لكن المهنة فقدت اسرارها، ولم يعد البحث عن حكاياتها يتطلب مجهودا خارقا، او عملا استثنائيا، فحكايات "الهوى" او الدعارة على الطريق، وما علينا سوى التقاطها.
لكن حكايات منير سحرتني. مصوّر فوتوغرافي في الثامنة والعشرين، مربوع القامة، يصغّر عينيه حين يتكلم معك، كأنه يحاول ادخالك في كادر موجود في خياله، ويأكل البزر الصغير، من دون ان يستخدم اصابع يديه. يضع حبة البزر في فمه، يقشرها بين اسنانه، ثم يبصق القشور في يده، وهو يتحدث بلا توقف.
عندما رآني انظر بدهشة الى طريقته في تقشير البزر، فتح كفه اليمنى وقال لي: تفضل. قلت: لا، شكرا. لكنه لم يقتنع بشكري، فأصر شارحا لي ان الفائدة الاساسية للبزر، هي مساعدته في التوقف عن التدخين.
اشعلت سجارة، وطلبت منه ان يروي لي اكثر. منير مصوّر فوتوغرافي التقى من طريق المصادفة بالسيد ج. الذي يعمل مزينا للسيدات في بيروت، ومن دكان الحلاق النسائي، مثلما نسميه، انطلقت المغامرة التي لا ينظر اليها منير في وصفها كذلك، بل يرى فيها "اكل عيش"، وبابا للرزق، لا اكثر ولا اقل.
حين سألته عن اعمار الفتيات، ومستوياتهن التعليمية، اعتقد اني اسأله عن الاخلاق، فدافع عن نفسه بطريقة لا تخلو من الطرافة، وقال ان الهدف الاسمى للاخلاق هو السترة، وان زبوناته حين يأتين الى الاستوديو من اجل التقاط صورهن، لا يبغين سوى السترة.
"سترة"! قلت.
"نعم"، قال، "واذا ابتليتم بالمعاصي فاستتروا، الا يقول الناس في كلامهم اليومي، الله يستر، والله يستر آخرتنا، هذا ما تحاوله فتياتـ (ي). يشتغلن من اجل السترة".
لم يفهم منير في البداية، اني لم اكن اقصد من اسئلتي تخجيله اخلاقيا، بل كنت ابحث عن متعة المغامرة، التي اختفت في ممارسات اقدم مهنة في التاريخ. يقولون انها اقدم مهنة، وهذا خاطىء بالطبع، اذ لا يمكن ان يكون البغاء اقدم مهنة، لأنه يفترض وجود مهن اخرى، تسمح لأصحابها بممارسته، ودفع ثمنه. لكن كلمة اقدم مهنة تدل على الطابع الاسطوري الذي أُسبغ عليها، من "المومسات المقدسات" في حضارة ما بين النهرين القديمة، الى "مدام كلود" في الحضارة الغربية الحديثة. بالطبع يجب ان لا نهمل الطابع السحري الذي ارتسم من حول مومسات مصر ولبنان في الزمن الحديث والمعاصر. فصور كوتشوك هانم في مصر، وعفاف في بيروت، وصولا الى ماريكا اسبريدون، دخلت المتخيل الجماعي واستقرت فيه، بوصفها حكايات تحمل الجمال والمأساة والتحدي.
لم ارد من حواري مع منير، ان ابدو كأني غارق في نوستالجيا زمن مضى، بل كنت في الحقيقة ابحث عن الشكل الجديد الذي تتخذه الدعارة في لبنان،& وربما في العالم بأسره، في زمن ما بعد الحداثة.
الاسطورة التي تشكلت من حول هؤلاء النسوة، جاءت من اجتماع ثلاثة عناصر:
العنصر الاول، عنصر السحر الادبي، وربما الاستشراقي، الذي عبرت عنه علاقة الكاتب الفرنسي فلوبير براقصة، او "غازــية" بلغة القرن التاسع عشر، التقى بها في اسنا في صعيد مصر، واستوحى منها مشهدا في روايته "تجربة القديس انطونيوس" La Tentation de St. Antoine عندما تقترح ملكة سبأ على القديس ان ترقص له رقصة النحلة.
كوتشوك هانم ادخلت هذه الرقصة الداعرة في الادب العالمي: تقوم الراقصة بادعاء وجود نحلة بين ثدييها، فتبدأ في التأوه، ثم تحاول القبض على النحلة التي تتسلل الى داخل جسمها، مما يضطرها الى خلع ثيابها، في مزيج من الرقص والتعري الذي ينتهي بممارسة الجنس. فلوبير افتتن بالراقصة المصرية وبحكايتها، وهو في ذلك ليس الكاتب الاول ولا الاخير، الذي استهواه هذا العالم السفلي بكل تناقضاته وتراجيديته.
الشيّق في حكاية كوتشوك هانم هو مأساتها ومآسي جميع غوازي مصر، زمن محمد علي، الذي اصدر قرارا بطردهن من القاهرة والاسكندرية عام 1836 الى صعيد مصر.
الاقتراب من السلطة ثم معاناة المنفى، كان مصير راقصة النحلة، التي قدمت الصورة الاولى للفنانة - المومس، في الثقافة العربية الحديثة.
العنصر الثاني، الجانب الفضائحي، الذي جسدته في تاريخ لبنان الحديث، امرأة عُرفت باسمها الاول: عفاف. وفضيحة عفاف التي فجّرها المحامي والصحافي اللبناني الراحل فكتور خوري على صفحات مجلة "الحوادث" عام ،1956 هزت الوسط السياسي اللبناني، الذي تورط في دعارة "رفيعة" المستوى، منحطة الاساليب، كانت الثغرة الاولى في عهد الرئيس كميل شمعون، والفضيحة التي سبقت حوادث .1958
العنصر الثالث، الجانب السحري - الغامض، الذي جسدته سيدة مومسات لبنان، ماريكا اسبريدون، عبر نجاحها في خلع الاسم عن المسمى. فصار اسم ماريكا، لا يدل على امرأة في عينها، بل على المهنة بأسرها.
وماريكا، اليونانية الاصل، كانت سيدة شارع المتنبي او سوق البغاء الرسمي في بيروت، ويقال انها كانت تذهب الى قداس يوم الاحد في الكنيسة الارثوذكسية، وانها اهدت احدى اجمل الثريات الى الكنيسة، لكن الحرب دمرت شارع المتنبي ودمرت معه ثريا السيدة ماريكا التي ماتت وحيدة ومعزولة في فرن الشباك، في منزلها الصغير، ولم ينتبه احد الى نهايتها.
عندما درس سمير خلف، مع مجموعة من طلبة الجامعة الاميركية في بيروت الستينات احوال السوق العمومي، واصدر كتابه الرائع: "البغاء في مجتمع متغير"، كانت احوال السوق الى انحدار. فهذا المكان المغلق على الطريقة العثمانية، بدأ يتلاشى بسبب القوانين التي منعت تجديد العاملات فيه. وبسبب خروج الدعارة من الدائرة المقفلة واحتلالها ليل بيروت الستينات، الذي صنعه "ملوك ليل" يمزجون على الطريقة الحديثة، بين البغاء والمخدرات والجاسوسية.
كنت اعلم، وانا استمع الى منير، اني لن اجد صدى للاساطير القديمة التي احتلت مخيلة شبابنا المبكر. فالحرب جاءت لتحطم جدران الليل البيروتي، قبل ان يأتي زمن السلام المليء نفطا وقمعاً، ويقوم بادراج المهنة في سياق جديد، سوف تبيّن لنا ملامحه، ان غموضه الواضح، لا بد ان ينتج شخصيات درامية لا تزال مختبئة الآن في زوايا الحكاية التي لم تُحكَ.
لكن قبل ان اعود الى المصور منير، وحكايات صوره، اريد ان اشير الى تحقيق حاولت القيام به في اواخر السبعينات، اي في عز الحرب، عن الدعارة والحرب، حين اكتشفت شبكات جديدة للدعارة، تديرها قوى الامر الواقع، (هكذا كنا نسمي الاجهزة الامنية التابعة للميليشيات)، وتقوم على تشغيل فتيات قاصرات في ما يمكن ان نطلق عليه اسم نصف دعارة، مستعيرين عنوان فيلم السيد بدير، "نصف عذراء" (1961)، التي شاركت في بطولته زبيدة ثروت.
نصف الدعارة تقوم على شبكة من فتيات المدارس اللواتي كن يمارسن المهنة كهواية، بينما يديرها قوادون محترفون.
اما شكل هذه الدعارة فينقسم نصفين:
النصف الاول ان الفتاة لا تأتي الا بعد الظهر، وعلى الزبون ان يدبّر المكان، وعليه ايضا ان لا يسأل عن اسم الفتاة او يطلب موعدا معها، فالمواعيد يجب ان تمرّ عبر القواد، والا تعرضت حياة الزبون للخطر.
النصف الثاني ان عددا كبيرا من الفتيات كن عذراوات، ويصررن على البقاء كذلك، اذ لم تكن قد شاعت بعد موضة رتق العذرية عبر جراحة صغيرة، صارت اليوم اكثر سهولة من شرب الماء. لذلك كان على الزبون ان يكتفي بالملامسة، والعلاقات الشفهية، وكان عدد قليل من الفتيات يرضى بالسودمة. اما الاسعار فكانت بين 15 و25 ليرة لبنانية، اي بين 5 و8 دولارات بأرقام هذه الايام.
بدأت هذا التحقيق، واكتشفت العجب، لكني توقفت عن متابعته، ليس خوفا من قوى الامر الواقع، والعياذ بالله، ولكن بحثا عن السترة، في زمن الحرب الذي تمزقت فيه كل الستائر.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، كما قالت العرب، فان كلام المصور منير عن "السترة"، ذكّرني بمحاولتي الفاشلة للتقصي عن الدعارة في زمن الحرب، فقلت في نفسي اني سأكتفي من بحثي الحالي بما سيخبرني به هذا المصور البندوق، الذي يعتقد ان الحياة لعبة فهلوية لا اكثر ولا اقل.
قال منير انه بريء، وانه عرف ما يجري من طريق المصادفة. كل ما في الامر، ان المزيّن ج، صديقه، طلب منه ان يصوّر بعض الفتيات في شكل طبيعي ومن بوزات عدة، اي انه يريد ان يظهر جسم الفتاة ايضا، لا ان يكتفي المصور بتسريحات الشعر الجميلة التي يصنعها ج.
"لم اسأله لماذا"، قال منير: "كان يرسل لي حوالى عشر فتيات اسبوعيا، وكنت اقوم بتصويرهن بحسب الطلب، من دون ان آخذ واعطي معهن. فالفتيات، كما بدون لي، كن بنات عائلات وطالبات جامعيات وعارضات ازياء. كنت اكتفي بأن اقوم بعملي من اضاءة وديكور ومؤثرات، وارسل الصور الى ج، واقبض الثمن".
قال منير انه شعر بأن هناك "إن" في الموضوع، لذلك طالب بزيادة في الاجر، ووافق ج. من دون اعتراض، مما زاد في شخشبته، الى ان ظهرت سهام، وهذا ليس اسمها الحقيقي بالطبع.

"ماذا جرى لسهام؟"، سألته، وانا اعتقد اني وقعت على حكاية. لا بد انه وقع في غرامها، وبدأت الغيرة تأكله، وتطورت الامور، او هي في طريقها الى التطور، بحيث سوف تقود الى احداث مثيرة، وما الى هنالك.
لكن شيئا من هذا لم يحدث.
قال منير ان سهام جاءته للمرة الثانية من اجل ان يلتقط لها صورا بلا موعد. في العادة، يرتّب ج، المواعيد للفتيات، اما سهام فجاءت وحدها وطلبت من المصور ان يساعدها على تغيير شكلها وماكياجها قبل ان يلتقط لها صورا. "وعندما سألتها شو القصة"، اخبرني وانفتحت عيناي على الحقيقة".
سهام، مثلما فهمت، كانت قد ذهبت في رحلة فاس، ثم توقف الشيخ الخليجي عن استدعائها، وهي تعتقد ان هناك مؤامرة حاكتها ن. القوادة الاساسية التي يتعاون معها ج، بالاشتراك مع الفنانة ك، وهي مطربة درجة ثانية او ثالثة.
قالت سهام ان المطربة خافت منها، لأنها غنت ورقصت وسحرت قلب الشيخ حمد، لذلك قررت عدم ارسال صورها، وهي سوف تسربها الى ج. من دون علم القوادة.
الحكاية اذاً متشعبة، فهناك الصور، ثم هناك السفر، ثم الرقص والغناء قبل الوصول الى الموضوع.
قال منير انه صوّرها، وارسل الصور الى ج، لكنه لم يرها بعد ذلك، غير ان الحكاية اتضحت في رأس المصور، مما جعله يتفنن في الصور، ويأخذ من الفتيات اكرامية اضافية، من اجل تقديم عناية خاصة للصورة.
المسألة اذا بسيطة وواضحة:
دور المزين هو اغراء الفتيات بأخذ الصور وبالسفر ليلة او ليلتين للقاء شيخ او امير خليجي، وهذا يتم في الغالب في احدى مدن المغرب الاقصى، بعيدا عن عيون الرقباء.
القوادة ن، وهي تعمل في حقل التجميل، ترسل الصور الى الشيخ او الامير الذي ينتقي من بينها سبع فتيات، يتم تسفيرهن بالطائرة درجة اولى الى المدينة المذكورة، حيث يذهبن مباشرة الى قصر موجود في احدى الضواحي الراقية.
المطربة، تسافر مع تخت صغير، من اجل احياء ليلة عامرة، تلعب فيها الفتيات دور الغواية، عبر الرقص وما شابه في حين يضفي الغناء جوا خاصا على السهرة. الشيخ او الامير، يكون الرجل الوحيد في السهرة، وفي نهايتها ينتقي فتاة واحدة يقضي معها الليل. جميع الفتيات يتقاضين مبلغ 2000 دولار اميركي، ما عدا الفتاة التي وقع الاختيار عليها، فهي تتقاضى بحسب كرم الشيخ او الامير وبحسب ادائها، وقد تصل اكراميتها الى 10 آلاف دولار وهو المبلغ نفسه تقريبا الذي تتقاضاه المطربة.
وفي الصباح تعود المجموعة الى المطار كي تسافر الى بيروت.
سألت منير عن الفتيات، فقال "والله بنات عيل يا استاذ، اكثريتهن طالبات جامعيات او عارضات ازياء، ويتكلمن الانكليزية والفرنسية".
وماذا يجري مع الفتاة التي يختارها الشيخ؟
"لا شيء يا استاذ، كبّر عقلك، بتتحمم وبترجع عند اهلها او عند زوجها وهكذا".
ما هو الهكذا؟ سألته.
"الهكذا، هو انه تصدير، اعتبرها مصدرا للدخل القومي، شو فيها؟".
لم افهم ماذا يجري بالضبط، قلت لمنير.
"شو بعرفني"، قال.
"يعني لمن بيرقصوا بيلبسوا بدلات رقص شرقي"؟
"شو هالحكي المتخلف"، جاوبني "بيرقصوا مودرن، اكيد شوية رقص عربي وافرنجي وهز بطن والى آخره بس رقص مودرن".
"يعني متل فيفي عبده"؟ سألته.
"لا يا استاذ، هيدول مش رقاصات، هيدول شرا...".
وعندما رأى منير علامات الشك في عينيّ، اراني مجموعة كبيرة من الصور لفتيات في اوضاع مختلفة، يلبسن بنطلونات او فساتين قصيرة، ويضعن على وجوههن مسحوقا يميل الى البياض، بحيث بدون متشابهات.
التفت كي اسأله عن سر التشابه، فأجابني عن سؤال آخر، قال ان الزبائن يركزون على الوجه كثيرا، ويحبون الفتيات البيضاوات، لذلك يقوم ج. بعملية تبييض للوجوه تجعل من الجميع جميلات ومتشابهات.
قال منير ان كلام سهام غيّر نظرته الى الامور، " لم اعد مجرد مصور فوتوغرافي، بل صرت شريكا خفياً في العملية".
حدثني عن فتيات يبقين عذراوات، لأن السودمة شائعة في حالات كهذه، ثم روى عن شيخ لا يحب استخدام الواقي الذكري وعن معاناة السيدة د. وهي سيدة متزوجة عادت الى لبنان من رحلة الى احدى امارات النفط في الخليج، وهي تحمل مرضا جنسيا عابرا، قادها الى الطلاق من زوجها، الذي شك في علاقتها بأحد اصدقائه، فما كان من المرأة سوى تأكيد الشك خوفا من افتضاح امرها، وهكذا اقامت شبه علاقة مع الصديق، ووصلت الى الطلاق واصبحت شبه محترفة.
الجو العام ليس احترافيا، رحلة او رحلات عدة قصيرة الى بلد شقيق، وتستطيع الطالبة او عارضة الازياء حل مشكلتها المادية، هذا كل ما في الامر، اكد منير "انها ليست دعارة حقيقية، انها هواية".
قال منير ان مركزي الاستقبال الكبيرين لهذا النوع من الانشطة هما المغرب الاقصى وامارات الخليج. "يعني من المحيط الى الخليج يا استاذ". "ولكن ماذا عن الاستهلاك هنا في لبنان؟" سألته.
قال المصوّر انه لا يتعاطى مع هؤلاء الفتيات لأن جوهن مختلف، هو يفضل المحترفات اللواتي يعملن في السوق المحلي، وهؤلاء اسعارهن بين 30 الفا و100 الف ليرة لبنانية، وهن متوافرات بكثرة، اما عن طريقة الهاتف، او عبر التقاطهن في الطريق.
وبدأ يروي عن امرأة في السابعة عشرة، وعن فتاة التقى بها على الطريق الساحلي بين طرابلس وبيروت، وعن بيوت عادية تسكنها عائلات تأخذك الفتاة اليها لمدة ساعة من الزمن لقاء اجر معلوم، وعن علاقات توحي كأن الدعارة لا تقف عند حد.
وهنا بدأت اشك في كلامه، لكنه اقترح عليّ ان اذهب معه الى احدى الشاليهات، بعد ان نكزدر بالسيارة ونلتقط فتاتين، وروى كيف ان التقاط الفتيات يتم في العادة من طريق الاوتوستوب، وان المسألة لا تحتاج الى ذكاء. تركب معك الفتاة فتسألها الى اين، فتقول "لقدام شوي"، عدم تحديد المكان هو الكلمة السرية، انها مفتاح المفاوضات حول السعر والمكان والى آخره...
سألته، ولكن لماذا، وهو يعمل مع فتيات جميلات ويستطيع لو اراد.
قال انه لا يحب ان يمزج العمل باللهو، "الشغل شغل، انا بشتغل مصوّر عند الخواجه ج، ولمن بدي انبسط، بروح بشوف طريقي، شو انا امير؟".
ثم حدثني عن امرأة لبنانية متزوجة عمرها 23 عاما، تسكن في مدينة ساحلية وتتحدث دائما عن زوجها الذي يرافقها في السيارة، عندما تقوم بايصال الفتيات الى المكان المطلوب، وفتياتها بين السابعة عشرة والتاسعة عشرة، بعضهن عذراوات، متعلمات، ولا شيء فيهن يدل على المهنة، واسعارهن تبدأ بمئة الف ليرة وما فوق، وهن لا يقضين مع الزبون اكثر من نصف ساعة. العملية بأسرها تجري عبر الهاتف الخليوي، تتصل بالمرأة فتحدد لك موعدا وتجلب لك الفتاة بسيارتها.
"ومن يحمي هذه الشبكات"؟ سألته.
"ولو يا استاذ، الذي يحكم الليل يحكم النهار، الا تعرف هذه الحقيقة".
"وماذا عن مكاتب التدليك"، سألته:
ابتسم وقال انه لا يعرف شيئا عنها، كما لا يعرف عن واقع الروسيات البيض والبولونيات اللواتي يأتين للعمل في لبنان لفترات محدودة.
"ولكن لماذا نستورد ما دمنا نصدر؟" سألته.
هنا، قال منير انه مشغول جدا، وقال ان عليه ان يذهب الآن، رافضا اعطائي ولو صورة واحدة من مئات الصور التي يمتلئ بها الاستوديو.

* * *

الصورة التي قدمها لي هذا المصور، لا تبدو شبيهة بالصورة الخيالية التي رسمتها عن عالم الدعارة في لبنان. فالاشياء هنا باهتة، حتى صور الحفلات في القصر المغربي، او صور الذهاب الى فنادق في دول الخليج، لا تثير الخيال. انها تعبير عن جنس محض، وعن دعارة عابرة.
يستطيع المراقب ان يميز في دعارة اليوم، ثلاثة اشكال رئيسة:
1- دعارة التصدير:
وهي كانت منذ بدأ الذهب الاسود يتدفق في الصحارى والفيافي. يقال، والله اعلم، ان متعهدها الاول، وكان زعيما سياسيا مرموقا، بنى ثروته على تجارة الرقيق الابيض. اذ كان يتم تصدير الفتيات وربما الفتيان ايضا، للعمل في الخدمة المنزلية وما شابه غير ان هذا النوع من الرقيق تلاشى كليا مع بروز المنافسة الآسيوية، التي استولت على هذا القطاع برمته. وهناك الآن في الامارات العربية، مثلا، بيوت للتدليك، يديرها آسيويون وآسيويات من جنسيات مختلفة. الصيغة الجديدة اللبنانية تقوم على دعارة شبه محترفة، يشترك فيها محترفون وهواة، وتقوم على العالم النوعي: عارضات ازياء، طالبات جامعيات، وتتم عبر رحلات منظمة لا تستهلك سوى اوقات قليلة. لذلك فان عمل الهاويات "لا غبار عليه" هنا، لأنه يصير في البداية على الاقل، محاولة لجمع المال ثم ينتهي الى حيث لا ندري.
القوادون والقوادات في هذا القطاع، ينتمون في غالبيتهم الى "النخبة" الاجتماعية: مزينون، فنانو تجميل، الى آخره...
العمل في قطاع التصدير، يراوح بين الممارسة الجنسية الكاملة وما يشبهها، لكنه لا يؤثر على المواقع الاجتماعية للفتيات، لأنه يتم في شكل عرضي.
&
2- دعارة الاستيراد:
وهي الدعارة المرتبطة بالاستيراد من دول المنظومة الاشتراكية السابقة. اذ يبدو ان سقوط جدار برلين لم يكن ايذاناً بولادة نظام عالمي احادي القطب فقط، بل كان بمثابة قنبلة جنسية انتشرت شظاياها في العالم بأسره. والملاهي الساحلية من المعاملتين الى آخره تمتلئ بفتيات روسيات واوكرانيات وبولونيات.
صديقي المصوّر روى لي تجربة شخصية مع احداهن، وكانت تجربة صداقة مثلما قال. تذهب الى الملهى وتعلن رغبتك باحدى الفتيات عبر فتح قنينة شمبانيا. لا وجود للشمبانيا في الغالب، لكن يسجل على الفاتورة رقم مئة دولار، فيأتي المسؤول ويسألك من تريد، ثم يجلب الفتاة لتجلس معك ساعة واحدة فقط، لا شيء فيها سوى الثرثرة، ثم بعد ذلك كل واحد بشطارته. وعندما سألته ما معنى الشطارة، قال "يعني لازم تعزمها لبرّا، وبعدين بتتفق معها وممكن يمشي الحال".
سوف نلاحظ في باب الاستيراد غيابين كبيرين:
الغياب المصري، الذي صار نادرا جدا، بسبب الاوضاع الامنية ربما. والغياب اليوناني الذي صنع مجد بيروت الغابر، عبر يونانيات محليات او مصريات او قبرصيات. ويبدو ان هذا الغياب الثاني هو نتيجة لتحولات جذرية في بنية الدياسبورا اليونانية التي انهارت في الاسكندرية بعد حرب ،1956 بعدما سبق لها ان انهارت في اسطنبول، بعد التبادل السكاني الشهير في الثلاثينات.
لا اعلم اذا كان من المنطقي وضع شبه الدعارة او الاعتداءات الجنسية الدائمة على الخادمات السري لانكيات في خانة الاستيراد، ام يجب وضعه في خانة العمالة الاجنبية، كما لا ادري كيف يمكن تصنيف المومسات السوريات المنتشرات في الشمال وخصوصا في مدينة طرابلس.
&
3- الدعارة المحلية:
هي اكثر اشكال الدعارة بؤسا وفقرا. تتوزع بين البيوت المحمية والشوارع وبعض الاماكن والاحراج المعزولة.
البيوت المحمية، لا نعلم شيئا عنها وحتى وإن علمنا فلن نكتب، لأننا نبتغي السترة لأنفسنا وللفتيات المستورات ولمن يسترهن... لكن لا بد من الاشارة هنا الى اختلاط الاجواء وامحاء الفروق، بحيث نجد ان ما يسمى الوسط الفني، ونعني به الوسط الذي انتج في استوديوهات تفقيس النجوم، قد لا يكون بعيدا عن مناخات هذه البيوت. اما دعارة الشوارع فهي الاكثر شيوعا والارخص سعرا والاكثر اثارة للشفقة. تلم الفتاة من الشارع وتبدأ في التفاوض معها داخل سيارتك، فيهبط السعر كثيرا حتى يصل في احيان كثيرة الى حدود العشرين الف ليرة لبنانية فقط لا غير. وهنا يستطيع الزبون اختيار المكان والطريقة.
فاذا اراد مكانا عليه تدبيره، او دفع اجرته، اما اذا آثر السيارة فان الفتاة سوف تقوده الى اماكن تعرفها، وهناك يختار بين اصناف الممارسة: الجنس الكامل وسعره مرتفع، الجنس الفموي وقد يكون اكثر ارتفاعا، او الجنس اليدوي وهو الارخص والاسلم عاقبة.

* * *

اريد ان اعترف، ان منير كذب عليّ. اراني صورا واقنعني أنه مصور وهذا ليس صحيحا. انا اعتقد انه قواد محترف، ولم تكن حكاية الصور سوى وسيلة من اجل ابهاري. اذ يبدو لي ان انواع الدعارة المختلفة تتقاطع في اشخاص شبه مثقفين يشبهون منير هذا، ويستطيعون التنقل داخل& مستوياتها المختلفة، بحسب مقتضيات الظروف.
لم اسأل منير من يحمي هذه الشبكة المعقدة من العلاقات والصفقات المالية، اذ لا شك ان انحطاط الدعارة مرتبط بالانحطاط العام في المجتمع. فأمراء الدعارة امتداد لأمراء الحرب والسلام، الذين يتصرفون كالاغنياء الجدد، متكلين على انعدام الذوق عند زبائنهم.
هنا تذكرت المرحوم حبيب ابي شهلا، احد ابطال الاستقلال، الذي يرتفع تمثاله على مستديرة مار الياس، شاهدا لزمن مضى برجالاته ومتعه وتسلياته وعلاقاته الجنسية. تذكرت كيف كان ذلك الرجل رائد الموت بين ذراعي سيدة اجنبية عشقها. وكيف صار موته علامة لا تنسى، تضاف الى مجد العشق، الذي يتبهدل اليوم في الطائرات التي تحوم كالذباب فوق مطارات امارات النفط. (عن "النهار").

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف