جريدة الجرائد

فاروق جويدة : العرب‏..‏ والخطايا العشر

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
&
علي امتداد الأيام الأخيرة‏,‏ كان هناك سؤال يلح علي كل إنسان عربي ونحن نتابع ما يجري حولنا‏..‏ هل أخطأنا في حساباتنا‏,‏ وعلينا الآن أن ندفع جميعا ثمن هذه الأخطاء‏,‏ كان ياسر عرفات الزعيم العربي ورمز القضية الفلسطينية مسجونا في غرفتين‏,‏ وكانت الدبابات الإسرائيلية ترتع في كل مكان في الأرض الفلسطينية‏..‏ وكانت الغطرسة الإسرائيلية حديث العالم كله شرقا وغربا‏..‏ وقبل هذا كله كان الموقف الأمريكي الغريب والمريب في وقت واحد‏..‏ ووسط هذا كله إحساس بالحزن والكآبة في كل بيت عربي لما وصل إليه حالنا‏,‏ فقد هانت علينا أنفسنا‏..‏ فكانت علي الناس أهون‏..‏ أو بمعني آخر كانت علي شارون أهون‏..‏
وسط دوامات الحزن دار في رأسي سؤال لا أشك لحظة في أنه كان حديثنا جميعا مع أنفسنا‏,‏ قبل أن يصبح حوارا بيننا وبين الآخرين‏..‏
لقد كانت أحاديث السلام والأمن والاستقرار هي الحلم الذي عاش عليه جيل كامل من شبابنا‏..‏ حاولنا في السنوات الأخيرة أن نقنع أنفسنا ونقنع أبناءنا بأن الحروب انتهت‏,‏ وأن السلام هو الخيار الاستراتيجي الذي اختاره العرب طريقا بعد سنوات من الصراع العربي ـ الإسرائيلي‏..‏
ولم يكن غريبا أن تتغير مفاهيم كثيرة‏..‏ وتتبدل مواقف وتتغير أساليب‏..‏ كان هذا كله نتيجة طبيعية لمقدمات ربما اكتشفنا الآن أنها جميعا كانت خاطئة‏..‏
فهل أخطأ العرب عندما اختاروا السلام طريقا سواء من وقع اتفاقيات سلام‏,‏ أو من تفاوض من أجله‏,‏ أو من سعي إليه ولو علي استحياء‏..‏ هناك دول عربية وقعت اتفاقيات سلام مع إسرائيل هي مصر والأردن‏..‏ وهناك السلطة الفلسطينية تفاوضت في أوسلو ومدريد وكامب ديفيد‏,‏ ووقعت اتفاقيات مبدئية في مسيرة السلام وقعها عرفات مع رابين‏.‏
وما بين الأحلام والحقيقة‏,‏ كانت هناك ظلال كثيفة تحولت مع الوقت والتحايل والمناورات من جانب إسرائيل‏,‏ إلي دخان كثيف بطعم البارود ولون الموت وأشباح الدمار‏..‏ فهل تجاوز العرب في أحلامهم أم أخطأوا في حساباتهم؟
‏*‏ هل أخطأنا عندما فتحنا أسواقنا للسلع الإسرائيلية في العالم العربي‏,‏ سواء كان ذلك في السر أو العلن‏,‏ وبدأنا نتحدث عن تعاون مشترك وشرق أوسطية‏..‏ وسياسة تطبيع‏..‏ وتعاون في الإنتاج والتصدير‏..‏ وأفواج سياحية‏..‏ سواء كانت سياحية أو تجسسية‏..‏ الله أعلم‏..‏ كانت هناك مؤتمرات في المغرب وفي الدوحة حول التعاون المشترك بين العرب وإسرائيل في ظل السلام القادم‏..‏ وكانت هناك مكاتب تجارية تعقد الصفقات وتخطط لمستقبل أوسع من التعاون‏..‏ فهل كانت هذه المكاتب مراكز تجارة حقا؟‏..‏ وهل جاء السياح إلي بلاد العرب ليشاهدوا آثارها أم ليرصدوا أشياء أخري أهم وأخطر‏..‏ ومن أين جاءتنا كل هذه الثقة لكي نغلق كل صفحات الدم والعداء والحرب والكراهية لنفتح صفحات جديدة للتعاون المشترك والسلام العادل‏..‏ هل كان ذلك ضلال أحلام‏..‏ أم خطايا حسابات أم ثقة في غير أهلها؟‏.‏
‏*‏ هل أخطأنا عندما تصورنا أن كل أوراق اللعبة في يد أمريكا‏,‏ وتخيلنا أن هناك بلدين مختلفين هما إسرائيل وأمريكا‏,‏ ثم اكتشفنا أننا أمام كيان واحد لا نعرف من منهما يحرك الآخر‏,‏ وأن الفرق في الأساليب أو الحيل أو ادعاء الصداقة؟‏..‏
هل أخطأ العرب عندما فتحوا بلادهم للقوات الأمريكية‏,‏ التي جاءت ولم تخرج‏,‏ رغم أنها جاءت تحت دعاوي الأمن والحماية‏..‏ وهل كان من الصعب علينا أن ندرك أن الفرق بين أمريكا وإسرائيل شيء رسمناه في خيالنا وصدقناه‏..‏ إن القوات الأمريكية الآن في أكثر من بلد عربي‏..‏ فهل أدركنا خطورة ذلك‏..‏ وهل تصورنا يوما أن قرار المجيء ربما كان سهلا‏..‏ وأن قرار الخروج هو المستحيل‏..‏ فهل كان ذلك من باب الأخطاء أم كان سوءا في التقدير؟‏.‏
‏*‏ هل أخطأنا عندما فتحنا الباب لأطراف أخري لكي تتدخل في شئوننا أمام صراعاتنا التي لا تنتهي‏,‏ والتي وصلت بهذه الأمة الي ما هي فيه الآن‏..‏ كانت حرب العراق وإيران بابا للتدخل‏..‏ وكان اجتياح العراق للكويت فرصة للتدخل‏..‏ وكانت مذابح لبنان غنيمة لأطراف كثيرة‏..‏ وكانت مجاعات الصومال فرصة ذهبية‏..‏ وكانت مأساة جنوب السودان لعبة دولية‏..‏ ثم جاء مسلسل العقوبات الدولية علي العراق وليبيا والصومال والسودان‏..‏ ولم يتعلم أحد من رأس الذئب الطائر‏..‏ لم تكن الخسارة في ذلك كله خسارة قرار أو سيادة‏,‏ بل هي أموال شعوب نزفت بالبلايين وملأت خزائن الآخرين وتركت الفقر والجوع لشعوبنا‏.‏
‏*‏ هل أخطأنا عندما أهملنا مشروعات الوحدة الاقتصادية والتنمية العربية وسربنا أموالنا ومدخراتنا إلي بنوك الغرب‏,‏ وبلادنا أحوج ما تكون لكل دولار منها‏..‏ هذه الأموال التي كانت كل يوم تتناقص أمام أسعار العملات الدولية ارتفاعا أو هبوطا‏..‏ وكانت تتقلص في البورصات العالمية أمام الكوارث الكبري ابتداء بكارثة دول شرق آسيا منذ سنوات‏,‏ وانتهاء بأحداث سبتمبر الدامية‏..‏ ألم يكن الأولي أن تبقي أموالنا في بلادنا تشارك في تنميتها ومواجهة مشكلاتها وتشغيل شبابها وزيادة إنتاجها‏..‏ وقبل هذا كله حرية قرارها؟‏.‏
‏*‏ هل أخطأنا عندما شغلنا أنفسنا بصراعات شكلية وقضايا سطحية‏,‏ وتركنا أهم قضايا العصر وهي تحديث الفكر والإنتاج والإرادة‏..‏ إن ما حدث في الصين والهند ودول شرق آسيا‏,‏ يؤكد أننا اخترنا الطريق الخطأ‏,‏ فقد كان الأولي بنا أن نسعي إلي تحديث صناعاتنا والاكتفاء بانتاجنا‏,‏ وبدلا من أن نصبح سوقا لإنتاج الآخرين كان ينبغي أن نضع برامج متكاملة للبناء والتطوير‏..‏ إن دول شرق آسيا حتي الصغيرة منها وعلي رأسها كوريا‏,‏ تنافس الدول الكبري في إنتاج السلاح والتكنولوجيا الحديثة‏..‏ فهل كانت أمة المائتين وخمسين مليونا أقل من كوريا حتي لا تؤمن احتياجاتها من الطعام والدواء والأمن‏.‏
‏*‏ هل أخطأنا عندما تركنا شباب هذه الأمة بلا قضية‏,‏ غير أن نردد له أغنيات السلام وأحلامه وتركناه ضائعا بين أفلام مادونا وأغاني جاكسون والمخدرات والشم وأفلام الدعارة الأمريكية‏..‏ وسقط شبابنا ما بين الانحلال والتطرف‏,‏ ولم نستطع أن نوفر له المناخ المناسب في الثقافة والفكر والتعليم فكانت كارثة الإرهاب التي شوهت أجيالنا في الداخل وشوهت صورتنا في الخارج‏..‏ لقد سقطت معظم القضايا العظيمة في وجدان الشباب العربي ابتداء بقضايا الانتماء وانتهاء بقضايا الثقافة والمعرفة والتاريخ‏..‏ إن هذه الأجيال هي التي ستحمل مسئولية الغد حربا أو سلاما‏..‏ فهل وضعناها علي الطريق الصحيح في هذا أو ذاك؟
إن صورة الأجيال العربية الجديدة تحتاج الي دراسة لكل ظواهر الخلل التي يعاني منها واقعنا الجديد‏..‏ فكر ضائع‏..‏ وفهم مشوه للدين‏..‏ وفنون ساقطة‏..‏ وسلوكيات غريبة‏..‏ وإذا سألت يقال لك إنها أثواب الحضارة‏..‏ وما هي بحضارة لكنها أمراض أصابت شبابنا في الأخلاق والسلوك والفكر‏!.‏
‏*‏ هل أخطأنا عندما تصورنا أن السلام قادم‏,‏ فكان دعاة السلام في كوبنهاجن‏..‏ ومحاولات التطبيع التي سعت إليها بعض مواكب المثقفين واتهمنا كل من كان يدعو للفهم والتروي وعدم الهرولة بأنه لا يفهم في السياسة وقراءة المستقبل‏..‏ لقد سارعت مواكب كثيرة وغنت للسلام وحلمت به‏..‏ فهل أخطأنا في ذلك حيث كان ينبغي أن ندرك أننا نتعامل مع عصابة عنصرية استعمارية وأننا وقعنا في هذا الخطأ من خلال أطراف كثيرة رسمية وغير رسمية‏..‏ وأن علينا أن نعيد الحسابات ونراجع المواقف‏.‏
‏*‏ هل أخطأنا عندما انقسمت صفوفنا وتشرذمت قضايانا‏,‏ ووجدنا أنفسنا حينا نقود مواكب يسارية‏..‏ وأخري رجعية‏..‏ وثالثة أصولية‏..‏ ورابعة للعولمة‏,‏ ونسينا وسط هذا كله أن ثقافتنا مستهدفة وأن جذورنا التاريخية والحضارية تواجه مؤامرة كبري يقودها إعلام جبار‏..‏ وتكنولوجيا متقدمة‏,‏ وأن الهدف من ذلك كله هو تشويه هويتنا وقطع جذورنا حتي يجد الطاغوت فرصته في أي لحظة للانقضاض علينا بثقافاته الطاغية وسلوكياته الغريبة وأفكاره السامة‏.‏
إن المعارك التي دارت بيننا في الفكر والثقافة كانت جميعها أبعد ما تكون عن واقعنا الحقيقي‏,‏ فهل كان المطلوب هو شغل الناس بالتفاهات حتي يسهل اقتلاع الجذور الحقيقية‏,‏ والوصول إلي الغاية المنشودة والهدف المرسوم؟‏.‏
‏*‏ هل أخطأنا عندما نسينا في ظل الخيار الاستراتيجي للسلام‏,‏ عمليات التنسيق والتعاون في قضية الأمن القومي العربي‏..‏ منذ سنوات بعيدة لم تجتمع اللجان التي كانت تقوم بهذا الدور‏,‏ ولم نعد نشهد تعاونا في هذه المجالات الحساسة‏..‏ وربما يكون ما حدث أخيرا دافعا قويا إلي ضرورة الحديث مرة أخري عن شيء قديم اسمه الأمن القومي العربي‏,‏ هذا اذا كنا مازلنا نذكر هذا الاسم وندرك معناه‏,‏ يدخل في ذلك كله تفاصيل كثيرة عن التعاون والتنسيق العسكري إنتاجا ودفاعا وسلامة أوطان‏.‏
خذه النقاط العشر أو الخطايا العشر‏,‏ دارت في رأسي منذ شاهدت ياسر عرفات الرئيس العربي والمغامر الذي اختار السلام طريقا ودفع ثمنا غاليا أمام عصابة عنصرية‏..‏ ها هو عرفات يعود كما كان يوما مقاتلا من أجل أرضه ووطنه وقضيته‏..‏ إن الدماء الطاهرة التي تتدفق الآن علي أرض فلسطين يجب أن تكون صيحة تهز الوجدان العربي شعوبا وحكومات‏,‏ لكي نراجع أنفسنا ونعيد حساباتنا‏..‏ وإذا كنا قد اخترنا السلام طريقا‏..‏ فإن السلام في كل الحالات يحتاج لقوة تحميه‏..‏ ويكفي أن الأمة العربية الحزينة في هذه الأيام‏,‏ قد تركت الثعبان يكبر ويكبر ويكبر‏,‏ وتصورنا مستقبلا آمنا معه‏..‏ وفجأة خرج الثعبان وقد استفحل وتضخم وانقض علي الجميع‏.‏
وإذا كانت قمة بيروت قد أعلنت خطة سلام بين العرب وإسرائيل‏..‏ فيجب أن تكون هناك قمة أخري لوضع برنامج جديد لاستعادة القوة العربية والإرادة العربية لكي نحمي هذا السلام‏,‏ لأن أسوأ الأشياء أن نسعي لسلام عاجز‏.‏
إن ما حدث أخيرا يجب أن يكون صرخة مدوية في ضمائرنا‏,‏ لأن ما حدث في فلسطين في الأسبوع الماضي لن يكون نهاية المطاف‏!.‏(الأهرام المصرية)

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف