جريدة الجرائد

بين شوارع هافانا ومنتجعات فاراديرو: التغيير تأخر ولا آثار لزيارة كارتر

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
&
حسام عيتاني : بعد أيام من انتهاء زيارة الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر الى كوبا، يبحث زائر هافانا عما تركته المحاولة الأخيرة للتقارب بين الجارين العدوين من آثار يمكن ان تؤسس لمستقبل أكثر ودا.
الزيارة ستترك آثارا مشابهة لما تركته زيارة البابا... أي لا شيء>> تقول سيدة كوبية ساعة المغيب على شرفة فندق في العاصمة هافانا. فالحركة التي راهن بعض الغرب على اطلاقها بالتزامن مع زيارة البابا يوحنا بولس الثاني الى كوبا قبل قرابة الأربعة أعوام، لانهاء الحكم الشيوعي عبر افراغه من مضمونه <<الأخلاقي>> بعد التثبت من فشله الاقتصادي والسياسي على غرار ما جرى مع انظمة شيوعية في أوروبا الشرقية، انتهت من دون ان تخلف اثرا واحدا في اذهان الكوبيين.
وتتابع السيدة راسمة ابتسامة حزينة على وجهها <<لقد أسمع كارتر الحكام عندنا كلاما قاسيا عن الحريات وحقوق الانسان لكن لعل وقت التغيير قد فات>> في إشارة الى حالة من الجمود اصابت أمورا كثيرة في كوبا جعلت أحد الزوار الأجانب يشبهها <<بآلة الزمن>> التي يركبها المرء لتعود به الى الوراء، الى العام 1959 تحديدا، تاريخ انتصار ثورة فيديل كاسترو ورفاقه.
الحصار الأميركي هو مصدر كل الشرور وفق الخطاب الرسمي. لقد جعل الحصار الكوبيين يدفعون ثمنا باهظا مقابل تمسكهم باستقلالهم السياسي والاقتصادي. لكن مشككين يقولون ان كلفة الحصار ربما تكون قد فاقت ما كان حكم باتيستا العميل لأميركا لينهبه من المال العام فيما لو بقي في السلطة هو او أي من خلفائه. ويرون ان حجم الانجازات والتقديمات التي وفرتها الثورة للكوبيين، يقل كثيرا بعد 43 عاما من الانتصار على حكم باتيستا، عما كان يفترض ان ينعم به قطاع واسع من المواطنين. فالحريات ليست في أفضل أحوالها والأزمة الاقتصادية تنهك الكوبيين وتحضهم على البحث المضني عن مصادر جديدة للدخل، ليس العثور عليها في متناول الجميع.
وعند الابتعاد قليلا عن أوساط المتابعين لشؤون السياسة، لا يجد الكوبي العادي من تعبير عن انطباعه على زيارة كارتر الا هزة خفيفة للكتفين او تلويح باليد يشير بهما الى انشغال بأمور أهم واجدى كالبحث المضني عن لقمة خبز في احدى الجنات الطبيعية الأخيرة على كوكب الأرض، واحدى الدول الافقر في النصف الغربي من الكرة الأرضية في الوقت ذاته.
ولا يحتاج الزائر الأجنبي لبذل جهد يذكر لاكتشاف علامات الفاقة في الجزيرة. بل ان هذه تصدمه وتلاحقه وفي بعض اللحظات تطوقه. فالواجهة البحرية لهافانا برمتها تبدو كالأسواق التجارية في بيروت قبل ان تشملها نعم السوليدير: مبان لم تعرف الصيانة منذ أعوام فانهارت اجزاء منها وتآكلت اجزاء اخرى فيما غاب عنها لون الدهان فطغى الرمادي والبني عليها. وهذه سمة تتشارك بها أكثر مباني المدن والقرى الكوبية.
المدينة القديمة في هافانا (او سان كريستوبال) من الشواهد على التاريخ الاستعماري الاسباني للجزيرة حيث ينتشر باعة الكتب القديمة في جوار المطاعم والفنادق الصغيرة الاقرب الى المنازل الكبيرة بباحاتها الداخلية الظليلة ونوافير المياه التي توزع انتعاشا لذيذا فيما يعرض الحرفيون مصنوعاتهم في سوق يعج بالباعة المرحبين بكل من تبدو عليه هيئة أجنبية.
أما تخوم الاحياء الأثرية فتنهي التأمل القصير بمسارات التاريخ ومصائر الامبراطوريات وتشد الى الواقع والحاضر: روائح المجاري تعبق في الأجواء يفاقم من وطأتها حر مداري رطب ما يجعل المتنزه يغذ الخطو للخروج من حصار المشاهد وثقل الروائح.
ويقود التجول في وسط المدينة الى ساحة <<الكابيتوليو>>، مبنى البرلمان ذي القبة الرائعة، وقربه يمكن التقاط الصور للساحة الواسعة التي تتوزع المتاجر على أطرافها. وفي مكتبة تطل على الساحة بائعة درست الهندسة المعمارية تتحدث بانكليزية مفككة عن طالب لبناني تعرفت اليه قبل قرابة العشرين عاما.
وعلى بعد امتار قليلة من البرلمان وساحته، مبان متهالكة نشر سكانها غسيلهم على الشرفات معلنين عن آحد مظاهر كوبا الحالية ومشكلاتها. فالقاطنين اليوم في قسم كبير من مباني وسط العاصمة ومناطقها السياحية والحيوية، حلوا في منازلهم الجديدة بعدما اممت الثورة أملاك رجال أعمال أميركيين وتجار واثرياء غادروا البلاد، فجاء سكان مدن الصفيح السابقة للسكن في البيوت الفخمة (السابقة أيضا).
ومن ساحة <<الكابيتوليو>> يمكن التوجه الى جادتي سان رفايل وبوليفار (<<طريق الملكات>> بحسب تسمية ما قبل الثورة والتي ما يزال معمولا بها الى اليوم).
المشهد هنا يعكس بعضا من حقيقة لم تلمسها أيدي التجميل. مئات المباني المتداعية يسند واحدها الآخر ويسير بينها عشرات آلاف الكوبيين من دون ان يظهر سائح أجنبي واحد. فلا شيء هنا يمكن ان يشجع الأجانب على الانفاق برغم ان السلع كلها تحمل بطاقات أسعار بالدولار الأميركي.
وبين الحين والآخر تمر عربات <<الكاميلوس>> (او الجمال) التي ابتكرتها الحكومة للتغلب على أزمة النقل التي كادت ان تؤدي الى انهيار شامل للاقتصاد في أوائل التسعينات مع النقص الشديد في النفط وفي قطع الغيار لوسائل النقل السوفياتية الصنع في الغالب.
و<<الكاميلوس>> عبارة عن شاحنة قطر تم وصل مقصورة ركاب اليها. يصعب تخيل العدد الدقيق لركاب كل <<جمل>> من هذه الجمال التي تتنقل في شوارع هافانا المدن الكبرى. لكن الأمر المؤكد ان الركاب لا يعانون فيها من الوحدة <<فالساق على الساق>> وتبرز من النوافذ وجوه سلمت بقضاء الله وقدره، للانتقال بعد انتظار قد يطول من حي الى آخر.
والى جانب <<الجمال>> تسير السيارات الأميركية القديمة التي أصبحت من العلامات الفارقة للمدينة الكوبية واحد عوامل الجذب لهواة العربات، إضافة الى أنواع مختلفة من السيارات سوفياتية الصنع وأخرى أوروبية وآسيوية حديثة.
ويقول لبناني مقيم في العاصمة الكوبية منذ أعوام طويلة ان حالة النقل تشهد حاليا تحسنا بعدما كادت السيارات ان تغيب عن الشوارع بسبب أزمة وقود خانقة عاشتها كوبا في اواسط التسعينات جعلت الدراجات الهوائية بديلا يتسم بقدر من <<الرومانسية الثورية>> في مواجهة الحصار الأميركي وان كانت لم تستطع ان تلبي الحاجات المتزايدة للاقتصاد وللمواطنين الكوبيين.
ويتابع اللبناني المقيم انه خلافا للاعتقاد السائد، فصعوبة الحياة لم تبرز فجأة مع انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية في أوائل التسعينات بل ان شظف العيش يرافق الجزيرة منذ عقود بل منذ قرون. قبل الثورة، كانت الجزيرة ساحة للنهب الاستعماري الاسباني ثم الأميركي وما خلفه ذلك من آثار كارثية على ألبنى الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، وبعد الثورة انتقلت الصعوبات الى مجالات أخرى كالافتقار الى السلع الكمالية (مع التشديد على نسبية مفهوم <<الكماليات>>).
وتركزت الأزمة المعيشية غداة انهيار جدار برلين في نواح أخرى كالنقل والبنى التحتية بشكل عام، فيما تمسكت الدولة بعناد بالدفاع عن الانجازات التي حققتها في مجالي الصحة والتعليم اللذين يقول الكوبيون انهما القطاعان الوحيدان الباقيان <<في ظلال الاشتراكية>>.
ويفتخر الكوبيون بالمستوى الرفيع للرعاية الصحية التي توفرها الدولة لجميع المواطنين. فالمستشفيات تحتل أفضل مواقع المدن وتشمخ كصروح ضخمة لكن بعض الخبثاء يتساءلون: أليس من الأفضل ابعاد اسباب المعاناة التي تقود الى امراض مختلفة الأنواع قبل توفير العناية الصحية؟
أثناء عشاء في أحد المطاعم الفاخرة في منتجع فاراديرو، يمكن قراءة اسعار الاطباق: ثمن طبق ثمار البحر يبلغ ثلاثين دولارا. قبل ساعات من العشاء كان الحديث يدور عن مستوى معيشة طبيب يتقاضى ما قيمته عشرة دولارات في الشهر.
لن نرى طبيبا كوبيا يتناول العشاء في فاراديرو(السفير اللبنانية)

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف