ثقافات

انطولوجيا إيلاف الشعرية: عبدالرحمن طهمازي

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
ولد في سامراء (العراق) عام 1946. تخرّج من جامعة بغداد عام 1968 فرع اللغة العربية. نشر في مجلات وجرائد عراقية وعربية. له مجموعتان شعريتان: "ذكرى الحاضر" (بغداد 1974) و"تقريظ الطبيعة (بغداد 1986). ونشر أيضا دراسة مع مختارات عن "محمود البريكان" (بيروت 1989). ومختارات من أشعاره "أكثرُ من نشأةٍ لواحدٍ فحسب" (كولونيا 1995). له عدة دراسات في الشعرية العراقية واللغة العربية موزعة في المجلات. يقيم حاليا في بغداد مواصلا مهنته الوحيدة التدريس من أجل العيش. بعث مع احد أصدقائنا الذين زاروا بغداد مؤخرا، مجموعة من القصائد لكي نختار منها لهذه الأنطولوجيا. وأجاز لنا أن نعيد تعريفه للشعر الذي كتبه خصيصا للعدد الثامن من "فراديس". حين يعود الشاعرُ، المرّة تلو الأخرى، للحديث عن الشعر(ولا أعتقد بفائدة حاسمة لحديثه عن شعره مباشرة ) سيجد لبياناته، على كونها فضفاضة وذات نفوذ، قابلية على أن تكون مختصرة أكثر: ولها الحقّ في التجريد بشكل غير محدود، لأنّ ما حذفه الشاعر في أشعاره هو الصحراء والفضاء حيث يجد القارئ ضرورة سلوكهما.
وحذف الشاعر لعدد من العناصر اللغوية المتفق عليها مع القارئ سيجنّب القصيدة شهية التهالك على التأويل، ومع ذلك فأنّ القدر قد لا يكون متماشياً مع آليات الشاعر التي تدعم حواسه، فالعناصر المحذوفة تبقى لها قدرة تمثيل القول المحقّق فعلاً. إنها تمثّل قوة الفراغ التي كتلة ميئوساً من كمالها "الأدبي" ومأمولاً في تطلعها السيميائي. وفي ذلك الفراغ المتشدد على تخوم الكتلة اللغوية الشعرية يقوم نداء الكلام وأطره المحذوفة مع صمت المرجع وتراجع المتن. كلّ الكلام يتضمّن حذفاً متوالباً
نحن العرب لم نتأمّل التعيينات الأوليّة لخلفيّات القواعد، تلك الخلفيات التي كانت توقظ جميع المبدعين العرب على قواعدهم ولا تسمح لهم بالتآكل: منذ "سيبويه" الذي صرّح في كتابه .." أول الكلام أبداً النداء .. وملأ الكتاب بجوهريات الحذف.
وجودٌ كثيرٌ ولكنّه ناقص ويأتي الشعر ليعبّر عن تفكّكه الذاتي. هذه هي الحقيقة الكلاسيكية التي نستنج منها دفاع الشعر عن الوجود المتبقّي وتهجمه على نقصه ثم تطلعه الخاص إلى ما هو ليس موضوعاً لأحد. سيكرر وسيخطأ في أشدّ الأوطان صغراً حيث تجد العظمة مأواها. سيترك كلّ أثر من آثاره على أهبة الاستعداد للمحو.
وفي هذه اللحظة المتوترة من الشعر لن يكون هناك تهديد للهوية بل تحريك لاتجاه الدلالات. في ذهابه إلى أكثر الأصقاع خطراً سيتأكد من استحقاقاته وسيبرهن على حرياته التي تتعايش مع البراءة وتكفل الذكاء.
من الصعب التمييز والتوحيد (معاً معاً) بين الشعر والشاعر. إنّ شيئاً من الانشقاق موجود. إنّ خضوع الشعر لما هو غير شعري ّ هو كالخضوع اللاسياسي، لما هو سياسي. فالخنثوية معبّر عنها وبها . إنّ المتطلبات اللغوية (وغيرها من العلامات...) تتحيّن الفرصة لملئ قريحة مستنزفة. والصياغة تريد أن تحقن موهبة في طريقها إلى الموت (حيث لا يسمح لها بموت حر ّ شعري).
إنّ الشاعر يغضب على شعره.. في حين أنّه قد قام بوضعه في أكثر تفاوتات الواقع شؤماً (الايديولوجيا) ووضع نفسه حارساً على زنزانته مستخرجاً الزمن من انسانيته. العار و الشنار أم القدر الذي نتماشى فيه مع الواقع؟ صباح التعارضات 1 أنتَ أجَّجتَ التضاريسَ وسوّيت ثياب الأمّهاتْ
ملجأً للحَجَرِ
وتحالفتَ مع الأنواء أن ترغم للثعبان وجهي
ثمّ لم تسكنهُ بعدي
أيّها البحرُ الذي يهرم من شكوى سفينةْ
يمرض الأمواتُ، تنحلّ المسافات ولا تخرج فينا؟
أنت أجَّجتَ التضاريس وأسْلمتَ الفصولْ
لأراضي ذلك العامِ ولم تعبأْ بأخطار ربيعٍ نائم فيكَ
ولم تعبأ ببركان جَسَدْ
مرّةً ألقيتَ أشباحكَ في صبحٍ قديمْ
مرّةً أرغمتَ ظلَّكْ
أن يراه البرق في ليلة بَرْدْ،
لحظةٌ ينفرد الدهرُ بها
يستطيع العشب أن ينبت في صحراء لحظةْ.
آن للطائر أن يسقط مستاءً
فلا خوف البراري يفتديهْ
لا هواءٌ ميّتٌ حول جناحيه، ولا شمسُ غروب في جفونهْ
ما الذي رافقك الآن إلى قلبك، مَن آواكَ فيهْ 2
مرّتِ الساعة لا تشبهنا إلاّ قليلا
أهو الطفلُ الذي
يسبق النومَ إلى اليقظة، والذئب الذي بسمع صوتهْ
أهي بغداد التي نذهب فيها لأقاصي الذاكرةْ
قاطعين الطرقَ المزدحمةْ
كاسرين الجمجمةْ؟ 3 مَرأةٌ تهبط في ساحات قلبي وتضيعْ
حاولتْ تحملني نحز السنين الهاربةْ
مثل طفل آخذٍ في النومِ، لا يحترم الأمواتَ، لا يعدو على السلّمِ
لا يخرج في البيت وحيدا
أيّها العالمُ الموالي للأُسودِ الغائبةْ
انني أعرف من يكبو به الصوت ويرديهِ قتيلا
أيّها الريف الجريءْ
أيّها الطائرُ لو تشبع جوعَكْ
بنواحْ الشجرةْ
آهِ يا سكَان هذا العالم، يا ساحل وجهي
قال صيّادٌ بأنّ الشمسَ لا تجهل هذا الصيف، انّ الظلً يستبسلُ
حتّى قد نرى الفارس يستجدي الفَرَسْ
ثمّ قالْ
بعد أن حرَّرَ بعض السمكِ المرّ وآوى الكلمات الخائفةْ:
اننا الآن على أبواب أن نصطحب الأشجار في النزهة، أن نحمي الجذورْ
من أنين الحبّة المائل للخوف، احرسوا قيعان هذا العقل مرّوا
بالهموم المستعدّةْ
وامنحوا أوجهكم للانتظار الصعب
قد تأتي إلى المنفى سحابةْ
انّها الكفّ التي تلجأ عندي وهي تبكي. بحث المرآة حَسَناً
ستكون المرآة صغيرة
هذا أدعى لضياع القريب وتجمهر البعيد
وستكون واحدة
هذا موحش لمن تجرَّد من العَظَمَة
وستكون جليّة
هذا يساعد الشيخوخة على التنفّس
وستكون أفقيّة فوق الرأس
هذا يجعل الاتجاه محتملاً
ستكون، إذن، مرآة
تعتلج فيها الوساوس والضمير معاً معاً في شعلةِ
المصطلحات
آخر الليل الخامل عتاب يا هذا الليل
ألستَ تقوم بتربيتي في الآلام
يا هذا القلب
ألستَ ملمّاً بالموت
ورضيّا بالأموات
يا هذا الليلُ
لماذا تقذفني رغماً عنّي في الصبح
يا هذا القلبُ
لماذا ترضى بالألعاب طبيعة يلّمني التمثالُ تمثالاً على صورتي
في الليل في وحدتهِ أبدو
في الصبح في عنادهِ، حكمته، أغدو
الجذر منّي ذابَ في الأرضِ
من أين لي السلوانُ في بعضي ماذا تريد...؟ أريدُ
أريدْ
أريدُ هواءً لا يهزأ من رئتي
أريد ربيعاً لم ينضجْ
أريد ربيعاً مشتركاً
أريد مليكة قلبي تشكرُ حبّي. أوّاها.
أريد نياما يشتركون بإيقاظي
أريد ربيعاً لا يتأهّب للصيف
وربيعاً ينهار عليَّ ليصفو طبعي
أريد دماءً لا ينقصها جرح
وجراحاً لا يُعميها الدم
أريد
أريد
أريدُ ظلاماً يتكشّف لي
وضياءً لا يكشفني
أريد طريقاً للهجرة لا تسلكه العودة
أريد الإلياذة لا تكتبها الأوديسا
أريد قصائد تتخطّى عارَ الدهشة مستهلكةً فحواها
وقصائد أخرى لا تجثم في ظلّ الكلمات
أريد كلاماً يكفل صمتي
وسلاما تتساوى فيه الرحمةُ والأعذار
أريد سؤالاً لا يتبنّى أجوبتي
أريد أباً لا ينساني
وأباً أنساه
أريد
أريد
أريد سياقاً بين الحريّة والآهات
أريد ملوكاً يحتفلون بخلع التيجان
أريد طيوراً لا ترهن أجنحة في صومعة الحبّة
أريد لساناً لا يحجره المستقبل
أريد حصاة يجلوها صمت الآبار
أريد جذوراً تضحك من طغيان الأغصان
أريد عواءً تختضّ له أوصال الذؤبان
أريد سقوفا عالية من مدن صغرى
أريد رعوداً لا تتلاطف في البرق
وبروقاً لا تتعجّل في الغيم
أريد
أريد
أريد رماداً يتوقّع نارا
أريد كلاماً لا تتماسك فيه الأصوات
أريد زماناً ملتوياً يجتذب الأحلام
أريد نساءَ عربيّات
يثقن كثيرا بالحبّ
ورجالاً يقبلهم تعريفٌ ما
أريد
أريد أريد شوارع كالسفنِ
وفضاء تتذكّر فيه روحي بدني بحث الفراغ الفراغ هو ألم الشاعر
العجز وحراسة البلاهة
القالب المفقود
قلق الحرّيات
لا. ليس هو العدم. العدم ليس هذا.
الزمن يتصبّب من أجسادنا حيث
العُتْهُ يتجهّم ويتسوّر متكاملاً
ذرّات تتطاير. تتطاير. لا موضوع فيها
تجيء دائما ولا نعرف مرّة واحدة من أين تصدر
ونجهل أنّها لن تبرح
الفراغ هو فراغي.
الدعوة؟
أين الاستجابة؟
ما هذا الجوع الذي هو أقوى من العطش؟
هذه الحيرة التي تتدحرج قبلك. نقد حالما تضع الشجرةْ
رأسها في يد الخريفِ؛ لن تسألَ الشجرةُ
أين ثعبانها الجذرُ، أين الحديد الذي انكسرا
وهي لن تتأوَّهّ ممّا أتاه الخريفْ
مثلما أتساءل عنك، يا قلقي
يا حمار قصيدي:
هل أصابك ما أكلَ الشجرةْ؟ بحث عدم المعرفة أعرف ستّين جنديّاً
ثلاثة استقرّوا في تراثهم الثابت
دفعوا جثثهم كالعربات في وطن الأرواح
البقيّة يدافعون عنها
أين يختفي التهديد؟
ذكرياتهم كالديون
وخرائطهم متهالكة كالنقط في الحروف العربيّة
أسمالهم كالمواهب التي تفتّقتْ أخيراً
عن لطفٍ لا يطيق الاتّساع
جنود شبّان
سرعان ما تفشّى فيهم الزمن
وتغلغلوا في الوعود. الوعود يا لها كالآمال.
لم أعد أعرفهم أجمعين
كيف لي بواحد؟ قصيدة منزليّةْ ألّسْنا معاً في الطريق المحاذي لأحلامنا؟
ألّسْنا ندبِّرُ في الوصل ما يحتويه انقطاعُ؟
ألّسْنا سنتعبها الأرجلَ المستقرَّةَ؟ انّ الهواءْ
يملّ الرئات التي لا تردّ النسيم رياحا
آه يا تعباً كم خذلتَ الجناحا؟ الرسّام أو فايق حسين الرعاة الذين مددت إليهم يديكَ، وقاطعتهم فجأةً
دون أن يدركوا انّكَ الآن تحرث الأرض للمرّة القادمة؛
يطلبون سماحك كي يدخلوا حضرة الزيتْ
انّهم يضعون العصا في يد السعادةْ
ويدارون أغنامك الشاكرةْ
ويفكّون ألغازَ واحتك الأجنبيّةْ
انّهم يصلحون للزيت، للأزرق المتمدِّد كي يطعمَ الخرافا
الرعاة الذين قد ألقوا الأوديةْ
يألفون فرشاتك التي ترشد القطيعا. * الزبائن في قاعة العرض كانوا يغضّون أبصارهم عن مصائرهم
مثلما أودعوها، انّها زلّة البرجوازيّ إذْ يفذَ المسير إلى أصله، ويفرّ على عقبه إذ يراه
ثمّ ينهض مستنداً بين أسماله، بين عار انتصاراته
بين ما نخجل منه
انّه داء كي يشتري اللوحة المنزليّةْ
بينما يتلقّى
لطمةً
من يد اللوحة العاشرةْ * انّني أتحمّس للشِّعر واللون وهو يسيل على العاطفةْ
يفتدي الليل بالأفولْ
يمنع الآفةَ السائدةْ
أن تجور عليه
ويمدّ يديه إلى الأخت والوالدةْ
حيث تجثو على رُكبة اللوحة العاشرةْ * كنتَ في دعةٍ كنتّ في الجمرة الطائرةْ
كنتَ في دفّة اللوحة العاشرةْ
تنقذ اللون من أن يمسَّ القتيلا
كنت تمسك بالخائف المستجير بأقرانه وتمدّ عروقك في خوفهِ
مثلما يهبط الزيت في الخوف يستكشف المجزرةْ
مثلما يفتح اللون أبوابه للطريدةْ
مثلما يُعجَب الزيت بالمنظر الجانبيّ الذي تاهَ فيهْ
مثلما يدرس العراقيُّ أهوالّهُ
مثلما ينكر الصبيُّ صباهْ
أو يدبّر أعذاره للطفولة
أو يتصالح كل فقيرْ
مع قمصانهِ
أو مثلما في العراقْ
كلُّ شيء يُطاقْ * تضع الآن كفّكَ في جيبك الأمينْ
وتجيل النَظَرْ
في مريسا
أنت إذاْ تتمرّغ في لحمك الدفينْ
وترى الطفلَ مرتهناً في الملاحة والصبر أو في الدّلال
تتعلّمُ ألوانكُ اليائسةْ
محنة الأعزب اليتيمْ الرجل الأخضر صادفَ موسى رجلاً أخضرْ
لكنّه غاب عن الخضرةِ لمّا استغرب المنظرْ
وراح موسى نحو أعماقهِ
يخوض حيناً، مرّةً يعدو
وظلّ موسى زمنا يطوي فيافيهِ
أعماقُهُ تجرّه أكثرْ
وحينما تذكّرَ المنظرْ
لم يبقَ في طاقته أن يتفصّى الرجل الأخضرْ

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف