أخبار

من قتل محمد بوضياف!

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
يحي أبوزكريا
&
في 16 كانون الثاني يناير من سنة 1992 عاد إلى الجزائر محمد بوضياف بدعوة من المؤسسة العسكرية ليترأس المجلس الأعلى للدولة، وبعد 166 يوما من توليه الرئاسة توجّه إلى مدينة عنابة ليشرح برنامجه السياسي فكانت نهايته على يد الضابط مبارك بومعرافي!
و بعد دعوته المتكررة لتأسيس التجمع الوطني، استجاب له بعض المواطنين في مدينة عين تموشنت ومدينة عنابة شرقي الجزائر، وقررّ بوضياف التوجه الى هذه المناطق وتوضيح أفكاره في هذا المجال، وعلى الرغم من أنّ الجزائر كانت تشهد انزلاقات أمنية خطيرة فانّ أحدا لم ينصح محمد بوضياف بالغاء رحلته الى منطقة الشرق الجزائري، والأكثر من ذلك فانّ المسؤولين الكبار في الجزائر لم يرافقوا بوضياف في رحلة الموت، فقد كان غائبا عن الموكب الرئاسي رئيس الحكومة سيد أحمد غزالي ووزير الداخلية الجنرال العربي بلخير و لا أحد من أعضاء المجلس الأعلى للدولة صحب بوضياف وكأنّ الكل كان على علم بما دبّر لبوضياف الاّ هو!
رفيق بوضياف في رحلة الموت هذه كان وزير الصناعات الخفيفة السيد كريمان وبعض المسؤولين الصغار بالاضافة الى أحد أقرباء محمد بوضياف.
وقبل رحلته الى مدينة عنابة أسرّ بوضياف لصديقه محمد يزيد أنّ الوضع معقّد وأنّ بعض الأطراف في النظام لن تسكت عن عزمه على تطهير النظام الجزائري من المرتشين و المختلسين.
وصل محمد بوضياف الى مطار مدينة عنابة يوم 29 حزيران جوان 1992 في الساعة الثامنة والنصف صباحا وكان في استقباله والي مدينة عنابة والمسؤولون العسكريون عن هذه الناحية. وفي الساعة العاشرة والنصف افتتح محمد بوضياف معرضا للشباب وتنقلّ بين أجنحته.
وفي حدود الساعة 11 وصل محمد بوضياف الى المركز الثقافي في مدينة عنابة، حيث شرع في القاء محاضرة ركزّ فيها على الشباب ودورهم في بناء المجتمع، كما تحدث عن الفساد وضرورة القضاء على الفساد الذي ينخر جسم النظام الجزائري، وحثّ الشباب على ضرورة الاعتماد على النفس للخروج من الأزمة الحالكة، وأسترسل في الحديث عن الجزائر والعواصف التي تعصف بها، وحملّ النظام القديم تبعات ما ألت اليه الأوضاع في الجزائر، وعندما وصل الى عبارة أنّ الاسلام يحث على العلم انفجرت قنبلة يدوية من الجهة الشمالية للمنصة التي كان عليها محمد بوضياف، وهاهنا شاهد الحضور ستارة المسرح خلف محمد بوضياف تتحرك وسرعان ماخرج من وراء الستارة رجل يرتدي زيّ القوات الخاصة ومعه رشاش، حيث اقترب من محمد بوضياف وأفرغ محتواه في جسده وقع بعدها بوضياف أرضا و مباشرة.
دبّ الخوف والهلع وسط الحضور الذي انبطح كثير منهم على الأرض، وقد قيل أنّ هدف تفجير القنبلة اليدوية هو جعل الناس تتراجع عن المنصة وتنبطح أرضا وأثناءها سمعت طلقات نارية داخل القاعة وخارجها، فيما كان بوضياف جاثما على الأرض وقد غطّاه البعض بالعلم الجزائري، وبعد عشرين دقيقة من الحادث وصلت سيارة اسعاف الى المركز الثقافي وأقلّت محمد بوضياف الى مستشفى ابن رشد في مدينة عنابة.
و عبثا حاول الأطبّاء انعاشه الأمر الذي استدعى نقل محمد بوضياف الى مستشفى عين النعجة العسكري في الجزائر العاصمة ، ولم يتأخر المستشفى كثيرا في الاعلان عن وفاة المناضل محمد بوضياف.
وفي حدود الساعة الثانية عشر ظهرا بدأ التلفزيون الجزائري الرسمي يبث الأيات القرأنية وقد فهم المواطنون أنّ كارثة حلّت بالجزائر خصوصا وأنّ التلفزيون الجزائري كان قد تعودّ على بث الأغاني في مثل هذا الوقت!
وفي الساعة الواحدة ظهرا أعلن التلفزيون الجزائري عن وفاة محمد بوضياف وكان قارئ الخبر الصحفي الجزائري المعتز بالله جيلالي.
ومساءا بثّ التلفزيون الجزائري شريطا مسجلا عن مسلسل الاغتيال، لكنّ مقص الأجهزة كان قد حذف مشهد خروج الملازم العسكري مبارك بومعراف قاتل بوضياف والمنتمي الى القوات الخاصة من وراء الستار والطريقة التي أجهز بها على بوضياف.
وقد تسربّت بعض الأخبار من مبنى التلفزيون تفيد أنّ رئيس الحكومة سيد أحمد غزالي ووزير الاعلام والثقافة كانا هناك وأمر بحذف هذه المشاهد.
وكانت الصدمة عنيفة للغاية على الشعب الجزائري الذي توالت عليه الصدمات الأمنية بشكل متسارع، وخرجت بعض الجماهير للمشاركة في جنازة محمد بوضياف والتي كانت يتيمة للأسف الشديد، لا لأنّ محمد بوضياف الرمز لا يستحق ردّ الجميل من قبل شعبه الذي مازال يتذكر جهاد بوضياف ودوره في تفجير الثورة الجزائرية، بل لأنّ بوضياف تورطّ مع من ألغوا اختيار الشعب الجزائري وحولوا الصحراء الجزائرية - التي كانت تستخدمها السلطات الفرنسية أثناء استعمارها للجزائر حقلا لتجاربها المتعلقة بالتفجيرات النووية الى معتقلات ضمّت عشرات الألاف من المعتقلين. وحتى الذين خرجوا لتشييع جثمان محمد بوضياف رددوا شعارات سياسية، وأغتنموا الفرصة في ظل حالة الطوارئ المفروضة منذ 1992 والتي بموجبها يحظر التجمهر والتظاهر وما الى ذلك من الأفعال الديموقراطية.
ومن الشعارات التي رفعها المشيعّون هي من قبيل :
-لا اله الاّ الله عليها نحيا وعليها نموت وبها نلقى الله.
-يا عليّ، يا عبّاس الجبهة راهي لا بأس - أي أنّ جبهة الانقاذ ما زالت بخير رغم وجود كل قيادييها في السجن - .
-الشاذليّ قاتل.
-جلبوه لكي يقتلوه.- أي أحضروا بوضياف الى الجزائر لكي يقتلوه -.
-دولة دولة اسلامية.
ولا شك أنّ المتتبع للحدث الجزائري يعرف أنّ معظم هذه الشعارات كان يرددها أنصار الجبهة الاسلامية للانقاذ.
وقد حضر جنازة محمد بوضياف رئيس الوزراء سيد أحمد غزالي، ووزير الدفاع خالد نزار، و اعضاء المجلس الأعلى للدولة علي كافي الذي خلف محمد بوضياف في منصبه، وعلي هارون، وتيجاني هدّام، كما حضر تشييع الجنازة شخصيات عربية وأجنبية كياسر عرفات رئيس السلطة الفلسطينية، و رولان دوما وزير خارجية فرنسا.
وقد أعلن أقرب المقربين الى بوضياف نجله ناصر بوضياف أن المافيا الجزائرية هي التي اغتالت محمد بوضياف، في حين طالبت زوجته بضرورة الكشف عن منفذّي العملية الحقيقيين.
ولتفادي الشغور الرئاسي مرة أخرى تمّ الاعلان عن اسم رئيس المجلس الأعلى للدولة وهو العقيد علي كافي وتمّ ضمّ رضا مالك كعضو في المجلس الأعلى ليكتمل النصاب .
&
تناقضات واختلافات
&
بعد الاعلان عن اغتيال محمد بوضياف في نشرة الأخبار في التلفزيون الجزائري في الساعة الواحدة ظهرا، ورد في سياق النشرة اسم القاتل وهو الملازم العسكري مبارك بومعراف،
وفي نشرة الثامنة مساءا لم يتم التطرق اطلاقا الى هوية القاتل، لكن ذكرت الأنباء أنّ القاتل تمّ القاء القبض عليه.
ومن جهة أخرى ذكرت مصادر رسمية عندها أنّ منفّذ العملية مبارك بومعراف ينتمي الى دائرة مكافحة التجسس وقد أغتال بوضياف وتمكنّ من مغادرة قصر الثقافة، و في أحد شوارع مدينة عنابة رأته عجوز من شرفتها وبلغّت عنه الشرطة،عندها تمّ القاء القبض عليه.
فكيف غادر الملازم مبارك بومعراف قصر الثقافة وهو محاط بعشرات العناصر الأمنية!
وكيف تعرفّت عليه هذه العجوز و هل سبق لها وأن رأته سابقا!
ولماذا لم يفر من مكانه عندما رأته العجوز وبقيّ في مكانه الى أن جاءت الشرطة!
ولماذا تأخرّت سيارة الاسعاف في الوصول الى مكان الحادث الاّ بعد عشرين دقيقة من وقوع الحادث!
كل هذه المتناقضات والقرائن جعلت الحديث عن وجود مؤامرة محكمة الاخراج واردا وخصوصا في سياق ما كانت تعيشه الجزائر من تداعيات على الصعيد الأمني والسياسي.
وبعد اتهام الملازم مبارك بومعراف رسميا باغتيال محمد بوضياف تمّت احالته الى المحكمة المدنية في مدينة عنابة والتي أعلن نائبها العام أنّ القضية سياسية والقاتل عسكري فيجب احالة القضية الى محكمة عسكرية، و القضاء العسكري من جهته رفض النظر في القضية، وقد رفض حتى النظر الى الملف ودخل القضاء المدني في خلاف مع القضاء العسكري، الأمر الذي أعطى انطباعا بأنّ هناك من يريد تضييع خيوط المؤامرة. ونجح القضاء العسكري في تجنيب نفسه النظر في قضية اغتيال محمد بوضياف، والتي أصبحت من صلاحيات القضاء المدني و كأنّ الجناية عادية في بعدها و هدفها.
وكانت المؤسسة العسكرية لا تريد أن تتورط مع شخصيات كبيرة قد يكونون من نفس المؤسسة العسكرية.
وقد أعلن النائب العام لمدينة عنابة السيد محمد تيغرامت أمام الصحافيين أنّ القرار الصادر عن هيئته القضائية لجهة عدم الاختصاص واضح ولا يشوبه أيّ غموض، وهذا الأمر كما قال النائب العام مستوحى من نصوص وروح قوانين الجمهورية، وأستدلّ على ذلك بقوله أنّ الجاني عسكري و قام بارتكاب جريمته أثناء وجوده في الخدمة، وهو ما تعاقب عليه المادة 25 من قانون الاجراءات القضائية العسكرية، و أستطرد النائب العام في مدينة عنابة قائلا أنّه انطلاقا من هذا كنّا نتوقع من السلطات القضائية العسكرية التكفل قانونيا بهذه القضية الاّ أنّ الرفض القاطع واللامشروط لهذه السلطات أدّى الى احداث شلل في الاجراءات، وأنّ هذا الشلل سيوقف مسار البحث عن الحقيقة التي ينتظرها المجتمع!
وهو اعتراف ضمني من نائب مدينة عنابة بأنّ المؤسسة العسكرية تعمد الى اخفاء الحقيقة وتبديدها. ولم يقدم النائب العام معلومات عن القاتل الملازم العسكري مبارك بومعراف،
والمعلومات السطحية التي قدمت للشعب الجزائري من أجل اسكاته أنّ الملازم العسكري مبارك بومعراف ينتمي الى مكافحة التجسس وهو من مواليد 1966 وتلقى تدريبه في بلجيكا وبعض الدول العربية وهو ذو ميول دينية، وكان علي جدّي أحد قادة الجبهة الاسلامية للانقاذ أستاذه في المرحلة الثانوية. ونفس المعلومات قدمها رزّاق بارة عضو لجنة التحقيق في اغتيال محمد بوضياف والذي قال أنّ بومعراف كان يقرأ الكتب الدينية وليست له ميول حزبية. وقد رأى المراقبون في ذلك الوقت أنّ هذه التصريحات تهدف الى زجّ الجبهة الاسلامية للانقاذ في قضية اغتيال محمد بوضياف. وللتذكير فانّ قادة الجبهة الاسلامية للانقاذ الدكتور عباسي مدني وعلي بلحاج وغيرهما مدنيون ورؤساء حزب سياسي مدني ومع ذلك فقد جرت محاكمتهم في محكمة عسكرية، أما قاتل الرئيس الجزائري محمد بوضياف وهو عسكري فقد جرت محاكمته في محكمة مدنية!
وفي الوقت الذي نشب فيه خلاف بين القضاء العسكري والقضاء المدني، نشب خلاف مماثل بين أركان النظام الجزائري وأستعرت حرب الأجهزة من جديد في الجزائر. فجريدة الخبر الناطقة باللغة العربية نشرت في الصفحة الأولى أنّ وزير الداخلية الجنرال العربي بلخير قد أقيل من منصبه وتمّ تعيين أحد الجنرالات المتقاعدين مكانه، وقد سارع العربي بلخير الى تكذيب الخبر وأستدعى مسؤولي جريدة الخبر وهددهم بنسف جريدتهم، و أسمعهم كلاما بذيئا ، و حقيقة ما جرى أنّ جهات في الجزائر سربت الخبر على اعتبار أنّ الجنرال العربي بلخير أحد أركان نظام الشاذلي بن جديد، وأحد المحسوبين على اللوبي الفرانكفوني في الجزائر وكان متهما بالضلوع في لعبة تصفية بوضياف.
ولما لم يقدر أحد على ازاحته تمّت التضحية بحكومة سيد أحمد غزالي، وعندما أقيلت حكومة سيد أحمد غزالي صرحّ هذا الأخير أنّ الأشرار كثيرون في الدائرة النظامية وهؤلاء يعرقلون كل الايجابيات، وعيّن سيد أحمد غزالي سفيرا للجزائر في باريس و كان يراد منه المساهمة في ترطيب العلاقات الفرنسية الجزائرية لكون غزالي صديقا حميما لفرنسا فهو منذ تخرجّ كمهندس من المعاهد الفرنسية قبيل الاستقلال الجزائري بقليل والعلاقة بينه وبين باريس ايجابية، ثمّ انّ الجزائر كانت في حاجة الى ترطيب الأجواء خصوصا وأنّ الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران أحتجّ على تنحية صديقه الحميم الشاذلي بن جديد - متيران هو الذي أختار عبارة الصديق الحميم ولا دخل للمؤلف في انتقائها -.
وقبل تنحية سيد أحمد غزالي التقى وزير الدفاع الجنرال خالد نزار ببعض الشخصيات السياسية الجزائرية كعبد الحميد مهري الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، وحسين أية أحمد زعيم جبهة القوى الاشتراكية، ومحفوظ نحناح زعيم حركة حماس، وأحمد طالب الابراهيمي عضو اللجنة المركزية في حزب جبهة التحرير الوطني ووزير الخارجية الأسبق ، وكان ذلك مؤشرا على أنّ دوائر القرار تريد الاستنجاد بالطبقة السياسية.
&
لجنة التحقيق
&
لالهاء الشعب الجزائري و تعمّد عدم الكشف عن الحقيقة قام المجلس الأعلى للدولة بتعيين لجنة تحققّ في اغتيال محمد بوضياف يرأسها أحد أصدقاء محمد بوضياف أحمد بوشعيب، والعجيب أنّ هذه اللجنة طلبت من المواطنين الجزائريين أن يمدوها بما لديهم من معطيات، ومساعدة هذه اللجنة، ولم تمر هذه النكتة على الشارع الجزائري الذي علقّ بقوله كيف يطلب ممن يطالب بكشف الحقيقة أن يمدّ هذه اللجنة بمعلومات!
وقدمت هذه اللجنة أرقاما هاتفية ليتصل بها من يوّد أن يقدمّ معلومات بشأن الحادث.& أحد المواطنين كما ذكر حينها اتصل بهذه اللجنة وأبلغها أنّ مبارك بومعراف زميله وقد مات في سنة 1982 في تدريبات خاصة!!
هذا الأمر وغيره جعل المواطنين الجزائريين يشكّون في حقيقة الجاني والمعلومات المقدمة اليهم بشأنه. وقد أعطى المجلس الأعلى للدولة مهلة عشرين يوما لهذه اللجنة حتى تكشف عن الحقائق كاملة.
وتوجهت هذه اللجنة الى مدينة عنابة، وأحاطت تنقلاتها وتحركاتها بسرية فائقة، وقد أحتجّ الصحافيون في مدينة عنابة على هذا التكتّم المبالغ فيه وطالبوا بتفسيرات بشأن بعض المعلومات المتناقضة، فلجنة التحقيق تقول أنّ الملازم العسكري مبارك بومعراف نفذّ العملية بمفرده، في حين أنّ النائب العام لمدينة عنابة قال أنّ العملية نفذّت بطريقة ذكية ودقيقة بحيث يستحيل أن تكون من فعل شخص واحد، وقد غادر هذا الشخص الجاني مكان الحادث سليما معافى. وقد ذكر بعض الصحفيين أنّ مبارك بومعراف عقب خروجه من قصر الثقافة لجأ الى شقّة، وقال لبعض المواطنين أنّه من رجال الأمن المكلفين بحماية محمد بوضياف، وأنّ أناسا يريدون قتله وطلب منهم استدعاء الشرطة.
مراسل جريدة لاناسيون في مدينة عنابة أفاد بأنّ سيارة من نوع جيتا كانت مرابضة قرب قصر الثقافة مكان حدوث الاغتيال رفقة سيارة أخرى تمّ توقيفها في مدينة عزابة بعد مطاردتها بطائرة مروحية ودراجات نارية تابعة للدرك الوطني الجزائري.
وكانت محكمة عنابة تناقض نفسها فحينا تقول أنّ مبارك بومعراف أعتقل وحده، ثمّ أعلنت أنّه تمّ اعتقال اثني عشرة شخصا متورطين مع مبارك بومعراف، وربما لأجل ذلك قالت جريدة لوناسيون أنّ بومعراف تلقى أمرا باغتيال محمد بوضياف. لكن من أمره بذلك!
و ذكر في مدينة عنابة أنّ مبارك بومعراف طلب من قاضي المحكمة حضور أحد المسؤولين الكبار كشرط للادلاء باعترافاته. أما نجل الرئيس محمد بوضياف ناصر بوضياف فقد أعلن أنّ الجريمة لها أطراف في الداخل والخارج.
وبعد عشرين يوما على التحقيق في اغتيال محمد بوضياف صرحّ أحد أعضاء لجنة التحقيق رزّاق بارة بأنّ القاتل يدعى مبارك بومعراف،وقد نفذّ الجريمة بملء ارادته، وأنّ تقصيرا لوحظ في فريق الحماية، وهكذا فسرّت لجنة التحقيق الماء بالماء بعد جهد وعناء.
وبناءا عليه وضع ضابطان كانا ضمن فريق حماية محمد بوضياف هما هجرس والسائح، رهن الحبس الاحتياطي، و غاية ما قامت به لجنة التحقيق أنها أكدت أنّ القاتل هو الملازم العسكري مبارك بومعراف. وحتى لما أستأنفت هذه اللجنة أعمالها الى أواخر تشرين الثاني نوفمبر 1992 رددت نفس النتيجة التي سبق لها وأن أذاعتها على الملأ...
&
تشريح مؤامرة
&
يتضح جليّا ومن خلال قراءة كاملة ومستوعبة وموضوعية لملف اغتيال محمد بوضياف أنّ هناك خمسة احتمالات في قضية اغتيال رئيس المجلس الأعلى للدولة محمد بوضياف وهي :
1-&أن يكون اغتيال محمد بوضياف داخلا فيما يسمى بمقتضيات أمن الدولة، وأنّ صناع القرار في أعلى المستويات الأمنية أكتشفوا فجأة أنّ محمد بوضياف خطر على الأمن القومي الجزائري ومن تمّ قاموا بتصفيته.
2-& أن يكون محمد بوضياف ضحيّة صراع الأجنحة في المؤسسة العسكرية ودوائر القرار، وأنّ بوضياف قد يكون أضرّ بطرف أو مركز قوة معيّن ، أو كاد جناح من الأجنحة أن يفقد مصالحه فأجهز على محمد بوضياف قبل أن يفقد امتيازاته.
3-& أن يكون اغتيال محمد بوضياف من تدبير الجبهة الاسلامية للانقاذ أو الجماعات الاسلامية الأخرى.
4-& أن يكون الملازم العسكري مبارك بومعراف قد تصرفّ بملء ارادته ونفذّ عملية الاغتيال.
5-& أن تكون جهات أجنبية أمريكية أو فرنسية على وجه التحديد وراء اغتيال محمد بوضياف.
&
تحليل الاحتمال الأول :
عندما قام الرئيس محمد بوضياف بزيارة خاصة لمتابعة أعماله في المغرب التقى الملك المغربي الراحل الحسن الثاني ووعده بحل وشيك لقضية الصحراء الغربية يرضي المغرب. كما أن معلومات ترددت في الجزائر تفيد أنّ بوضياف كان يريد تكليف سعيد سعدي زعيم التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية البربري بتشكيل الحكومة خلفا لسيد أحمد غزالي، وخطوة من هذا القبيل من شأنها أن تضرّ كثيرا بالوحدة الترابية والجغرافية للجزائر.
وكان سعيد سعدي هددّ بحمل السلاح واشعال النار في منطقة القبائل اذا وصل الاسلاميون الى السلطة. وكان من الدعاة الأوائل الى ضرورة تدخّل الجيش لالغاء الانتخابات التشريعية.
وما جئنا على ذكره لم يرق الى مستوى تهديد الأمن القومي الجزائري حتى يقال أنّ بوضياف يجب أن يقتل، والمؤسسة العسكرية مثلما أقالت الشاذلي بن جديد كان في مقدورها أن تقيل محمد بوضياف.
&
تحليل الاحتمال الثاني :
أدّى الخلل في بنية النظام الجزائري ومنذ تأسيسه الى تشكّل مراكز قوة وأجنحة، وكانت المصالح والامتيازات هي التي توحّد بين مراكز القوة التي كبرت وكبرت معها مصالحها أيضا. وعمل كل مركز قوة على حماية نفسه بقوة أمنية و عسكرية الى درجة أنّ محمد بوضياف صرح في يوم من الأيام قائلا أنّ الجزائر لا تقبل لا بانقلاب عسكري ولا بانقلاب بوليسي في اشارة الى المؤسسة العسكرية والمؤسسة الأمنية، وقد تكاثرت الأجنحة الأمنية مع تكاثر الحكومات ومراكز النفوذ، وهناك أجهزة فعلية وأجهزة قديمة تريد استرجاع ماكان لديها من امتيازات، وعندما تبنىّ محمد بوضياف مشروع تطهير النظام الجزائري من المافيا كان يعي خطورة القيام بمثل هذه الخطوة. وقد يكون بوضياف ضحية أحد مراكز القوة الذي بات مقتنعا بأنّ بوضياف بات يشكل خطرا عليه.
&
تحليل الاحتمال الثالث :
الملازم العسكري مبارك بومعراف الضالع في اغتيال الرئيس محمد بوضياف اعترف كما تقول لجنة التحقيق بأنّه اضطّلع بعملية الاغتيال وحده، وأنّه كان يحلم أن يطهرّ الجزائر من الطغاة كما قالت لجنة التحقيق في بيان لها. وهو قد قام بهذه الخطوة لتخليص الجزائر من الخوف الذي يسيطر على شعبها منذ فرض حالة الطوارئ.
&
تحليل الاحتمال الرابع :
في تحقيق خاص لجهاز الأمن العسكري الجزائري تبينّ أنّ عشرين بالمائة من الجنود في الجيش متعاطفون مع الجبهة الاسلامية للانقاذ، وقد أتهمّ الملازم مبارك بومعراف قاتل محمد بوضياف بأنّه متأثر بالأفكار الدينية. وكان جهاز أمني قد حذرّ بوضياف من عناصر مسلحة قد تقدم على اغتيال رموز في السلطة الجزائرية وأنّ عدد هذه العناصر هو بين 1500 و3000 عنصرا .
&
تحليل الاحتمال الخامس :
قال الجنرال شارل ديغول مباشرة بعد استقلال الجزائر في 05 تموز يوليو- 1962 أنّ فرنسا ستعمل ما في وسعها حتى تنتهي الجزائر بالضربة القاضية بعد ثلاثين سنة.
&لقد كانت باريس على الدوام تتربص بالجزائر الدوائر وكان لديها عقدة من الوطنيين الجزائريين، وحاولت عبر وسائلها الكثيرة والمتنوعة في الجزائر نسف التيار الوطني وبعده التيار الاسلامي الذي لا ينسجم وطموحاتها الفرانكفونيّة في المغرب العربي، وربما تكون قد أوحت الى بعض الأجنحة التابعة لها القيام باغتيال بوضياف، وقد علقّت الصحف الفرنسية عشية اغتياله قائلة أنّ الجزائر تقتل رموزها، مما يعني في نظر باريس أنّ الشعب الجزائري قد تنكرّ لثورته ورموزه بعض ثلاثين سنة من الاستقلال!
&
من قتل محمد بوضياف!
&
كل هذه الاحتمالات واردة، وفي ظل نظام يمارس فرض الحصار على المعلومات حتى في أبسط الأشياء يصبح كل شيئ ممكنا، لكن القرائن السابقة و اللاحقة والتي تجلّت بعد سنوات من اغتيال بوضياف ترجّح الاحتمال الثاني وهو أنّ بوضياف كان ضحية الصراع بين الأجنحة ومراكز القوة، والجناح الذي نفذّ العملية مرتبط عضويا بالمشروع التغريبي الفرنسي مما ينشئ علاقة مباشرة أو غير مباشرة بين الاحتمال الثاني والاحتمال الخامس.
والفريق الأمني الذي رافق محمد بوضياف كان يتلقى أوامره من خليّة تسيير حالة الطوارئ في وزارة الداخية التي كان على رأسها الجنرال العربي بلخير والذي تربطه علاقات قوية بكبار الجنرالات في المؤسسة العسكرية.
والأكيد أنّ محمد بوضياف كان عازما على تغيير هيكلية النظام الجزائري، وكان ماضيا باتجاه اقصاء كل الذين عملوا على وضع الجزائر على فوهات البركان، كما كان مصرّا على كشف كل المختلسين والسارقين الذين نهبوا مليارات الدولارات وفقرّوا الشعب الجزائري، وأعدّ ملفات تطاول كبار الشخصيات الجزائرية تمهيدا لمحاكمتهم، ودائما كان يردد قائلا : نحن أسرى وضع مزري وسيئ وورثنا تركة ثقيلة وسوداء.
لقد سبق لرئيس الحكومة السابق سيد أحمد غزالي أن قال أنّ مصيبة الجزائر الكبرى تكمن في فتنة الكرسي المستعصيّة.&
&
لقد كان لاغتيال محمد بوضياف صدى كبير في نفوس الجزائريين الذين شاهدوا لأوّل مرة في حياتهم رئيسهم وهو يتعرّض للاغتيال من الظهر، ولا ينسى الجزائريون منظر رئيسهم وهو مسجّى على الأرض تحيط به دماؤه المنهمرة وعلى صدره علم الجزائر الذي ثار لأجله ذات يوم محمد بوضياف، لقد كانت نهاية هذا الرجل غير سعيدة، فالجزائريون يعترفون له بفضل تفجير الثورة الجزائرية التي أفضت الى تحقيق كرامة الجزائريين وعزتهم،
ولذلك خرج كثيرون الى الشوارع للبكاء على أحد رموز الثورة الجزائرية، والجزائريون الذين شاركوا في تشييع جنازة محمد بوضياف كانوا في الواقع يبكون الجزائر أيضا.
لم تتمكن شرعية بوضياف التاريخية أن تسكت نقمة الشعب الجزائري على ممارسات ومسلكيات أضرّت بالثورة الجزائرية و الدولة الجزائرية وسمعة الجزائر، ولم يتمكن بوضياف من رأب الصدع بين السلطة والجماهير، لقد كان بوضياف بالفعل الرجل المناسب في الوقت غير المناسب، لقد عاد من المغرب الى الجزائر بغية انقاذها، فذهب هو والجزائر باتجاه الهاوية.

وبعد اغتياله مباشرة تمّ تعيين العقيد علي كافي على رأس المجلس الأعلى للدولة، وأنتخب رضا مالك رئيس المجلس الاستشاري عضوا خامسا في المجلس الأعلى للدولة، ولم تسكّن صدمة اغتيال محمد بوضياف الايقاع السياسي والأمني الذي استمرّ متهيجاّ وحادّا.
وبعد أسبوعين من اغتيال محمد بوضياف بالضبط وفي 12 تموز يوليو 1992 شرعت المحكمة العسكرية في محاكمة قادة الجبهة الاسلامية للانقاذ في المحكمة العسكرية في مدينة البليدة، وكان ذلك مؤشرا على أنّ هناك من يريد أن يصرف نظر الشعب الجزائري عن ملف اغتيال محمد بوضياف، وفي نفس الوقت أقيلت حكومة سيد أحمد غزالي، وتمّ تعيين بلعيد عبد السلام على رأس الحكومة الجديدة. وكانت حركة المتغيرات السياسية متزامنة مع حركة المواجهات الدموية التي ازدادت كارثية ودموية بعد اغتيال محمد بوضياف.
وعلي كافي كسابقه ورث وضعا صعبا ومعقدّا وظلّت الجزائر في عهده تراوح مكانها، بل انّ وقع الرصاص والاغتيالات ازداد حدّة، وبلغت المواجهات الذروة في عهد علي كافي، وبات عهده يعرف بعهد الدماء، ولم تتمكن قوانين مكافحة الارهاب والاجراءات الصارمة من وضع حدّ للزلزال الجزائري!!!

yahya@swipnet.se

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف