ثقافات

ميشيل اورسيل أحب كثيرا أن يحل القارئ محل الكاتب ليملأ الفضاء الذي انسحب منه هذا الأخير

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
في هذا الحوار سنقدم للقارئ العربي وجها من الوجوه الغربية المشرقة، إنه ميشيل أورسيل (اسمه الأصلي) أما بعد اعتناقه للإسلام فقد اختار اسما ثانيا إنه "صلاح الدين"، ومن عجائب الاتفاق فميشيل اورسيل صلاح الدين قد ترجم نصا فريدا من اللغة الإيطالية إنه "أورشليم المحررة" للشاعر الإيطالي الشاب LE TASSE ( القرن السادس عشر الميلادي) في بلاد إسلامية هي مراكش المحروسة التي اختارها مقاما له منذ خمس و عشرين سنة.
ميشيل اورسيل، شاعر و روائي و مترجم كبير، من اصل فرنسي، مختص في الأدب الإيطالي القديم، مفتون بالعالم العربي الإسلامي، ترجم العديد من المؤلفات منها:& أشعار " لميكيل آنج" و"أناشيد" لليوباردي، و "رولاند العنيف" ROLAND FURIEUX") لاريوسط. و له مجموعة من الدواوين الشعرية و الروايات منها "إحساس الحديد" (1994 GRASSET)، والدراسات (إيطاليا المظلمة - BELIN 2001)، و ( وبيوغرافيا لفيردي 2001 GRASSET، وأخيرا اصدر كتاب (دموع المترجم، يوميات في المغرب 2002 GRASSET).
حاز على عدة جوائز أدبية مهمة منها ( جائزة روما CITTADI و NELLY-SACHO).
التقيناه ذات مساء، في لقاء نظمه المركز الثقافي الفرنسي بمراكش حول عمله الأخير " دموع المترجم"، و قد لفته نقاشنا معه في مجموعة من القضايا التي تضمنها كتابه، فانفتح علينا بسرعة، فحددنا موعدا لمحاورته فلم يتردد فكان معه هذا اللقاء:
-&ما هي المؤلفات التي تحبذون ترجمتها؟&
- مارست الترجمة منذ نعومة أظافري غير أنني اختار عادة ترجمة الأعمال الأدبية الرائعة، و بالخصوص المجموعات الشعرية أو القصائد البطولية الرائعة. ينبغي أن يكون العمل جذابا بالنسبة إلى حتى تصير الترجمة فعلها أدبيا، فعلا يعيد الخلق من جديد. إضافة إلى أن إقبالي على ترجمة الأعمال الإيطالية الكلاسيكية كان مرده إلى العوز الذي تشتكي منه دور النشر الفرنسية في هذا الباب.
&
-&ألا ترون أن الترجمة ليست هي الأداة الوحيدة للتعبير؟&
- نعم، فالأمر كما قلتم، فأنا قبل كل شيء شاعر و كاتب و ناقد. فيما يخصني كانت الترجمة في شبابي أهم وسيلة للبوح بما لم اكن أستطيع قوله أو ما كان ممنوعا قوله حتى لنفسي. فقد كانت الترجمة بالنسبة إلي التمهيد الحقيقي للكتابة، و كما تعلمون فلكي نترجم ينبغي أن نعرف لغتنا جيدا بالقدر الذي ينبغي أن نعرف به لغة الأخر.ومن هنا تبدو أهمية ممارسة الترجمة بالنسبة إلى الكاتب )سواء أكان مبتدئا أم محنكا لأن حقل اللغة لا نهاية له ( حتى يوسع إمكانياته،ويطور أدوات اشتغاله ويتحرر. لكن الترجمة أيضا وهذا أمر بدهي هي طريقة للانفتاح على الأخر لاستقباله ولاحتضانه، وأحيانا نمارس العنف على لغتنا الأصلية حتى ُنسمع صوت الأخر الأصلي.
فالمترجم مثله مثل الكاتب ينهل من الماضي أو يتصور حلولا جديدة فينتهي به الأمر الى خدمة لغته الأصلية.
&
-&كتبتم في مؤلفكم الأخير « دموع المترجم - يوميات في المغرب »& ما يلي:&"أحب فأترجم، و لعل الإخلاص يمر عبر الخيانة" هل لكم أن تعلقوا بدقة على هذا التصريح؟
-&أحب كثيرا أن يحل القارئ محل الكاتب ليملأ الفضاء الذي انسحب منه هذا الأخير و يفهم حسب إرادته اختصاراته و ألغازه. لكني أحاول فقط إعطاء بعض التفسيرات! إن ما ندعوه في المدرسة أو الجامعة بالترجمة الأمينة ليس في العموم سوى تمرين لإيجاد مقابلات لكلمات مفردة خارجة عن السياق و التي لا تقتصر في عملها إلا على " الشكل"، و هذا ما نجده في العمل الأدبي. ففي الشعر خاصة، كما هو الشان بالنسبة إلى النثر لا يمكن لأي تجمع بسيط لذرات و جزئيات المعنى ( كلمات مركبات اسمية و فعلية، جمل..) أن يفهم العالم الشكلي للنص الذي نترجمه،فالأمر لا يتعلق فقط بترجمة الزخم التاريخي و الاجتماعي لعمل أدبي بل يتعلق بوضعيته " المتعالية". و أما الترجمة الحرفية التي يدعيها عن - غير قصد - الجامعيون، أفضل و من بعيد الترجمة الخلاقة كالتي قام بها " بودلير " حول ادغار الان بو" بالرغم من الأخطاء التي لفت المعنى. فحينما أقول بإعادة خلق نص فذلك لا يعني تصميمه او نسخه كما هو بل أن نساير إيقاعه من اجل إظهار إمكاناته طالما كانت وفية للنص الأصلي. أضف إلى ذلك انه حينما يتعلق الامر بالشعر فينبغي أن نترجم البيت و بحره و موسيقاه في آن ( و ذلك عبر التكافؤات أو الانزياحات (الخروقات) الظاهرة كموجهات للمعنى. إن معنى القصيدة أعمق بكثير من معنى الكلمات و هي منعزلة، و لقد حدث ذات مرة أن ترجمت و أنا في حالة من " الجدبة" شبيهة بجدبة كاتب أثناء عمله، مقطعا شعريا دون أن أفهمه لكني لم أخطئ على المستوى المعجمي أو التركيبي.
-&ما هو المعنى الجمالي و الأخلاقي الذي تولونه لأشتغالكم على قصيدة " أورشليم المحررة" للشاعر تاس TASSE؟ لما إذن هذه الملحمة التي تنتمي الى القرن السادس عشر الميلادي؟&
-& ينبغي الإشارة إلى أنني قبل أن أترجم " أورشليم" سبق و أن ترجمت ثمانية و ثلاثين ألف ( 38000 ) بيتا شعريا من قصيدة " رولاند العنيف:& le Roland furieux ) لسلفه الكبير الشاعر " أريوست: L' ARIOSTE ). ففي هذه القصيدة نلمس بشغف، لا بسخرية و لا احتقار، صراعات و قصص حب غالبا ما تكون عجيبة و التي تباعد أو تقرب في فرنسا كما في الشرق بين المسلمين ( les sarrasins ) و المسيحيين ( les chrétiens ). تتميز قصيدة " أورشليم" بطابعها الجدي عكس قصيدة " رولاند" ذلك لأنها قصيدة مثيرة باشراقاتها و جماليتها الجريئة، لكنها تتغنى بالحروب الصليبية الأولى في زمن كانت فيه الأيديولوجية الكاثولوكية قد بدأت تتصلب. أحببت و أنا صغير تلك المشاهد و الوجوه الأسطورية التي تحرك هذه القصيدة، فنجد مثلا فارسا مسيحيا يقتل خطأ محاربة مسلمة قد شغفته حبا، كما نجد أيضا قصة البطل المسيحي " رونولد" الذي سقط في حبال الساحرة المشركة، و هكذا دواليك. غير أنني ترجمت هذه القصيدة في لحظة كان قلبي يخفق خوفا على الإسلام و على فلسطين. إنه من هذه التجربة المفارقة ( مسيحي في بلد إسلامي) انبثق كتاب " دموع المترجم" إن هذه الترجمة منحتني مادة وفيرة للتأمل في المعنى المعقد لثنائية الكراهية/الحب التي تهيمن على العلاقات بين الشرق و الغرب في "الجهاد " المسيحي حول حقيقة البشاعات التي اقترفتها المسيحية في أرض الإسلام. إنه حاضرنا كله ( الأكثر إرعابا من جانبين:& الاستعمار الليبرالي الجديد و التطرف) و التي وظفتها ( الثنائية) في عملي هذا.
- لأي صنف من التراجمة تنتمون؟
-&لا اعرف إذا كانت هناك "أصناف" جد محددة للتراجمة، لكنني في كل الأحوال أعارض قطعا صنف التراجمة المختصين." فالترجمة العلمية" ثمينة جدا كعلم إنساني، لكنني لا أعتبرها حقا مدرسة ترجمة. لا توجد وصفة جاهزة للترجمة، فبالنسبة إلي الترجمة كما هو الأمر بالنسبة إلى النقد، كل نص له زاوية انقضاض. شخصيا في عملي النقدي و تأويل الأعمال كنت دائما و بطريقة عفوية أنوع أدواتي كي أتلاءم مع خصائص النص الذي أواجهه. قبل الترجمة أو التأويل هناك نوع من الحب و الجاذبية و في مرحلة لاحقة الملائمة مع الأزمنة و الحساسيات الفردية، و الإيقاعات و الأشكال التي تتجاوز الكاتب نفسه.

-&"دموع المترجم" لماذا هذا العنوان؟
- أجبت جزئيا عن هذا السؤال عندما ذكرت سابقا المفارقة المؤلمة في ترجمة عمل يتغنى " بالجهاد " المسيحي:&و نحن مع الإسلام و في بلد إسلامي. سأضيف بطريقة اكثر عمومية، أنني تألمت حقيقية و أنا أقيس البشاعات في عظمتها التي قادت إلى الحروب الدينية و إلى العنف الذي يبدو و انه لصيق بوضعية الإنسان. إنه أيضا سر ديني أن نفهم أو على الأقل أن "نقبل" "كمسلم" حقيقي كيف يمكن لمصير الإنسان أن يصبح قاتلا فظيعا. ثمة لذة عظمى في الترجمة لكن ثمة أيضا ألم مواجهة "نقل" المعنى من لغة إنسانية إلى لغة أخرى. و حتى ولو كان الإنسان وإلى الآن هو المؤتمن على المعرفة والوعي الكوني. وإذن فكل لغة إنسانية بمقدورها أن تترجم أي لغة إنسانية أخرى.

-&في إحدى مقاطع كتابكم الجديد،تشبهون أنفسكم "بوحيد الساق"..راكب دراجة نارية يتجاوزني،بجلبابه المنتفخ من جراء السباق تظهر من فوق كتفيه عكاكيز قديمة من خشب، إنه وحيد الساق، وأنا منغمس في الترجمة اجدني اشبهه". فلماذا هذا الشبه؟
-&فعلا فالمترجم معاق، يبحث دائما عن تعويضات، إضافة إلى ذلك، فالمعاق مدفوع إلى تعويض نقصانه من خلال تطوير أعضاء أخرى، الشيْ نفسه بالنسبة الى المترجم، يرى أن أجنحة تنبث لديه حينما يعتقد أنه الأكثر انغماسا في وحل اللغة. فاللغات الإنسانية بطبيعتها هي في الظاهر غير كافية لقول كل شيْ، ومع ذلك فالأعرج "يمشي" والأعمى "يدرك" والأصم والأبكم "يعبران"، وأخيرا فالمترجم يغش ويبتكر ويخون إذا اقتضى الأمر ذلك لكي يترجم ويعيد ابتكار المعنى.

-&لماذا لا يتم الاهتمام في الغرب إلا بالإرث الصوفي؟
-&هذا ليس كله صحيحا، فدار نشر "سندباد" في باريس التي أسسها المرحوم بير برنارد، وهي اليوم قد أدمجت في دار نشر Acte sud، كما هو الشأن بالنسبة لناشرين باريسيين آخرين،, Seuil Albin Michel يقدمون "كاتالوجا" يتجاوز المتن الصوفي، ولنذكر "أبوا العلاء المعري""وأبوا نواس "و "القصائد الجاهلية" و"أعمال الجاحظ " ورحلة "إبن جبير و إبن بطوطة" إلخ... وهذا لا يبخس في شيْ عمل أكبر المستشرقين الفرنسيين الملحدين من أمثال بلاشير أو رودنسون، أو المؤمنين من أمثال ماسينيون و هنري كوربان وروجي ارنالديز، فقد قدموا ترجمات ودراسات أساسية ( كما بالنسبة الى المسلمين) حول القرآن و "الفقه" وتاريخ الإسلام، والخلافة، والشيعة وهلم جرا. أما عن أهمية ترجمات النصوص الصوفية فيمكن أن نفسر ذلك، بأنه في لحظة من لحظات التاريخ الإسلامي فسح علم الكلام المجال للعلوم الصوفية التي كانت سببا في ظهور فكر وشعر سام، أخاذ بالنسبة الى الغربيين، الذين لم يكونوا يفهمون إلى الآن معنى "الحب الإلهي "إلا من خلال "التجسيد" أو الحلول و"صلب المسيح". من المؤكد أن الغزالي وابن عربي و البسطامي اليوم يعرفون نجاحا مبهرا، إنه بالتأكيد جواب للوثنية الجديدة التي تعرفها اللبرالية العالمية و النقص الكبير في المسيحية، بالرغم (أو سبب) محاولاتها لكي تتطابق مع العالم المعاصر.

-&في كتابكم "دموع المترجم، تؤكدون على نوع من التشابه بين الرسول محمد "ص" والفيلسوف ايمانويل كانط. ماذا تقصدون بهذا التشابه؟&
- لنوضح للقارئ أن الأمر يتعلق بشيْ ثانوي، قربت من خلاله ذكرى الرسول "ص" وهو يطلب بحركة منه من زوجته عائشة عود أراك لينظف أسنانه قبيل أن يموت، وذكرى كانط الذي نهض ليستقبل طبيبه بالرغم من أنه كان يحتضر. إنهما علامتان على إنسانية عليا و على كرامة و أخلاق أنيقة.
هذا لا يعني بالطبع أنني أضع توازيا عاما بين الفيلسوف العبقري الأوربي و رسول الإسلام.
بالمقابل، وحتى لا ننسى فالنبي "ص" لم يكف عن تذكيره للمؤمنين أنه من طبيعة بشرية و غير مخلد، كما حذر من المطالبة بأية معجزة، وكما تعلمون، فالقرآن نسب الكثير من المعجزات لعيسى وهو رسول المسيحيين. محمد "ص" خاتم الأنبياء، كان إنسانا وكان يعلم أنه يأخذ من الله أحسن ما عنده، وأحسن شيْ يوصله للناس. فهذه المرحلة القصوى والعليا للإنسان، هي بالضبط ما تعنيه الصلاة والسلام التي يذكرها المسلمون حينما يذكر الرسول "ص".
&
-&نقرأ في كتابكم " الترجمة هجرة، ثم سهر فوق ضجيج اللغات، على كتاب حاضر غابر"&
- كتبت هذه الجملة في مراكش في مقهى، حيث كنت أتأمل اللقالق و كأنها ساهرة فوق أطلال قصر البديع، في الوقت الذي كنت أسمع فيه بتتابع الأصوات الحية في الزقاق. اللقالق طيور مهاجرة و بالفعل فالترجمة تعني هذا الذهاب و الإياب بين مكانين، بين لغتين. و ترمز الأطلال ليس فقط للكتاب الذين قضوا نحبهم و الذين أترجم لهم، و لكن ترمز أيضا للمصير العابر لكل عمل إنساني. فالناس يعبرون، و اللغة تضج باستمرار و بما أن الأعمال غير أبدية فهي هنا تحت أعيننا لكن شيئا من ماهيتها، من معناها نفسه، يتلاشى مع الزمن، و مهمتنا نحن هي ان نعيد ترميمه و نحن نسافر عبر اللغات.
إعداد و ترجمة
محمد آيت لعميم - عمر حبودان

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف