جريدة الجرائد

روى سيرته في حوار غير مسبوقالشاعر محجوب شريف يحكي لـ الراية مشوار حياته

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

أجرى الحوار: إبراهيم بخيت-ما تقرأه أيها القارىء الكريم لا تحاول أن تجد له أو تبحث له عن تصنيف فلا هو لقاء أو حوار صحفي ولا هو عرضحال ولم يكن من مسبباته السبق الصحفي ولا الكسب الصحفي فهذه مفردات لم تخطر ببالي وأنا أخط اسئلتي وأعجم ذاكرتي ولكنها الأشواق عصفت بي لأيام عرفته فيها منذ الصبا الباكر في المشاوير الحياتية اليومية القصيرة والطويلة والذكريات الجميلة والجميلة جداً بين أزقة وحواري أم درمان وحي البوستة حديقة الموردة الريفيرا وفي شوارع الثورة المخططة كما حمار الوحش عرفته منذ مريم الأولى الأم عليها رحمة الله وقبل مريم الثانية حفيدة الأولى والتي تخطو في مشوار الحياة فتية على خطى أبيها تثريها بالنبض الجديد هي التي كبرت ومكان الضحكة العبرة.. وما بين مريم الأولى والثانية مشوار من الزمن طويل بين الحلم والحال وبين المنفى والمعتقل.. عرفته وأميرة صنو روحه كانت حلماً نسجنا خطوات تحققه في المشاوير الكَدَّاري من أقاصي أم درمان إلى تخوم الثورة النائية انتصرنا فيه بالحديث الذي لا يفتر عن الهم العام والهم الخاص عن الوطن الجميل المقبل الذي يحضن الجميع.. كنا نظن أن الدنيا والحياة طوع أيدينا ولكن الحياة عندنا ليست كذلك كما قال شاعر مصر المتمرد أحمد فؤاد نجم.
عاشرته في زمن الدهاريب والسما الهراج وفي زمن الارتخاء الديمقراطي وفي الزمنين وفي كر الأيام ظل محجوب محجوباً عن الغفلة والتوهان وضميراً حياً وروحاً شفافة تسعد الآخرين بوجودها وهو المعلم المربي الذي يقبض الجمر فداء للنهج القويم والمنهج السليم وفوق هذا وذاك فهو الشاعر وما أقل الشعراء الحقيقيين وما أكثر المتشاعرين أولئك الذين يتصيدون النظم ويمتنع عنهم أولئك الذين يجبرون الحروف أن تأتي طوع بنانهم ولكنها تستعصي عليهم والذين يغصبون الحروف على التراص والترابط ويتوهمون تناسق الكلمات فيأتي ما يزعمونه شعراً كما الأشلاء المتنافرة تصد الذوق السليم وترهق المسامع وتنفر الغاوين.. والذين يقبضون على كلاسيكية اللغة والعروض فتأتي قصائدهم جيدة الصنع ماسخة الطعم بلا هوية، ايقاعها يضرس المسامع.
ولكن الشعر الحي لا يصدر عن النفس الأمارة بالسوء بل عن النفس الراضية المطمئنة التي تحس بالحياة والأحياء فتجلها وتجلهم.. والنفس الطيبة لا تأتي منها إلا الطيبات وهي تلك التي تسبر غور المفردات اليومية الحميمة والتي لا يمكن صناعتها ولا يمكن أن تتجمل بالزيف ولا الرياء فهي من خانات الصدق تنبع ومستقيمة في مظانه تصب، وتنزل على الروح خفيفة شفيفة تتخلل المسام لتختلط بكيمياء وفيزياء وجغرافيا وتاريخ وتراث الجسد لتصنع عالماً كاملاً من المتعة والدهشة والأسئلة المجابة وغير المجابة وتظل تُرسخُ في النفوس الوجود الحي لمعاني الوطن والشرف والعزة والكرامة وكل مكارم الأخلاق وتدعو للتآلف والتحابب والمودة الصادقة وتزرعها في الخلايا والمسام قبل الميلاد كما يقول محمد إبراهيم شمو:
نحن سجلنا التآلف في انفعالات الأجنة
محجوب شريف
من أين يأتيك النظم يا ناظم ومن أي نبع تتسرسر القصائد يا خفيف الروح.. كيف تبيع النفس الأمارة بالسوء بالكلمة الطيبة الصادقة العابرة للأحقاد والمعبرة عن الأمجاد والمستقبل.. كيف أنت تلجم الفعل الطافر والكلمة النابية وترتفع بروحك عن همجية التعامل مع من يكرهونك وأنت الذي لم تتطوف في سماواتك الكراهية.. كيف تعمق المودة مع من تحب وأنت المحب للحياة والأحياء الممجد للفعل النبيل والقول النبيل والحلم النبيل؟ كيف تترفع بروحك وجسدك ولا تغرك اغواء الروح والجسد فتطلع متعاف من كل الملمات ومن كل الإغراءات والمفاتن كيف لك أن تعرف الطريق المؤدي والموصل لروح الشعب من بين وعور المسالك وسمادير الرؤيا.. ومن بين مغريات المال والسلطة والجاه الذي ما انفك يوجه إليك مغاويه من كل صوب وأنت تصدها.. أي روح من الصمود السرمدي والاعتزاز الخرافي تلك التي عجنت عودك فاستقام فارعاً باذخاً.
العمر يمضي بحساب الزمن وأنت في مسيرتك تعافيت من أدواء الطمع والهلع وصمدت حين انهارت جبال الرجال وزاغت عيونهم عن طريق الشعب.. يحركه الحبُّ الذي ينبع من قلب إنساني يترجم أحاسيس وهموم البسطاء، إنه الحب القضية والموقف الذي فيه تطل الحبيبة من براح الوطن وينعكس الوطن في عيون الحبيبة تجسيداً للعلاقة الخاصة.
لم أرض منه ولا هو رضي أن يكون هذا لقاء أجلس فيه في خانة السائل وهو مكره يجيب عن أسئلة حامضة جافة تشبه ما تنشره الصحف الصفراء عن الحب الأول والحبيبة المفارقة ولا عن الاسم والعنوان والميلاد والمهنة فقد كفاني وكفاكم الإجابة حين قال:
بطاقه شخصية
الاسم الكامل:
إنسان
الشعب الطيب والديّ
ومازال حتى الآن يتعلم من الشعب همه وعبقرية
ذمه وفنجريه
ضد العنصريه
نحلم بالسلام
اتفقنا على أن نرسم الخطوط والحدود الرئيسية ونخط الدروب الفرعية ونترك الباقي للسجية والتداعي والذكريات.. نعبر فيها العمر مرحلة مرحلة نكشف فيها عن معالمها البارزة والمؤثرة وتلك التي شكلت الوجدان وتلك التي عبّرت فيها القصائد عن المعطيات وعن:
حكايات الهوى الأول
بدايات الغنى الطول
وأن تكون هناك الإجابات عن الأسئلة الكبرى والمحطات الكبرى والأحداث وعن كل جميل وكل ما غير ذلك، عن رؤى ورؤية الأطفال وعن الصبا والصبابات وفتوة الشباب عن الزمن الحاضر وتطلعات الزمن القادم، ولكل هذه وتلك الأسباب كان هذا اللقاء بهذا الشكل الوثائقي.
محجوب شريف
تجربتي الشعرية لا تختلف كثيرا عن كل بدايات الشعراء فهي تنتقل معه عبر محطات عمره وتكتسب طولها وقصرها ولون بشرتها من ملامح زمانه ومكانه وظروفه الاجتماعية ومناخاته النفسية والبيئة المحيطة وتشابك وتقاطع خطوط الطول والعرض في مسيرة الحياة، وهي صبية من صباه وديعة كالحمامة تتعثر وترتبك وتحمر خدودها وتكبر مثلما يكبر وتتسع الرؤى والصور والأخيلة وحين يشب عن الطوق تشب هي أيضا فيقترب نحو مفترق الطرق ويبدأ مشوار الأسئلة والمسؤولية.. لمن نكتب، ولمن نغني الفن للفن أم الفن للحياة، الالتزم وما أدراك ما هو.
في وداع تلاميذ الصف الرابع كانت أولى (القصائد)، وتلك التي تنساب من بين أناشيد المدرسة وتقتفي أثر الدجاج في (دجاجي يلقط الحب ويجري وهو فرحان) وتخرج من مواء (لي قطة صغيرة سميتها سميرة).. أو تتنفس عبير (يا وردة نبتت على غصن جميل ناضر)، وهكذا كانت البراءة براءة الطفولة وبراءة القصيدة، الجدول: لوزة القطن على مرمى بصري (والحواشات) الممتدة بالخضرة في قرى الجزيرة، قرية (أبقدوم مسقط رأسي، والمدينة عرب في مرحلتي الأولية والوسطى، العصافير كانت تشقشق بين أغصان القصيدة والقمرية تقوقي وقدوم أحمر، والترعة هناك مهيبة الزراع أمواجها تترى كأفواج الإبل من بعيد.
ولكنك من أم درمان؟
أنا لا أقدم الآن بطاقة شخصية، ولكني أواصل تداعيات السؤال عن ملامح تجربتي الشعرية، وبما أنني لم اكن واحدا من تلك القمارى والعصافير انما ولد يسكن بيتا ويأوي الى أسرة فلابد من العودة من الطبيعة الى المجتمع.
وكان ذلك في رحاب المدرسة الوسطى زمن الحب الأول (والعمر مشوار قصير أنت ليه خايف تسيرو)، والفنان ميرغني سكر، وقصيدة عن الاستقلال قرأها نيابة، على الحفل في (المدينة عرب) صديقي الشاعر القاص الفارع والإنسان البسيط بشرى الفاضل ومايزال يحفظ نصها عن ظهر قلب كان فتى نحيلا كعود الذرة وفي أثوابه أسد هصور (بمعنى منعة الروح والحيوية)، فله التحية.
وكالقفز من سور الحديقة إلى خارجها حيث الخطى والناس والأخطاء والخطايا فتتفجر مواضيع جديدة للشعر - المساكين اليتيم - الطلاق (غنتها المطربة أماني مراد بعد أن نشرها ميرغني البكري في مجلة هنا أم درمان ، ومثل (الغايب)
لصلاح مصطفى في فترة لاحقة، سافر زمان قبال سنين لاجاب جواب لا جاب خبر أمو تسأل كل طاير وكل عايد من سفر ذلك الولد الذي خرج ولم يعد وكانت تلك حدود الأسى (ولد واحد فقط).. ففي هدوء القرية لم اسمع ازيز الطائرات ولم تقع عيناي على جواز سفر ولا حقائب، كل ما في الأمر ان ولدا قد خرج من بيته وأمه حزينة وتوالت الأعوام وكبرت وكبرت معي القصيدة والمفاهيم والرؤى وحين استمعت للأغنية الغايب كانت أبواب الهجرة والاغتراب قد فتحت لتأخذ عن طمي النهر وضفتيه أفضل الثمار بالمئات تم الآلاف إذن ما موقع الغايب من الاعراب في النحو الجديد؟! ذلك كان سقف الوعي وقاعة القصيدة، ولكنه أيضا كان منحى جديدا لكتابة الأغنية ذات محتوى يقترب بخطى وئيدة نحو ما هو اجتماعي، فحل اليتيم محل الوردة ولكن في حدود الحالة الفردية لا الظاهرة الاجتماعية.
في جريدة الحائط بالمدرسة: الوسطى أذكر مقطعا من قصيدة لي يقول.
لو أني الجان
لو عندي كنوز سليمان
هدمت الكوخ لآخره
وبنيته أجمل بنيان
لصنعت الخبز من الصودا
حولت نبيذي رغفان
مع إشارة في آخر القصيدة يشرح معنى الصودا بأنه نوع من أغلى أنواع الخمور ولم يصححني وقتها أحد وقد قهقهت بعد سنوات قهقة ولم أذق طعم النبيذ ولا غيره حتى اليوم ولكنها مفردات تسربت الى سقف الوعي من ثقافات وكتابات أخرى حيث كنا نجلس تحت (ظلال الزيزفون) وخضرة الشابي وأحزانه النضرة وانفاس جبران خليل جبران وفتاة القيروان واخواتها لجرجي زيدان ويلفنا مصطفى لطفي المنفلوطي تحت عباءته ويحدق فينا مليا طه حسين والعقاد ويخرج بنا أبو العلاء المعري من سجنه ونمتطى صهوة الجواد خلف المتنبي ويطل علينا من شرفته الأنيقة أحمد شوقي أمير الشعراء وتأسرني شعبية حافظ إبراهيم وكنت أجده أقرب من شوقي وكنا قد نعمنا قبلها بثمار مكتب النشر وكتاب التعريفة، السراب وحمامة وبقرة اليتامى والقرد مهنا وحصة المكتبة، وجلسة القصة، ومازلت أرى عيوننا كالنجوم المبحلقة في سماء صافية أين أولادنا وبناتنا من كل ذلك وأين مجلة الصبيان وجدول الحصص الرقراق بالفنون والمدونة الطبيعية وفناء المدرسة المزركش بصحف الحائط والجمعيات والحيوية و في القولد التقيت بالصديق أنعم به عن فاضل صديق وقد بنيت صيوانا في ذاكرتي حال سماعي نبأ رحيله في أميركا وتلقيت العزاء من (الطيور الحزينة) وأحمد القرشي في المستشفى حتى آفو في الصين.. ويا حليل سبل كسب العيش في السودان يا حليل.. ويا حليل.
ولنعد الى الجان والصودا التي هي نوع من أغلى أنواع الخمور..!!
الجان من أجل حياة أفضل للفقراء وأداة للتغيير - هدم الكوخ ليقوم مكانه بناء أجمل والنبيذ والصودا الغالية الثمن مكانهما خبز للجميع لم تكن تعبر عن ارتفاع سقف الوعي وتجاوز الفرد الواحد الى مفهوم التغيير الاجتماعي.
ماذا يمكن ان تنتجه القرية وما حولها من صور وأخيلة وأحلام أكثر ارتفاعا من ذلك السقف؟ الأزقة المتعرجة وبيوت الطين والرواكيب وأنفاس الأهالي بين حفيف ونهيق ونباح وخطى تملأ المغيب وصباح تشرق شمسه على سوق متواضع وسابله يتفرقون هنا وهناك ومزارعين وأسرهم بين التيراب والحصاد تتفصد جباههم السمر بالعرق والكدح والصبر الجميل.
وكان الراديو اطلالة على الدنيا.. هذا الصندوق السحري الخلاب ألوذ به في أي مكان وجدته فإنه يأخذني الى أم درمان حيث أبي وأمي واخوتي. و أشكال وألوان برنامج أحمد الزبير ويقيني اذا اعيد تكراره عشرات المرات ليس هناك ما ينافسه من برامج المنوعات. وبرنامج ما يطلبه المستمعون . وفلان يهديها الى فلان وفلانة.
فتطرق الأذن أسماء جديدة ومدن أخرى واغنيات تفتح شهية الفؤاد وتملأ النفس بالاشواق والحنين.. الحقيبة والكاشف وعثمان حسين وابراهيم عوض ومحمد وردي والإنشاد الديني والمدائح النبوية وما احلاه صباح الجمعة.
وما بين المدينة عرب وام درمان تتشابك الخطوط والخيوط، ام درمان حيث امي وابي واخوتي في رحاب الاسرة الممتدة والخال شريك الوالد وحوش خالي شقيق امي عثمان نوح بحي العرضة، الملاذ الآمن للارملة واليتيم والفقراء من امثالنا.
بحضن الخال شريك الوالد المسكينه ربيتو سوا هدوم العيد وكراسات حليب ودوا.. .
اجازات اقضيها بين حنان اخوالي وخالاتي ورأفة اكبرهم وعميدهم عثمان نوح، رعاية بلا منٍ ولا اذى وكان هذا نبض زمانهم وملامح عصرهم ومصدر الهام لمعاني الشعر والغناء.
بوصيكم على الجاهل اليتيم ربو، بوصيكم على ضيف الهجوع عشو.
والديوان العامر والنفاج من والى عبر البيوت ومؤسسة الحبوبة احاجيها ومترارها ونبقها والقنقليس والدوم وكانت لنا حقوق تكفلها القيم الفاضلة رغم فقر والدي المدقع وقلة حيلته، وكم كان شديد الإباء والزهد والعفة ولم يكن هناك شيء يخصنا تحت سماء ذلك الزمان لا بيت ولا مال.
وتنقضي الاجازة واعود الى المدينة عرب حاملا مفردات جديدة وأحلاماً باهرة وعناوين افلام حب حتى العبادة واحسان عبد القدوس وحلمي رفله ويوسف السباعي واتعلق بعيون لبنى عبد العزيز وتلفت انظار قلبي صدر الممثلات المصريات وتقع عيناي على نجيب محفوظ واتعرف على يوسف ادريس واقلب بلهفة المجلات ذات الاغلفة الملونة وامتع نفسي وبصري بحركة الحياة، الناس، الشوارع، المركبات، الدور، قروي ساذج يجرجر اذيال الدهشة حتى يعود، ومثلما خالي عثمان نوح واخوانه في ام درمان كان عبد الحليم لقمان والدا وعما وخالا، عليهم جميعا الرحمة، ولا اعرف بالضبط ما هي علاقته بوالدي وهو ليس من اهل امي ولكنني ادين له بتلك السنوات من عمري سنوات المدرسة الاولية والوسطى، الطفولة الباكرة والصبا الباكر، ولابد ان والدي كان على يقين من حسن ظنه بالرجل، وزوجته ام الحسن رحمهما الله، ولابد انه انتقل الى ام درمان بعد عسر شديد ولكنني لم اشعر يوما واحدا بالاهانة ولا عانيت من الاهمال لحظة بل كامل الرعاية والعناية والحنان..
فمن اين اتى اولئك ومن اين اتى هؤلاء سماحة في الحياة وطمأنينة عامة واسرة ممتدة وجيران افاضل وتأخذ بأيدينا نحن الصبية الفقراء واولاد الارامل أيد رحيمة لا تنتظر جزاء ولا شكورا، ولكن ذلك من نسيج المجتمع ووازع الضمير الديني والقيم الخيرة وكريم المعتقدات.
ومع ذلك كان هناك في النفس شيء من حتى.. الحنين الى بيت فيه امي وابي واخوتي وصينية الغداء وشاي المغربية والصباح، أيّاً كان ذلك البيت وتلك الصينية وقد تحقق هذا لبعض الوقت حجرة واحدة بالايجار فعجّل الموت برحيل والدي وكنت وقتها في المدينة عرب.. فعادت امي واخواي واختي الى سفينة نوح من جديد لتعصمها من لجة الحزن والفاقة.
ولهذا صار ذلك كله اهم موارد تكويني النفسي والعاطفي، الامتنان العميق لتلك الشخصية السوية الباهرة المتدفقة بالاريحية والجود المتمثلة في عثمان نوح واسمه كاملا عثمان محمود محمد وقيع الله وعبد الحليم لقمان وكلاهما يعتبر تعبيرا حقيقيا عن قيم الخير والرحمة في المدينة وفي القرية بل المجتمع بأسره ولهذا انه شعب تسامى .
وهناك في أفق الذاكرة تلوح مدني السُّني عاصمة الجزيرة وهي محطة لابد منها، ففيها تعرفت على النيل الازرق و حمامه .. السمك .كما يتصايح الباعة، والفندق حيث كان يعمل عمي وَدْعم أبوي، ميرغني اسماعيل .. وسينما الخواجة والمطاعم وابو ظريفة الفوال والمكتبات وشوارع الاسفلت والبيوت الجميلة والسكن الجديد وحي المزاد رحم الله اختي عيشه والحاجة بت الإمام تلك ايام مليئة بالحليفة والضيافة والحنان وهي سنوات من عمر الطفولة الباكرة جدا حينما كانت تجيء امي لزيارة ابنتها من زوجها الاول كمبال عليها الرحمة، وامتدادا لمواصلة تعليمي بالمدرسة الوسطى ظل ارتباطي بمدني الجميلة وبمدرستي مدني الثانوية وحنتوب لزيارة اصدقائي من المدينة عرب واللتين كانتا مصباً للشهادة السودانية وانه من باب الخصومة الفاجرة الا اذكر ان الخاتم عدلان كان اهم اصدقائي في تلك الفترة وكانت قريته ام ركت احدى القرى التي زرتها مثلما كنت ازور غيرها مع زملاء الفصل والمدرسة فهم قوم على بساطة حالهم بسطاء دونما سذاجة كرماء دونما تكلف ترتوي ملامحهم بفيض من دفء ورقة وحيوية السمر والاسئلة التي تقربك منهم وكل ام امك وكل اب ابوك.. على انني وسيرة مدني الثانوية وحنتوب.. لم اكن طالبا موفقا، مستواي دون المتوسط بكثير صفر في الرياضيات جيد جدا في اللغتين العربية والانجليزية، REDER 6 وما عداهما يتراوح ما بين الرسوب وقليل من النجاح، ولهذا وبعد محاولة ثانية من مدارس لم ينجح احد التحقت بمعهد التربية مريدي - معهد السنتين - مجبر اخاك لا بطل، وكان ذلك في ام درمان عام 66 وشقيقي الاكبر الخير كان ولي الامر والعائل.. وحينما تحقق بعض الاستقلال عن كنف الآخرين حتى تخرجت في 1/4/1968م مدرسا بالمدارس الابتدائية، الاساس حاليا والحق اقول انني مدين لمهنة التدريس مربيا ومعلما وان تقطعت بيني وبينها السبل ما بين الفصل والاعتقال المديدين الا انني مازلت وسأظل وليس مكرها او مجبرا اخوك لا بطل.. سأظل منتميا لشرف المهنة وللسلوك الواجب على المعلم والمربي وان بقيت خارج حقلها حتى يقضي الله امرا كان مفعولا.
ولابد من العودة ثانية الى المدينة عرب ومدرستها الوسطى وام درمان فقد عدت من احدى الاجازات عاشقا وشاعرا خطي نحو الاغنية العاطفية معبرا عن تلك المشاعر الجياشة نابض القلب متجها صوب ام درمان من على ظهر الترعة مناجيا ومدندنا وتواقا الى الاجازة القادمة، اسرح في المذاكرة واقلب الكتاب والكراسة، دون تركيز ولا احمل ذلك الحب مسؤولية فشلي بل اقول انه وجه طاقتي الشعرية نحو الاغنية ومازلت اصنف نفسي احد شعرائها وكنت اهرب الى مدني كي استمتع باغاني الافلام المصرية واروح عن قلب يضنيه صمت القرية وليلها الطويل وهناك تعرفت بصديقي الكاتب الصحفي صديق محيسي واستقبلني شاعرا صغيرا وئيد الخطى يحبو نحو النضج الفني.
تلك ايام تعرفت فيها على المستحيل .. واغنيات وردي فأحببت المستحيل لاسماعيل حسن و هدية السر دوليب واستمعت جيدا الى عثمان حسين وبازرعة وابراهيم عوض والطاهر ابراهيم و مين قساك مين قسى قلبك .
وروائع محجوب سراج لو تغيبي علي سنين واخواتها هذا بالاضافة الى الكنوز الكامنة في اغاني الحقيبة وربوع السودان..
فأجاوني عرفت إنك
قبلي كانت ليك حكاية
الخيال لمن يزورك
والصور عند الزوايا
والخطابات والهدايا
الحيا بتاخد وتدي
والامل احلى العطايا
حكاية الحكاية مع محجوب ومشوار العمر ومثل الذي ينتظر ما يراه بادئا في التجسد وقفت هنا وخطوات المتأتأة الأولى وتاريخ الاسرة الماضي يجرجر الخطو ما بين الريف الغارق في ريفيته طيبة تعجن الروح وتلون الدم بغير دم الموت، ومدن تتوه فيها عيون الصغير والصبي فترمش رمشات تحكي عن الاندهاش والانتعاش بالشوارع الجديدة والوجوه النضرة والعيون التي في طرفها حور. معاناة الفراق الابوي الباكر ورحلة الدراسة المتعسرة مع اللوغرزمات والجبر ويترجل الفارس عن مشوار الضنى المضني مع احابيل الفيزياء والكيمياء ليمتطي جواد الكلمة المتداولة البسيط ويقوم بتفريغها من معناها المستهلك ليمنحها شحنة من القدرة المعبرة التي تدهش القارىء. وليس ككل الشعراء بدأ مع الراية محجوب شريف مشروع تداعيات تجربته الشعرية متمهلا ونحن نحثه على الركض شوقا لنعرف ويعرف القراء خط سيره في الحياة والمكونات التي صاغت جسده ووجدانه وحركت فيه حب الشعب فصار شاعر الشعب فجاء قلمه بهذا الذي بين ايديكم ممرحلا على امل مواصلة نشر بقية المشوار الذي ننتظر كلنا ان يرسله لنا من الخرطوم ونعشم ان يتم ذلك.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف