التطبير... و"مسيح أيار"
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
&
&
حسن المصطفى
التطبير... و"مسيح أيار"
" إنها بلاد عجيبة، كان هذا ما توصل إليه تود وهو يربط منديلا على وجهه لأن الريح كانت تحمل نتانة النكبة المقززة التي كافحتها السلطات بمواقد ضخمة تحرق فيها الأوكاليبتوس. وما كادت صحته تتحسن حتى أطل ليرى المواكب...كانت تخرج من الكنائس صفوف المؤمنين، يتقدمها أعضاء جمعيات دينية متشحين بالسواد، يحملون على محفات تمثيل القديسين بملابس بديعة مطرزة بالذهب والأحجار الكريمة. وعمود ينتهي بمسيح مسمر على صليب مع تاج الشوك حوا رقبته. وقد أوضحوا له أنه مسيح أيار الذي جيء به خصيصا من سنتياغو لهذه المناسبة...كانت المواكب تضم أعداد من الرهبان والراهبات، ومؤمنين منهوكين من كثرة الصيام، وشعبا بائسا يصلي ويغني بصراخ مجروح، وتائبين بثياب التكفير الخشنة، وجلادي أنفسهم يسوطون ظهورهم العارية بسياط جلدية تنتهي بقطع حديدية مدببة الحواف. يسقط بعضهم مغمى عليه فتعتني بهم نساء يمسحن لحمهم المشقق ويقدمن لهم مرطبات، ولكن ما أن يستعيدوا وعيهم حتى يدفعونهم إلى الموكب من جديد. تمر صفوف هنود يعذبون أنفسهم بشكل جنوني، وفرق موسيقية تعزف أناشيد دينية".
هكذا رأى "جاكوب تود" شيلي عندما زارها، بعالمها العجيب، الذي صورته الروائية ايزابيل الليندي في روايتها "ابنة الحظ". وهو عالم قريب حد التماثل مع مراسم العزاء في "عاشوراء".
ايزابيل الليندي، كانت تروى سيرة "إلزا سوميرزا" التي دخلت حيات "آل سوميرز" يوم 15 آذار 1832، أي قبل 170 عاما مضت، وهي فترة مديدة كفيلة بأن تحدث فيها تغيرات مفصلية في تأريخ الشعوب وأنماط تفكيرهم وسلوكياتهم ومعيشتهم، بحيث يكون من المستعصي أن تجد المشهد السابق قبل 170 عاما كما هو على حاله الآن. قد يكون التغير والتبدل هو الأمر المنطقي، وما يجب أن يكون، إلا أن مشهد مواكب "مسيح أيار" هو ذاته مشهد مواكب "العزاء الحسيني" في هذا الزمان في العديد من البلدان، مع اختلافات طفيفة جدا لا تكاد تذكر.
هذا التماثل بين سلوك ماضوي، وبين سلوك معاش في الراهن من الحياة، يقود لسؤال عن مدى قدرة الطقوس على التجذر ومقاومة حركية الزمن، وعن طبيعة التعالق والتداخل بين الثقافات والهويات في اجتراح ثقافاتها وتأثير كل ثقافة منها على الأخرى، وتداخلها حد تحول طقس ديني أو فلكلوري أو اجتماعي في ثقافة ما، لطقس مقدس عند ثقافة أخرى، بعيدة عنها، أو ربما على تضاد معها.
لو أخذنا من المشهد السابق، مفردة "جلد الظهور" بالسياط "المدببة" و"المدمية"، والتي هي ذاتها تتكرر في مواكب "الزنجيل" التي تستخدم فيها "الأمواس" أو "السكاكين" الصغيرة، والتي يمارسها نفرٌ من المسلمين الشيعة في تأبين الإمام الحسين بن علي (ع)، والتي تشبه مثيلتها "التطبير"، عندما يضرب الإنسان رأسه بالسيف فيدميه.
الطريف في كل من "التطبير" و"الزنجيل المدمي"، أنهما يفتقدان للجذر الإسلامي، كما يشير لذلك الراحل د.علي شريعتي، وكلاهما آتيتان من خارج البيئة العربية، وهما عادتان طقوسيتان ترتبطان ببعض الممارسات التطهيرية المسيحية والهندية، التي تعتقد بتطهير الإنسان من رجسه، عبر الإيلام والإيجاع وإيذاء النفس وتعذيبها، عقابا لها على ما ارتكبت من آثام.
هذا النوع من العقاب، يتناقض مع المفاهيم الإسلامية، المرتكزة على أن من "تاب فقد تاب الله عليه"، وأن "الله غفور رحيم" و" قل يا عباديّ الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله"، و"إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"، وكل ما تقدم من مقولات وآيات في الأدبيات الإسلامية، لا يلتقي مع مفهوم التطهير عبر "إيذاء النفس" بل يرى أن "التوبة" هي بحد ذاتها إذا صدقت كافية لتطهير الإنسان من ذنوبه.
أن يؤخذ سلوك طقوسي من منظومة عقدية مختلفة ويقعد بوصفه "مقدسا" لا يمكن المساس به، و"أُسا" من أسس "الشعائر الحسينية" ومظهرا من "مظاهر الولاء لأهل البيت" كما يروج لذلك بعض الفقهاء ومن يتبعهم من مريدين، ويتعبدون بفتاواهم من مقلِدين، هو أمر ينبئ عن خلل في بنية التفكير، بل خلل في مدى وعيّ ذلك الفقيه أو سواه، بما خرج الإمام الحسين (ع) مضحيا من أجله.
"التطبير"، يحضر هنا بوصفه ممارسة عقدية يثاب من يقوم بها، في حين أن واقعه أنه "مثلبة"، من شأن من يمارسها ويدعوا لها أن يشوه رسالة "عاشوراء"، سائرا في الطريق المعاكس لأهداف هذه الرسالة.
ربما يحتجُ البعض بأن هنالك العديد من الفقهاء "الولائيين" ممن يفتون بجواز بل واستحباب التطبير، وكونه من "شعائر الله"، وهذه "الفتوى" سند شرعي لإثبات أحقيته. إن وجهة النظر هذه، ترتكز على مفهوم خاطئ للعلاقة التي يجب أن تكون بين "الفقيه" و"مقلديه"، ونظرة هؤلاء المقِلدين لفقيههم، وهي النظرة التي تكتنز كثيرا من القداسة هي في الأساس قداسة تخص المعصوم لا سواه. فالفقيه، وهو رجل مختص بالمعارف الدينية، من حقه كونه مالكا لمقومات الاجتهاد أن تكون له رؤيته الفقهية، لكن هذه الرؤية مهما دعمت بالأدلة لا يعني ذلك صوابيتها المطلقة، والدليل اختلاف الفقهاء في كثير من المسائل، وعليه يجب أن تكون علاقة المقلد بفقيهه علاقة قائمة على إعمال العقل، لا الطاعة العمياء، خصوصا أن الفقهاء بشر لا يمتلكون "العصمة" وتؤثر فيهم كثير من العوامل النفسية والبيئية والاجتماعية والسياسية،& والتي من شأنها أن تؤثر في عملية الاستنباط بشكل أو آخر، ومسألة "التطبير" تدخل ضمن هذا السياق، أي ضمن الاجتهادات البشرية التي يصيب فيها الفقيه ويخطئ، والتي هي نتاج بشري لا أكثر، لا أساس لها بفقه "أهل البيت"، و لا تشكل لب وأساس "التشيع"، بل هي إنتهاك له، وانتهاك لإنسانية الإنسان.
&
&
كاتب من السعودية
Hasan1_m@hotmail.com
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف