ثقافات

البداية في النص الروائي

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
عواد علي
&
&
لكل نص بداية أياً كان نوعه وجنسه، ولكن اهتمام الدارسين انصبّ على بدايات النصوص الادبية اكثر من غيرها، وافردوا لها ابحاثاً وكتباً درسوا فيها مفهوم (البداية) ووظيفتها واختلافها من نص الى آخر عبر نماذج ادبية عديدة، وبخاصة السردية منها كالرواية والقصة القصيرة.
&وقد اصطلح بعض الدارسين على(البداية) بمرادفات اصطلاحية اخرى مثل: الاستهلال، العتبة، المفتتح، المدخل، وغير ذلك. ومن الأبحاث التي كتبها الدارسون العرب نذكر: بحث ياسين النصير المعنون ( الاستهلال الروائي: ديناميكية البدايات في النص الروائي)، وبحث صبري حافظ (البدايات ووظيفتها في النص القصصي)، وبحث صدوق نور الدين( البداية في النص الروائي).
&يرى نور الدين ان النص الروائي يمتلك اكثر من بداية، فثمة البداية الاصل او الرئيسة، وهي بمثابة العتبة التي تقذف بنا الى رحابة النص، وثمة بدايات اخرى تحتمل ان تكون ثانوية، وتتعلق بالفصول المشكلة للنص الروائي. وهي تعضد ماهو اصلي ورئيسي، وتنوع عليه تفادياً للتواتر الممكن حدوثه على مستوى السرد، اي العلاقة بين عدد المرات التي يظهر فيها الحدث في القصة وعدد المرات التي يروى فيها (او يشار اليه) في النص الروائي، وما ينجم عن ذلك من تكرار، حسبما يذهب( جيرار جينيت). وقد تكون البداية قصيرة قصر ما نعثر عليه في نص قصة قصيرة، كما يمكن ان تمتد لتشمل فصلاً كاملاً من فصول الرواية، وتكون وظيفتها، عادة، تقديم الشخصيات والأحداث في سبيل تفصيلها ضمن الفصول اللاحقة. ويقود الدخول في البداية والشروع في خلق تآلف معها، قارئ الرواية، او المتلقي الى الانتقال مما هو واقعي صوب الخيال الواقعي.
&ويبحث نور الدين في وظيفة البداية وانماطها والعناصر السردية التي تتخللها في خمسة محاور:
&
1- الوظيفة
&&&& تعمل البداية، وهي مكون بنائي، على ضبط مختصر الرواية في العمق، اي محاولة تقديمها ملخصة بدقة وشمولية، ففي اكثر من نص روائي يكفي تعامل القارئ مع البداية لمعرفة ما جريات الاحداث ولواحقها، اذ يتم تفصيل القضايا المخبربها وعرضها انطلاقاً من هذا الملخص او المختصر. ولا يجد نور الدين ضرورة وجود وحدة مركزية تنزع& الى تلخيص النص باحكام في البداية، في ضوء ما رمت اليه بعض النظريات النقدية بخصوص السرديات. فقد تكون حيثما اتفق. ويعزو ذلك الى ان البداية تجسد، في الاساس، حالة من السكون والاستقرار على مستوى السرد الروائي، ويتحول عن هذا السكون التحول صوب التفصيل، وتتداخل الاحداث والازمنة والشخصيات بغية الامتداد بخيط السرد. ويتفق نور الدين مع صبري حافظ على ان البداية تعد من اعقد المكونات المتعلقة بالنص الابداعي واصعبها، فمن خلال احكامها وضبط صياغتها كرؤية لمحتوى العمل بكامله، يجد المتبقي من الاحداث طريقه الى ذهن القارئ المتعامل مع النص.
&&&& ان البداية تضع القارئ في السياق، اذ ما ان يأتي على قراءتها حتى ينساءل: وماذا بعد؟ ما الذي سيكون؟
وما يعقب البداية له صلة بها هي صلة بالمتبقي وبالنهاية في نوع من الانسجام والربط المحكم. وهذا في الواقع ما يؤثر على المتلقي ويجعله يتواصل مع عالم لغوي ينبني في خطاطته على ماهو سائد ومعروف، اي على مرسل، فمرسل اليه بوساطة رسالة لها قيمة ومنفعة متبادلة.
&&&& ويستدل نور الدين على ماجاء به في هذا المحور من خلال استحضار نماذج من البدايات في روايات:( مالك الحزين) لابراهيم أصلان، و(ايام من عدس) لبهوش ياسين، و(الافعى والبحر)لمحمد زفزاف، و(الحوات والقصر)للطاهر وطار، ويقف على اوجه التشابه والاختلاف بين هذه النماذج من حيث الصيغ اللغوية والمتحدث عنه والمكان.
&
2- الصوت السردي
&&& استناداً الى قوله تود وروف" لاوجود لقصة من دون سارد " يتناول نور الدين في هذا المحور العلاقة الجامعة بين البداية والصوت السردي. فهذه المقولة تعني انه لا يوجد سرد لا يملك من يتكفل بملكيته، وبخاصة النصوص السردية الحديثة التي لها ساردوها، ومن خلفهم يقف شخص المؤلف المالك لقدرة فنية على التخيل، وتركيب المختلف من الاشياء. لذا وجد من يبحث في زوايا نظر هؤلاء الساردين، وفي مسرودهم. ان السارد يقدم من خلال السرد ما يرغب فيه من احداث، كما انه يؤخر بعضها، اذ ليس من الضروري الابتداء بما هو البداية اصلاً في الرواية، فقد نلفي الاستهلال هو نهاية الرواية اذا ما تتبعنا ماجريات النص المبدع، ويمكن للنص الروائي الانطلاق من حالة ما صوب حالات منفصمة، متضاربة، الى ان يتحقق السكون، او يستمر الانفصال. ويؤكد نور الدين ان الاحداث، عبر كل هذه التمظهرات الآنية والاسترجاعية، لاتبدو اعتباطية او دون دلالة. انها تكسب معناها في ظل تماسكها وترابطها، او في الصلة بين السا بق منها واللاحق.&&
&&&& وبعد ان يقف نور الدين على صيغتي السرد الداخلية والخارجية وموقع السارد فيهماعلى وفق نظرية السرد الحديثة،& يستدل عليهما في نماذج من البدايات في رواية (الزمن المقيت) لادريس الصغير، و(نجمة اغسطس) لصنع الله ابراهيم، و(عباد الشمس) لسحر خليفة. ويستنتج ان الرؤية سواء اكانت داخلية ام خارجية تستهدف التوجه، اذ الاتيان على البداية بمثابة موضعة للقارئ في المساق الذي اقام صرحة السارد. ومن خلفه شخص المؤلف، فالسارد يخلق تعاقده، ومنذ البدء، مع القارئ، وليس على هذا الاخير سوى اكتشاف نمط السرد، ومن يقوم بوظيفة السارد، وكيف هي الرؤية منذ البداية. ومن هنا يتفق مع (واين بوث) في ان السارد يوجه، في حين ان القارئ يحدد هذا التوجه، ويكشف عنه. وتكون مهمة التوجه خلق تواصل فيما بين زاوية النظر والقارئ.

&
3- منطق الزمن
&&&& يتساءل نور الدين في مستهل هذا المحور: اي زمن تطالعنا به الرواية في البداية؟ ولكي يجلو عن هذا الزمن يميز، أولا، بين الصيغتين المعروفتين للزمن(الزمن الداخلي،والزمن الخارجي) كما حددتهما بعض نظريات السرد الحديثة وبخاصة ما ورد منها في ابحاث(بوتور) و(توماشفسكي).
&&&& ويشير الى انه يفهم منطق الزمن في النص الروائي حسب تعامله مع النصوص التي قرأها، والاشتغال على بعض منها. ويعترف بأن فهمه لذلك قد يكون في المستوى، وقد لايحصل. ومفاد هذا الفهم ان منطق الزمن لايمكن استيعابه الاّ بربطه بالاحداث، فالروائي ينزع الى تقنيات سردية تخالف ما ساد قديماً. انه يقدم ويؤخر ويلخص لأغراض فنية. وعلى هذا الاساس قد يتشكل النص الروائي من وحدات حكائية صغرى هي ما يؤلف الرواية في مجموعها كوحدة كبرى، بيد انه على مستوى الظهور تتناوب هذه الوحدات، بل من الممكن ان تتكرر جوانب منها في بعضها، واللافت في النص الروائي اعتماد تغييب معطيات معينه، ويفترض هذا التغيب ذكاء القارئ كي يصل اليه ويستنتجه، وحتى يكون ثمة اقناع بما يجري ويحدث.
&&&& ويحلل نور الدين في هذا المحور منطق الزمن في بدايات بعض الروايات منها: (النزول الى البحر) لجميل عطية ابراهيم، و(الموت مدى الحياة) لمحمد صوف، و(وليمة لاعشاب البحر) لحيدر حيدر، و(اخطية) لأميل حبيبي. ويستنتج ان الاحداث في بداية الرواية الاولى متماسكة لا منفصمة على مستوى الزمن، وان غياب الاحكام الزمني في بداية الرواية الثانية يسوق الى تفتث الاحداث، وعدم الاقتناع من جانب المتلقي. وبالرغم من ان ما جاء في بداية الرواية الثالثة اعتباطي، فانه يعلق بالمتتالي الذي يشرح السابق ويعلق به سببا. اما بداية الرواية الاخيرة فهي تتألف من حكايتين: الثانية تتناص مع الاولى، وتأتي من خارجها لتعززها، وتوازي متضمنها.
&
4- المكان
&&&& يؤسس نور الدين نظرته الى المكان في بداية النص الروائي اعتماداً على قوله(يوري لوتمان): "ان مشكلة بنية المكان الفني ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمشكلتي الموضوع والمنظور"، ذلك ان طبيعة الموضوع هي ما يحدد المكان المبتغى الحديث عنه، في حين يظل منظور السارد يمتلك خاصة تنماز عما يحمله بقية البشر، فقد يرى المكان من زاوية معينة، بخلاف الرؤية التي يرى بها الآخر اليه. بيد ان المكان في النص يبقى متناهياً ينزع الى محاكاة لا متناه هو العالم الخارجي. وفي ضوء نظرية(لوتمان) ايضاً يذهب نور الدين الى ان صلة المكان الفني القائم في النص باللغة هي صلة الترجمة الى انساق مكونة من رموز واشارات تنهض على غرار انساق اخرى جرى التواضع بخصوصها بين مجموع افراد المجتمع.
&&&& ان التأكيد على مكانية النص في البداية، كما يرى نور الدين، هو تأكيد على احلال القارئ في دائرة مجرى الاحداث، حيث تتفاعل الوقائع وتتعالق مرتبطة بعضها مع بعض، لكن البدايات المكانية التي استهلت بها النصوص الروائية تختلف بتباين الموضوع المتطرق اليه داخل النص الروائي، ولكن الامكنة المهيمنة تشمل: الدار، المدينة، الوطن، اي ما يعرف بالمكان المغلق. اما المفتوح فان نور الدين يأخذ كمثال عنه ما يوجد في المغلق ذاته على شكل فضاء، مثل انموذج المقهى. وتتسم الامكنه المغلقة بالالفة، وقد تحصل الكراهية، في حين ان المفتوحة تدل على الغربة، واذكاء نزعة العدوانية.
&& ومن خلال تعامله مع الرواية يجد نور الدين ان الامكنة المغلقة المهيمنة عليها هي البيت، الى جانب المدينة والوطن. في البيت تمارس الشخصية طقس الفتها، ومن ثم تهيمن بسلطتها على ما يوجد داخله من أشياء ثقافية تفيد منها وتستفيد. ويعد البيت مكان الاحساس الفردي بالوجود، بحكم ان الخروج منه يستدعي الرجوع اليه، على ان الاحساسات تختلف باختلاف الظروف المحيطة بالكائن او الشخصية الروائية داخل البيت، فجو المطر بما يبعثه من دفئ واحساس بالحياة، والوحدانية، لا يضارع الصيف بحرارته ومناخه الجاف، حيث التوق للخارج يتفاقم.
&&& وفي هذا المحور يعود نور الدين مرة اخرى الى رواية ابراهيم اصلان(مالك الحزين)، ليتأمل انموذج البيت فيها، ثم ينتقل الى المكان المفتوح، فيختار المقهى في رواية( الربيع والخريف) لحنا مينا، فالمكان الذي لاهو بالمفتوح ولاهو بالمغلق، اي اللامتناهي، يمثله البحر والغابة والصحراء، كما في رواية(مدن الملح/ التيه) لعبد الرحمن منيف، واخيراً المكان التأديبي (السجن) الذي تفتقد فيه الشخصيات الى الحرية، وتفرض فيه السلطة اقصى حدتها، كما في رواية(السجن) لنبيل سليمان، و(شروق المتوسط) لعبد الرحمن منيف.
&
5- أنماط من البدايات
&&&& يحدد نورالدين، من خلال النصوص الروائية العربية التي قرأها، مجموعة أنماط من البدايات ، أولها مايدعوه بالبداية المتناصة، ويقصد بها البداية التي تستحضر أنموذجا أدبيا معينا بغية اعتماده والحذو على منواله، ويقف في هذا المجال على البدايات الموظفة للأشكال التراثية، حيث ومنذ البدء، تجري موضعة النص في اطار استلهام الموروث القديم في مظاهره وتجلياته، وبخاصة ( ألف ليلة وليلة ) و( أدب الرسائل ) و( فن الخبر ) و( الأسطورة ). وثاني هذه الأنماط ما يطلق عليه البدايات المتعالقة، اي غياب الاعتماد على بداية واحدة موحدة داخل النص الروائي، اذ ثمة اكثر من بداية داخل النص، بيد أن هذه التعددية تفعل على مستوى التوالد السردي، حيث يُقصى التكرار وينتفي التواتر. ويرى نورالين أن هذا النمط من البدايات يتوفر بشل كبير في النصوص الروائية القائمة على توزيع الفصول تحت أسماء الشخصيات، فكل شخصية تستقل بفصل دون توهم الاعتقاد بأن الفصول مفككة لا رابط يحكمها، مثال على ذلك& رواية ( أولاد حارتنا ) لنجيب محفوظ، ( رحال ولد المكي ) لمحمد صوف، و( بيضة الديك ) لمحمد زفزاف، و( لعبة النسيان ) لمحمد برادة . وثالث هذه الأنماط ما يدعوه بالبدايات الواصفة، وهي التي تقدم اضاءة أجواء النص، بيد أن هذه الاضاءة تعمل على تأكيد تفاصيل معينة، مع اسقاط جوانب أخرى لكي يتسنى خلق وصل بين ما قيل في السابق، وبين مايليه ويلحقه. ويقسم نور الين هذا النمط من البدايات الى ثلاثة أشكال : البدايات الواصفة التي تقوم على الشعرية الخالصة، والبدايات الواصفة الناهضة على الزمن، والبدايات الوصفية المشهدية. ومن الروايات العربية التي يقف عليها نورالدين في سياق تناوله لهذا النمط من البدايات: ( رامة والتنين )لأدور الخراط، و( الفريق ) لعبدالله العروي، و( رحيل البحر ) لعزالدين التازي.&&
&
ويختم نورالدين بحثه بمقاربة مفصلة لرواية ( الزيني بركات ) لجمال الغيطاني، من خلال تحليل العنوان والبداية، وصنعة الخيال، والزاوية والصوت، والبداية المتناصة. وهي المقاربة التطبيقية الأكثر نضجا في الكتاب لشمولها مستويات دلالية وفنية أضاءت العديد من أسرار النص الروائي.&&&

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف