عروض مسرحية مفخخة
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
&
&
لعب المسرح دوراً مهماً في حياة العراق السياسية، أو بمعنى آخر، كان المسرح العراقي مسرحاً سياسياً في بداياته، حيث كان قريباً من الشارع العراقي، وكان الكثير من رواده هم من بسطاء الناس الذين لا يفقهون شيئاً من المسرح يواظبون على حضور العروض المسرحية، وخاصة عروض فرقة المسرح الفني الحديث.
نرى أن البداية الحقيقية للمسرح العراقي من هذه الفرقة العريقة التي كانت تضم الصفوة المبدعة لفناني العراق، حيث كان لها دور مهم في الذاكرة الجمعية للإنسان العراقي. وفي أغلب عروض هذه الفرقة العريقة، عادة ما يقطع الجمهور المسرحي العرض بهتافات مناهضة للسلطة في ذلك الوقت وبعد العرض تقوم مظاهرة جماهيرية لجمهور المسرحية من باب قاعة مسرح بغداد لتجوب شوارع بغداد. والسبب هو ما أحدثه العرض المسرحي من إستثارة الحس الوطني لدى الجمهور. وبهذا تكون وظيفة المسرح وظيفة أخرى ليست جمالية فقط.
كانت هذه مقدمة للدخول إلى موضوع ورقتنا هذه، وأرى ان هذه المقدمة ضرورية على الأقل كي لا يضيع حق الفنانين الآخرين في التأسيس لمسرح الثمانينات اذا صح لنا أن نسميه هكذا، بل أجد ان هذه أفضل تسمية " مسرح الثمانينيات " لأنها فعلا كانت فترة غنية ولا تنتمي لاتجاه معين، بل كانت عدة إتجاهات مسرحية. فيها المنهج الكلاسيكي للمخرج الكبير بدري حسون فريد، والمخرج الكبير سامي عبد الحميد في التجريب، والمخرج المبدع قاسم محمد في التراث، والمخرج المبدع محسن العزاوي في المسرح الغنائي، والدكتور صلاح القصب مسرح الصورة وإلغائه للذاكرة الإنفعالية عند الممثل والتي كانت إحدى أهم ركائز نظرية ستانسلافسكي في فن التمثيل. الفنان المبدع عزيز خيون، وبحثه الدائم في محلية النص والمفردة الشعبية. والفنان المبدع الدكتور عوني كرومي، والفنان المبدع ناجي عبد الأمير. هؤلاء لمسنا اتجاهاتهم في الثمانينات بعد سنين من التأسيس والمواظية والبحث في التجريب المسرحي. هناك جيل آخر ظهر في الساحة الفنية في الثمانينات وتشكلت تجربته في النصف الثاني من الثمانينات، لكن هذا الجيل إنتهج خطاً خاصاً به وهو الاحتجاج على الوضع السياسي ورفضه للحرب الأولى والحروب التالية. وبما أن كل شئ ممنوع عليك إظهار الولاء للحزب الواحد والقائد الأوحد، وبعكس كل ذلك فإن مصيرك المقصلة بإعتبارك خائن. ولهذا كانت تجربة هذا الجيل من المخرجين الشباب تجربة تستحق المتابعة والدراسة لأنها ثورة على ما هو سائد آنذاك. ومن هذا المنطلق أعرِّج على عروضهم المسرحية والتي أطلقت عليها عروض مفخخة، لأنها فعلا كذلك، ولأنها إتسمت بالجرأة والتحدي، بالإضافة إلى الجانب الفني الذي يدل على وعي كبير يقف وراء هذه التجارب المسرحية. جيل ولد في أحضان الحروب، إذاً لابد أن تترك هذه الحروب تأثيرها عليه في كل الجوانب، سواء كانت فكرية أو نفسية أو حتى مادية. لهذا نرى أن هذا الجيل قد صب جام غضبه على السلطة من خلال المسرح لأنها المتنفس الوحيد له. في يوم ما سأل سارتر حول شعوره بالحرية بعد الإحتلال النازي لفرنسا، قال " كنت أتمتع بحرية أكبر في زمن الاحتلال النازي، لأننا كنا نعبِّر عن حريتنا بطريقة أخرى كلها رعب وفزع مخافة من إكتشاف أمرنا من خلال كتابتنا لشعارات معادية للنازية على الجدران بالقرب من القوات الألمانية. هذه هي الحرية الحقيقية.". كانت العروض المسرحية تحت الإحتلال البعثي- الصدامي للعراق أشبه بحالة سارتر أثناء الإحتلال النازي لفرنسا. كانت هذه العروض تعبِّر عن حريتها بتأويلات بعيدة عن أنظار رجال الإحتلال الصدامي للعراقي. هذه قمة السعادة بالنسبة للمسرحيين وهذه هي الحرية الحقيقية التي نتمتع بها، وقد كانت حرية كبيرة رغم قصر فترتها، بإعتبار هذه الفترة مقترنة بزمن العرض المسرحي. وفي أغلب الاحيان يُصِّر المسرحيون على قول كلمتهم. ليس المهم جميع من في القاعة يفهم العمل أو تصل إليه الشفرات المسرحية التي وظفها المخرج، ولكن المهم أني قد قلت كلمتي. وهناك عروض مسرحية كانت أكثر من جريئة، و أعني بالجرأة هنا ليست المباشرة السطحية بالعرض المسرحي.
&
مسرح الحرب:
كانت أغلب عروض مسرح الثمانينات تدور حول ثيمة واحدة وهي الحرب. حتى أن دائرة السينما والمسرح نظمت مهرجاناً مسرحياً يحمل إسم مسرح الحرب، لكن أغلب هذه العروض كانت فيها إدانة واضحة للحرب رغم أن هذا كان ضد توجه وغاية المهرجان، حيث تحمل وزر هذه الإدانة في أغلب الأحيان الشباب. وإشترك مخرجون كبار في هذا المهرجان، لكن أغلب عروضهم كانت تصب في توجه آخر هو التوجه التعبوي الذي تريده السلطة للحرب.
وهناك بالتأكيد أمثلة كثيرة لهذه العروض لعل أشهرها ما قدمه يوسف الصائغ وقاسم محمد في مسرحية " العودة ". حيث تطرح العودة قضية جندي عراقي قرر عدم الذهاب إلى الحرب، لكنه واجه مشاكل عديدة منها تخلي زوجته عنه لأنه رفض الذهاب للحرب، وكذلك عائلته تخلت عنه، حتى شعر أنه شخص غير مرغوب فيه في البيت " المجتمع "، لأنه رفض أن يكون مشروع " إستشهاد" للسلطة، وفي الأخير يقرر العودة، ولهذا حملت المسرحية العودة عنواناً لها.(1)
السلطة التي أرادت ان تحول كل العراقين إلى مشاريع " إستشهاد" من أجل ديمومتها، والتي ينطبق عليها قول رولان بارت "السلطة تسخر كل الأشياء من اجل خدمة مصالحها، بل تسخِّر حتى مولود المتعة الجنسية كي يكون جندياً صالحاً لخدمتها" (2)
&
عروض مفخخة:
يقول البير كامو " ليس النضال الذي يدفعنا أن نكون فنانين، بل الفن الذي يفرض علينا أن نكون مناضلين". الجيل المسرحي الشاب كان بالفعل هذا المناضل الذي أراده كامو في الفن.عروض مفخخة هذه أنسب تسمية للعروض التي كانت تقدم في الداخل، وهي بالفعل عروض مفخخة، الجمهور هو الذي يضغط على زرها لغرض تفجيرها. هذه العروض المفخخة كان يتحمل الشباب عواقبها. وبالتأكيد ليس كل الشباب ولكن لا ضير من ذكر عروض مسرحية كادت تفتك بمخرجيها وممثليها ومؤلفيها، وهذا ما سنعود إليه لاحقاً. وكانت هذه العروض أو هذا (التفخيخ) هو إنعكاس لواقع مرير عاشه العراقيون، وكانت الحروب التي مرَّ بها البلد، والواقع السياسي للحزب، صاحبة التأثير الأكبر على هذه العروض. أخذ الشباب بتشفير كل شئ على المسرح وإعطائه تأويل يعكس الحالة العراقية والواقع السياسي في العراق. في بعض الأحيان، عمل الشباب المسرحي العراقي الواعي على إنتاج نصوص لا تثير أي شك من قبل الرقيب، بإعتبار أن النصوص يجب أن تمر على رقيب أو لجنة فحص النصوص لكل نص يقدم للإنتاج " باستثناء عروض الفرقة القومية للتمثيل، ومعهد الفنون الجميلة وأكاديمية الفنون الجميلة " بإعتبارها مؤسسات تابعة للدولة. وهذه اللجنة تعطي صك الغفران بكتابة عبارة " صالح من ناحية السلامة الفكرية " على النص المقدم للجنة بعد قراءته. وهذه " السلامة الفكرية " هي التي تهدد السلطة، أي أن النص لا يتعارض مع توجهات السلطة، أو بمعنى آخر لا يحتوي شيئاً ضد توجيهات الحزب. قد يقول قائل لماذا تكتبون الآن عن العروض المسرحية المفخخة؟ أقول كان لابد أن نصمت سابقاً، وأن لا نشير إليها مخافة على أصدقائنا المبدعين في الداخل. والآن نقولها للتاريخ، من أجل عدم تجاهل أعمالهم ونسيان مواقفهم بعد أن كممت الأفواه. العروض المفخخة التي أحدثت ضجة كبيرة في حينها: مسرحية " سور الصين " في عرض معهد الفنون الجميلة والعرض الثاني في المسرح الوطني. وقد كان عرض المسرح الوطني بإسم الفرقة القومية للتمثيل، وعرض معهد الفنون الجميلة بإسم المعهد كأطروحة تخرج. كان هناك عرض بين العرضين على مسرح الرشيد باسم فرقة مسرح اليوم. لقد فسر هذا المبدع المشهد الأخير في مسرحية "سور الصين" حين يسمع الإمبراطور جلجلة خارج قصره، فيسأل وزيره:
مالذي يحدث في الخارج؟
الوزير: إنها الثورة يا مولاي. (3)
إلى هنا وكل شئ طبيعي. الثورة ليست في العراق، إنها في الصين. وقد حدثت قبل عشرات السنين، لكن ما فعله منعثر في هذا المشهد وكأن الثورة قد حدثت في العراق وليس في الصين. حيث أدخل الثوار على القصر وهم بقايا شعب، وكان هذا الشعب هم مجموعة معاقين يرتدون الملابس العسكرية العراقية، جزء منهم فقد أطرافه في الحرب، والثاني مقعد والثالث تحمله عكاز. أذن هي الحرب يا مولاي، والشعب الذي إضطهدته سنوات، هاهو يقوم بالثورة، ومن تبقى من ضحايا حروبك عادوا من الحرب بقايا بشر. أليس هذا تأويلاً في قمة الوعي لشاب يمثل جيل طحنته الحروب؟ وليس غريباً حينما قال مبدعنا الكبير إبراهيم جلال حين شاهد المسرحية بعد إعادتها في مسرح الرشيد، قال المبدع الكبير جلال " لقد أخافني هذا المنعثر "، قاصداً حيدر منعثر في مسرحية " سور الصين ". وفي مثال آخر نجد كاظم النصار وعبد الخالق كيطان في مسرحية " حياة مدجنة ". وكيف أصبح الإنسان في زمن الحرب إنساناً مدجناً. لقد دجنته الحروب بكوارثها المفزعة في الذاكرة الجمعية للفرد العراقي.
ويحاول أحمد حسن موسى إستنطاق الغياب في مسرحية " سيمفونية الانتظار "، ونرى الشعب عند موسى كله في حالة إنتظار، ينتظر المنقذ، لكن هذا المنقذ لا يأتي، وتبقى الأمهات والحبيبات والأبناء والآباء في حالة إنتظار دائم. وقبلها كان قد أدهشنا وصدمنا معاً في مسرحية ضحايا الواجب، حين أصبحنا جميعاً ضحايا لواجب كان يجب علينا تأديته مرغمين. وصوَّر جبار المشهداني في مسرحية " عائلة توت "، عملية تحويل الإنسان العراقي إلى آلة بيد السلطة. لقد حولنا جبار جميعاً إلى خراب دراجات هوائية معلقة أحياناً بالسماء وأحيانا أخرى بلا دواليب، إنها الحرب التي أعادت لنا الأحبة عبارة عن أشلاء أو بقايا أشلاء. في مسرحية " الليل قرص الشمس " لياسين إسماعيل تناول ياسين الحرب من خلال عائلة وما تركته الحروب من آثار عليها كرمز للعائلة العراقية، وهو التفسخ الأخلاقي داخل العائلة - الوطن، بعد أن غيبت الحرب كل القيم والتقاليد في المجتمع العراقي.
أما غانم حميد فقد وظف عدة رموز ومنها الراديو في مسرحية " الذي ظل في هذيانه يقظاً " في مشهد صارخ ضد السلطة وضد كل ما ينتمي إلى التاريخ الدموي في العراق. يحدث هذا المشهد داخل إحدى المواقع في الجبهة في أثناء الحرب، حيث يفتح أحد الجنود الراديو لسماع أغنية بعد أن ضجر من سماع دوي القنابل، لكنه لا يسمع أغنية، بل يسمع موسيقى بداية الأخبار، وحين سماعها يهم لإغلاق الراديو، لكن الجندي الآخر شريكه في الموقع يقفز مرعوباً لاعادة فتح الراديو ويتلفت يميناً ويساراً خائفاً أن يراهم أحد وبالتالي فانه ليس الوحيد من قام بإغلاق الراديو سوف يعدم، " باعتبار أن الأخبار رمزاً للسلطة وإطلالتها " لأنه لم يبلغ عليه، وهذه معادلة السلطة، وهي " يعدم كل من تستر على شخص يحمل العداء للسلطة ". هذا مشهد سخرية كاملة لوضع عام يعيشه العراقيون في الداخل، تناوله غانم حميد بدون أي حوارٍ مسرحي بين الشخصيات، فقط فعل " إغلاق وفتح الراديو = قبول ورفض السلطة ". وإستمرت هذه العملية بين الجنديين عدة دقائق. هذا رفض لوضع سائد لكننا مجبرين في التعامل معه وليس من حقنا قول كلمة لا. ويعمد قاسم عباس في مسرحية " مكبث " على قتل مكدف في المشهد الاخير من قبل مكبث، وعندما سألته لماذا قتلت مكدف ؟ قال: كل المناضلين الحقيقيين والشرفاء في هذا الوطن هم أول من يقتل. أليست هذه جرأة في التفسير وتأويل النصوص المسرحية في عراق ملئ بفرق الإعدام. وهناك عروض لا بأس من الإشارة إليها والى مخرجيها، وهي تدور ضمن سياق قراءتنا هذه. كريم رشيد في مسرحية " الحر الرياحي "، حنين مانع في مسرحية " لعبة الخيول " ، والمبدع المرحوم حامد خضر في عدة عروض اهمها " في دائرة العلاقات "، وعباس الحربي في عدة عروض أهمها " النهضة " مخرجاً ومؤلفاً و" بير وشناشيل " مؤلفاً. سالم تعبان في مسرحية " أرقام بلا دلالة "، المخرج الشاب المبدع قاسم محمد زيدان " ليس مخرجنا الكبير قاسم محمد "، في عدة مسرحيات منها " الرخ، كاليغولا، وإنتظريني ايتها السنوات ". والمخرج المبدع هادي المهدي في عدة عروض مهمة منها " وداعاً أيها العالم الغريب، والأمير ". ورحمن عبد الحسين في مسرحية " سقوط تيمورلنك ". هذه نماذج قليلة لجيل مسرحي مهم، جلهم من الشباب، تبنوا العراق قضية على المسرح. لم يتاجروا وينظروا تحت يافطة - الفن للفن - بل كانوا على يقين بان كل شئ في المسرح هو محاكاة لشئ خارج المسرح كما يخبرنا بيتر بروك.(4) هذا مع الإعتذار لأسماء وأعمال أخرى لم تسعفنا الذاكرة هنا لتناولهم.
في التسعينات بعد حرب الخليج الثانية، كان المسرح مطية للسلطة، وليس كل العروض بالتأكيد ولكن أغلب تلك العروض. حيث كانت تلك العروض المسرحية ذا توجه تعبوي بحت. وقد سارت على خط خطاب السلطة الذي يضرب على أوتار حساسة مثل: " قضية الحصار وتأثيرها على الشعب العراقي، إدانة الهجرات الجماعية لأبناء العراق، العزف على وتر الحنين والعودة إلى الوطن بالنسبة للمغتربين. " وقد كان معظم هذا يتم عن طريق التوجه الإعلامي الذي تبنته السلطة. إذن يتضح هنا أن السلطة في مرحلة الثمانينات كانت قد روَّجت للمسرح التجاري الاستهلاكي كوسيلة ترفيهية، حيث جاء هذا على حساب الفن وحساب المسرح التقدمي المتطور، والذي هو ذو رسالة إنسانية عظيمة. وفي التسعينات كثفت السلطة من دعمها للمسرح التعبوي للأسباب التي ذكرت سابقاً. وللأسف الشديد فإن عدداً من المسرحيين سعى جاهداً لان يكون جزءاً من هذه اللعبة القذرة في تشويه رسالة المسرح السامية، وذلك من أجل تحقيق مكاسب شخصية منها تحسين وضعه المادي أو سفرة خارج العراق. ومع ذلك يجب علينا ألا نقيم لهم محاكم تفتيش، وننهج نهجاً جديداً إنطلاقا من رأي الفلسفة الحديثة " إن الإنسان: هو حيوان وليست خطاياه نتيجة للإرادة الحرة، وإنما هي نتيجة للضغط الإجتماعي والظروف". (5) وعليه يجب علينا أن نناضل من أجل الفن وإعادة صورة المسرح الحقيقية في العراق الجديد.
&
هوامش ومراجع البحث:
ينظر يوسف الصائغ، مسرحية " العودة ".
رولان بارت، نقد وحقيقة.
ماكس فريش، مسرحية " سور الصين ".
النقطة المتحولة، أربعون عاما في إكتشاف المسرح، بيتر بروك.
كولن ولسن، سقوط الحضارة
&
&
فنان مسرحي
عراقي/هولندا
ahmadsharji@hotmail.com
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف