كريم مروة:خزين مرجعي سـياسي
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
من الصعب، ان لم يكن من المستحيل، ان يتطوع المعلق على هذا الكتاب للدخول على متن النص، صيغة واسلوبا وشخصيات ووقائع. وربما تكون المهمة في الاساس غير واقعية، بالنسبة اليّ على الاقل. ولذلك فان ما احب ان اتوقّف عنده في الكتاب لا يدخل في باب الوصف والتحليل. بل هو يتناول بعض لقطات تشير الى رهافة الحس الادبي عند الكاتبين في نقل الوقائع، من جهة، والى عمق النقد عندهما للواقع الظالم بأبعاده كلها السياسية والاجتماعية والانسانية، من جهة ثانية.
اول هذه اللقطات يتمثل في الرواية التي تتعلق بالظروف والاسباب التي قادت رفعة الجادرجي الى السجن، والشروط التي تم فيها اعتقاله. تليها الرواية المتعلقة بالظروف والاسباب التي ادت الى اخراجه من السجن، والشروط التي تم فيها نقله من ظلمة السجن الى حرية مفتعلة مثقلة بالقلق، رغم انها كانت حرية، بمعنى التحرر من قيود الظلمة والظلام والـظلامية.
يروي رفعة انه دخل الى السجن بسبب علاقته بعمل هو من صلب مهنته الهندسية الراقية. ويروي انه خرج من السجن بسبب علاقته بمهنته وبالكفاءة التي تمتع بها في ممارسة هذه المهنة. وفي كلتا الحالتين كان للقرار الرئاسي الاستبدادي دوره الحاسم. فاذا كان القرار الاول تعبيرا نموذجيا عن طبيعة المستبد الظالم، فان القرار الثاني، كونه ارتبط بمهمة تبدو في الظاهر وطنية، لم يختلف في جوهره عن الطبيعة الظالمة ذاتها للمستبد ذاته. اذ لا يوجد مستبد ظالم ومستبد عادل. فالمستبد هو مستبد. ولا صفة له غير تلك الصفة بكل معانيها وبكل ما يتولد عنها.
الا ان الجانب الدرامي من الرواية المتعلق بخروج رفعة من السجن، انما يبرز بوضوح عندما استدعاه مدير السجن، بعد تحريره، لكي يتمم المعاملات الادارية التي بموجبها يخرج السجين من السجن، حتى لا يبقى، وهو في الحرية، مسجلا في دوائر السجون واحدا من نزلائها. الدراما تتمثل في لقاء رفعة بزملاء الامس الذين رأوا صورته في التلفزيون الى جانب رئيس الجمهورية، حيث الالتباس يبدو واضحا عند هؤلاء، بين التشكيك به والرغبة الحقيقية عندهم في استخدام علاقاته الجديدة من اجل تحريرهم.
هذا من جهة. وتظهر الدراما، من جهة ثانية، ربما اكثر قسوة عندما يطلب مدير السجن من رفعة مساعدته حتى لا ينقل الى المنطقة الكردية، خوفا من ان يقتله الاكراد هناك. وفي كلتا الحالتين يبرز عند رفعة الصدق في مشاعر الارتباك، وهي مشاعر انسانية حقيقية، امام نوعين من الناس مختلفين في الموقع وفي المعاناة، السجين، من جهة، والسجان من جهة ثانية. وكلاهما، برغم موقعيهما المختلفين النقيضين، ضحية السجان الكبير، صاحب السلطة والسلطان المستبد.
ومن طرائف مرحلة الخروج من السجن ان كلمة السر للدخول الى قصر الرئاسة، الكلمة التي بموجبها تفتح الابواب الموصدة، هي اسم رفعة الجادرجي، السجين الخارج من السجن الى حرية قيد الدرس مقرونة بمهمة رئاسية، اعطيت طابع المهمة الوطنية. وهي مهنة بناء مجمع لاستضافة مؤتمر عدم الانحياز في بغداد. وتبدو المفارقة، كما اراها هنا، في اعلى تجلياتها الدرامية.
اما الموجع في رواية بلقيس لحالتها في الظلمة الثانية التي كانت فيها شبه وحيدة، فهو انها بحكم كونها زوجة سجين، تحولت الى امرأة وحيدة. اذ ان الكثيرين بدأوا يبتعدون عنها، بمن فيهم عدد من اقرب الاصدقاء. وهي حالة درامية اخرى تشير الى صرامة الوضع داخل انظمة الاستبداد العربية. وفي حالة بلقيس التي كانت فيها سجينة في شكل مختلف تتقارب المعاناة وتتوحد في اختلاف اسبابها واشكال تجليها في الوقائع.
لكن الأطرف والامتع والاجمل بين تفاصيل تلك الوقائع في رواية كل من بلقيس ورفعة هو ان رفعة قد تمكّن من قراءة 165 كتاباً ومقتطفات ونصوصا مختارة من 120 كتابا، كانت تزوده بها بلقيس، بالوسائل المتاحة. وقد اتاح هذا العدد من الكتب ومن القراءات لرفعة ان يكتب في السجن ثلاثة من كتبه المعروفة وقسما كبيرا من الكتاب الرابع. وقد اتيح لي ان اقرأ واحدا من اجمل هذه الكتب، وهو كتابه عن والده كامل الجادرجي بعنوان: صورة أب. ويعتبر هذا الكتاب، في تقويمي له، من افضل الكتب التي تتناول سيرة الآباء بقلم ابنائهم. اذ ينجح رفعة في التمايز، رغم صعوبة المهمة، عن مشاعره كابن لذلك الاب، ليروي بحيادية راقية سيرة والده في مجالاتها الانسانية والسياسية.
ويغري الكتاب بتقديم المزيد من الطرائف والاحداث بأنواعها المختلفة، لولا انني اشعر ان الاكثار من نقلها يعطّل على القارئ متعة القراءة ومتعة التقاط العناصر الجميلة التي يحفل بها النص.
الا ان الكتاب يشكّل، بالنسبة اليّ، مدخلا الى ثلاثة عناوين احب ان اقدم هنا بعضا من قراءتي لأهمية ما تنطوي عليه. العنوان الاول يتمثل في ما ذهب اليه رفعة في التمهيد للكتاب بقوله ان اقدامه مع بلقيس على تسجيل هذه الاحداث يرمي، ولو جزئيا، الى تأليف خزين مرجعي سياسي بمرور الزمن. وهو يقول بالنص: "نحن نعتقد ان الفكر السياسي في العراق لن ينمو ويتطور وينضج ما لم يتكون خزين مرجعي صادق ومحلل للأحداث. نقول هذا لأن المجتمع العراقي عامة ما يزال غير ممتلك للخزين المناسب ليتمكن من تفعيله والاعتماد عليه، وليتمكن من إحداث النقلة المتطلبة نحو الحداثة، حيث يتمتع المواطن بحقوق الانسان. فهو مجتمع لم يزل فطريا في مرجعياته ومواقـفه من الوجـود. واغلبه غارق بغيبيات واساطير فات زمانها، واصبحت تؤلـف معوقا فكريا يمـنعـه من مـواجهة متطـلـبـات الحداثة وقبولها والتكيف معها وتنميتها وانضاجها وابتكار الجديد منها".
غير ان هذا الرأي ليس جديدا عند رفعة الجادرجي. فقد اعلنه في صيغ مختلفة في كتبه وكتاباته العديدة. ولعله يريد، اليوم، وهو يذكّر مع بلقيس بأحداث مريرة سابقة ولاحقة على سجنه، ان يطرح للنقاش قضية جوهرية تتعلق بكيفية خروج العراق من دوامة ذلك التاريخ الطويل من معاناته. وهي& مهمة قد توفر شروطها، اليوم، في ظل صعوبات وتعقيدات لا حدود لها، الاوضاع التي اعقبت انهيار نظام الاستبداد، الانهيار الذي لم يتم بقوى الشعب العـراقـي، يا لـلمـفارقة، بل بحرب خاضتها قوى خارجية لأهداف تتعلق باسـتراتيـجــياتها هي، من دون اي حساب لمصالح العراق، شعبا ودولة وكيانا.
وهذا الواقع الجديد بمفارقاته وتناقضاته انما يطرح سؤالا كبيرا لم تنضج بعد شروط حقيقية للاجابة عنه:
لماذا اصبحت شعوبنا امام قدر داخلي محكومة به، غير قادرة على تجاوزه والتحرر منه بامكاناتها الذاتية؟ قدر الخضوع لأنظمة استبداد لا تتغير ولا تتبدل الا بموت اصحابها، او بانقلابات من الطبيعة ذاتها تطيح بهم وبها، او بتدخل خارجي من نوع ما حصل في العراق. وكل تدخل خارجي، اياً كان شكله ونوعه، واية كانت مبرراته، لا يمكن الا ان يحمل للبلد المستهدف المخاطر الكبيرة على حاضره ومستقبله.
هذا هو العنوان الاول. اما العنوان الثاني الذي يوحي لي الكتاب به فهو ما يتصل برفعة الجادرجي بالذات. ذلك ان اهمية رفعة لا تنحصر في كونه مهندسا مـعـماريا من الطراز الرفيع، تنتصب انجازاته في انحاء مختلفة من العراق والعالم لتدل عليه. فهو، الى جانب اهميته كمهندس معماري، مفكر معماري، ومفكر فلسفي، ومفكر سياسي. وتشير الى هذه العناصر المكونة لفكره كتاباته العديدة، وكتبه، وآخرها هذا الكتاب المشترك مع بلقيس. وفي ظني فان بلقيس شريكة لرفعة في امور عديدة لا املك تحديدها، وان كـانـت تدل عليها وتشير اليها كتابات بلقيس الجميلة الغنية بالافكار، والمليئة بالمعاناة التي منها ومعها تولد الافكار.
لكن العنوان الثالث يتجاوز شخص كل من بلقيس ورفعة، على اهمية كل منهما في تاريخه النضالي، الى عائلة كل منهما، عائلة كامل الجادرجي وعائلة محمد شرارة. فلكل من الجادرجي وشرارة شخصية مستقلة متميزة. فاذا كان كامل الجادرجي زعيم الحزب الوطني الديموقراطي ومؤسسه قد شكل مدرسة في العمل السياسي الديموقراطي خلال عقود عدة، فان محمد شرارة الاديب والشاعر والمناضل السياسي قد شكل مدرسة من نوع آخر في الالتزام بالاشتراكية، هذا الالتزام الذي دفع شرارة بسببه ثمنا باهظا من حياته وحياة عائلته، كان آخر فصولها الفصل المتعلق بابنته حياة الاديبة المعروفة والمناضلة التي صمدت في موقفها وفي موقعها حتى آخر نفس من الحياة. واشهد اني مدين لمحمد شرارة، ولرفيق دربه حسين مروة، بما قدماه لي، خلال وجودي في العراق في مطلع شبابي. وما قدماه لي شكّل الاساس بالنسبة اليّ في اختيار الطريق الذي ما زلت ملتزما به سياسيا واخلاقيا، منذ ما يزيد عن نصف قرن.
بلقيس ورفعة ينتميان، اذن، الى تراث فكري ونضالي، ترك اثره الواضح فيهما. ويشكّْل هذا الكتاب واحدا من اشكال التعبير الجلي عن هذا الاثر.
هذه العناوين الثلاثة التي اقتطعها من جملة عناوين تجعلني، وانا اتحدث عن كتاب بلقيس ورفعة، في موقع الاعتزاز بصداقة تربطني بهما، وبصداقة ربطتني بعائلتيهما. واذا كانت الصداقة مع الابوين قد علمتني الكثير، فان صداقتي معهما تقدم لي مزيدا من المعرفة بهما، وتجعلني في الموقع ذاته الذي ينتميان اليه. وهو& موقع البحث الجدي والمسؤول عن المعرفة العصرية التي تشكل شرطا ضروريا لا نستطيع من دون توافره ان ننقل بلداننا الى العصر، والى الحداثة، اي الى التقدم والحرية، اي الى الديموقراطية في مستوياتها السياسية والاجتماعية والثقافية.
شكرا لبلقيس ورفعة على ما قدماه لنا في كتابهما الجميل هذا، الذي يثري المكتبة العربية بالشهادات الحية على الاستبداد الذي دمر حياة شعوبنا على امتداد عقود عديدة. كما يثري المكتبة العربية بالأمثلة المتعددة للنضال من اجل تحرير بلداننا من ظلم وظلام وظلامية انظمة الاستبداد هذه.
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف