المجتمع التقليدي والمرويّات الكبرى
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
&
المرويات الكبرى، هي: تلك النصوص التأسيسية التي تصوغ تصورات الإنسان عن نفسه وعن الآخر، أو تسهم بدرجة كبيرة في صوغها، ومثالها الأكثر وضوحا: النصوص الدينية وحواشيها من شروح وتفسيرات، والتواريخ الدورية التمجيدية العامّة، وفي الدرجة الثانية: الآداب الجغرافية، السير الشعبية، والحكايات الخرافية، والملاحم، ونصطلح عليها بـ( المرويات) بغض النظر عن الصيغة الأسلوبية لها سواء أكانت شفوية أم كتابية؛& لأنها تقدم رواية الذات عن نفسها وعن الآخر مستفيدة من التصورات الشاملة للمخيال الجماعي عند الأمم، وتتضافر المرويات الكبرى في المجتمعات التقليدية بخاصة، من أجل تمثيل الذات والآخر، تمثيلا سرديا Narrative Representation استناداً إلى آلية مزدوجة الفاعلية تأخذ شكلين: ففيما يخص الذات ينتج" التمثيل السردي " الذي تقوم به تلك المرويات الكبرى ذاتاً نقيّة، وحيويّة وفعّالة، ومتعالية، ومتضمّنة الصواب المطلق، والقيم الرفيعة، والحق الدائم، وفيما يخص الآخر ينتج ذلك "التمثيل" "آخر" يشوبه التوتر والالتباس والانفعال والمروق أحياناً، والخمول والكسل أحياناً أخرى، ويقع أحيانا ما هو أكثر من ذلك، حينما تسم& الآخر بالضلال والحيوانية والتوحش والبوهيمية، فكانة كتلة غامضة من الشر الدائم، إذ يحُمّل الآخر بقيم رتّبت بتدرّج لتكون في تعارض مع قيم الأنا، فيصطنع "التمثيل" تمايزاً بين الذات والآخر، يفضي إلى متوالية من التعارضات التي تسهّل إمكانية أن يقوم الطرف الأول(=الذات) في اختراق الثاني(= الآخر) لتخليصه من خموله وضلاله وبوهيميته ووحشيته، وإدراجه في عالم الحق، إما بالحرب المقدسة(=الجهاد) أو بالدعوة للتطهر من الفساد القيمي والأخلاقي، والاندراج في المسار المستقيم، لأن المرويات الكبرى تقدم سردا مخصوصا شديد الاحتفاء بالذات، يجعل منها مركز الحق الدائم في منأى عن& تطورات الزمان وتغيرات والمكان، لأنها تعوم فوق التاريخ، وفوق السياقات الثقافية والتاريخية والاجتماعية، تلحق بها تفسيراتها وشروحها، وتدعمها، وتعززها، ولاتستنبط منها أية قيم معرفية سوى تعميق الأوهام الكبرى بها. تضعها& وسط سياج مغلق كيلا يطالها تفسير مفتوح، وكيلا تجيب عن الأسئلة المباشرة والمتجدّدة لمشاكل الإنسان، الذي ينبغي عليه فقط أن يقترح طرقا للإنخراط فيما تقرره، وتنص عليه، فالمجتمعات البشرية ينبغي أن تصاغ على غرار المجتمعات النصية التي& توحي بها المرويات الكبرى.
&&& يندر الحديث عن تمثيل محايد، فالمرويات الكبرى سرديات شاملة لا تعرف البراءة في التمثيل، وليست شفافة، إنما تشتبك مع مرجعياتها في نوع من التمثيل الكثيف، وتصوغها صوغا رمزيا، فترشح من تضاعيفها كل المواقف القيمية والثقافية الخاصة بها، وتتمحور مراكزها حول حبكة مخصوصة تضخ باستمرار قيما مطلقة، تلك الحبكة تمثّل الفكر المتمركز على نفسه خير تمثيل، لأن المرويات الكبرى معتصمة بذاتها، ومنكفئة عليها، ولها آلية تتحصن بها خلف أسوار منيعة، تقصي فيها الآخر وتشوه حالته الإنسانية.&&&&&&
&&&&&&&&&&& تؤثر المرويات الكبرى وتتأثر بفكرة التمركز حول الذات، فهي تترد في مجالين خاصين بذلك الموضوع، فمن جهة أولى تنتج التمركز عبر التمثيل، ومن جهة ثانية تعبر عنه خير تعبير، والتمركز حول الذات نمط من التفكير المترفّع الذي ينغلق على الذات تماما، ويحصر نفسه في منهج معين، ينحبس فيه ولا يقارب الأشياء إلا عبر رؤيته ومقولاته. ويوظف كل المعطيات من أجل تأكيد صحة مقولاته، وهو نوع من التعلق بتصوّر مزدوج عن الذات والآخر، تصوّر يقوم على التمايز والتراتب والتعالي يتشكّل عبر الزمن بناء على ترداف متواصل ومتماثل لمرويات تلوح فيها بوضوح صورة انتقيت بدقة لمواجهة ضغوط كثيرة. ويحتاج هذا النمط من التفكير إلى نقد متحرر من أية مرجعية ثابتة، سواء كانت عرقية أو دينية أو ثقافية، فالمرجعية التي يمكن اعتبارها الموجّه لذلك النقد هي الممارسة النقدية التحليلية الجريئة التي تتعرّض لفك التداخل بين الظواهر التي تلازمت فأوجدت هذا التفكير الذي يقوم على الرغبة والحاجة، وليس على جمع المعطيات الكلية التي توفر له درجة من الموضوعية والحياد والصدق.
&&&&&&&&&&& تمثل تلك المرويات الكبرى ذاكرة يصار إلى استعادتها طبقا لحاجات متصلة بالوعي الجماعي التقليدي في ظروف معينة من أجل أهداف مشتركة، فالماضي يدفع به ليكون جزءا من صراعات الحاضر، وهذا الاستخدام لمعطيات الماضي، يجعله مباحا، وقابلا للاختلاق في كل موضوع يستعصي على الحل، وهو، فيما نرى، يحجب النظر عن القضايا الحساسة، ويتسبب في عماء دائم، يحول دون التفكير الموضوعي بالواقع، فكل مركزية تقوم على فكرة الاختلاق السردي الخاص لماض مرغوب ومتخيّل يشبع تطلعات آنية، ويوافق رغبات قائمة، فهذه سُنن المركزيات الدينية والثقافية والعرقية، وبمواجهة الحاجة إلى توازن ما تُصطنع ذاكرة توافق تلك التطلّعات، أو يتم تعويم صور من الماضي، لغايات خاصة، فالبحث المسكون بأوهام كبرى للانتساب إلى ماض عريق كمعادل موضوعي لوهن قائم، أو لانتزاع شرعية في عالم محتدم بصراع الهويات والتطلعات والآمال، ومشبع في الوقت نفسه بحالات انكسار للقيم التقليدية الموروثة، وانهيار لنسق العلاقات القديمة، ينشط تفسيرات مغلقة للمرويات الكبرى، ويضخّ فيها رغبات دائمة تريد استخدام الماضي استخداما أيدلوجيا بما يضفي على الأنا سموّا ورفعة، والآخر خفضا ودونية.
&&&&&&&&&&&&& إعادة قراءة المرويات الكبرى في ضوء هذه الحاجات، تسهم في هذا الضرب من الصراعات، فالأمم تتساجل فيما بينها- أيضا- عبر الصور الاكراهية التي تشكلها بواسطة السرود لغيرها، واستنطاق تلك المرويات إنما هو استنطاق لذاكرة. ونقدها إنما هو محاولة لوقف استخدامها كأيدلوجيا حيّة في نزاعات معاصرة، ولم يكن تشويه الآخر، قد أثمر عن فائدة حقيقية، ولن يكون ممكنا وقف ذلك إلا استنادا إلى رؤية نقدية تفضح ذلك النسغ المتصاعد في الفكر والسلوك المعاصرين.
&&& لو نظرنا إلى المرويات الكبرى في الثقافة الإسلامية، طوال القرون الوسطى لتبين بجلاء أن صورة الآخر مشوّشة، ومركّبة بدرجة كبيرة من التشويه الذي يحيل على أن المخيال الإسلامي المعبّر رمزيا وتمثيليا عن تصور المسلمين للعالم،& أنتج صورا تبخيسية للآخر، فالعالم خارج دار الإسلام (= مفهوم شائع للدولة الدينية في القرون الوسطى يوضع بمواجهة دار الحرب أو دار الكفر، وبينهما تظهر، في بعض الأحيان، دار العهد أو دار الصلح)كما قامت تلك المرويات بتمثيله، غفل، مبهم، بعيد عن الحق، وهو بانتظار عقيدة صحيحة لإنقاذه من ضلاله، ولا تخفى التحيّزات الخاصة بذلك التمثيل، وكانت صورة الآخر الدونية مثار قبول واحتفاء في كثير من الأحيان لدى& المفسرين، والفقهاء، والمؤرخين، والجغرافيين، والأدباء، والرحالة، ولم يجر في حدود علمنا- نقد معمّق لها، ولا كشف التنميطات الثقافية الجاهزة للآخر .
& ولم يكن الأمر خاصا بتلك المرويات في دار الإسلام وحدها؛ فالقرون الوسطى(= وهذا المفهوم مثار خلاف بين الأمم والثقافات) تميزت بأنها تعنى بثبات المعايير وتكرارها، والنظام الفكري الشائع خلالها ينظر إلى الظواهر الطبيعية والبشرية والثقافية نظرة ثابتة، والإحساس بالتغيّر محدود جدا، وثمة ثقة شبه كاملة بضرورة خضوع الظواهر البشرية والثقافية والدينية لتفسيرات مركزية مطلقة، وغير خاضعة للتغيرات الزمنية، وكان ذلك النظام يستعين بطرائق تحليل تقليدية تفتقر إلى قوة التعليل، الأمر الذي جعل المعرفة الخاصة بتلك الحقبة هشّة، وضعيفة، وتنطوي على تناقضات كثيرة، لم تصمد بوجه النقد؛ لأنها قائمة على التنميط غير المعلّل، أو الذي يفتقر إلى تعليل يأخذ في الاعتبار العناصر الحقيقية للظاهرة في سياقاتها الثقافية والتاريخية، وليس في حالة تجريد تام كما كان التصور القديم يفترض ذلك، ولما كانت تلك المعرفة تقوم على ركائز ناقصة، وغير متكاملة، ومتعالية على شرطها التاريخي، فمن الطبيعي أن تتّصف عموما بالنقص وعدم الإحاطة بموضوعاتها، والاختزال الواضح في الأسس التي تقوم عليها.
&&&& أنتجت (القرون الوسطى) مرويات كبرى تضمنت تصورات شبه ثابتة للأعراق والثقافات والعقائد، وكانت تلك التصورات تمثّل معيارا يتدخّل في رفع قيمة ما أو خفضها لدى أي مجتمع أو ثقافة. وليس خافيا أن الحكم المسبق على ظاهرة اجتماعية أو ثقافية أو دينية سيؤدي إلى نتيجة تضفي مكانة رفيعة عليها أو تسلبها مكانتها الحقيقية، والصور التخيلية المتشكّلة في أذهان المجتمعات، بفعل الخلافات الدينية، والصراعات السياسية، وتباين المنظومات القيمية، والأنساق الثقافية، أدّت خلال تلك الحقبة الطويلة إلى ترسيخ صور منقوصة لبعضها. ومادامت تلك المرويات الكبرى توجّه أفكار المؤرّخين والجغرافيين والرحّالة والمفكّرين والفقهاء، وكل مَنْ يصوغ الصور الجماعية الذهنية الخاصة بالآخر، فمن المنتظر الحصول على سلسلة متواصلة من الأحكام غير المنصفة بحق الآخر المختلف، فالمرويات الكبرى تكشف الطريقة البارعة للسرود التي تنتظم حول حبكة دينية أو ثقافية أو عرقية مخصوصة، فتخضع كل عناصر السرد لخدمة تلك الحبكة التي تظل يقظة في إثراء تمجيدي للذات، وإثراء تبخيسي للآخر.
&
&
* الأيدولوجيا الشمولية والمجتمع الشمولي
* المركزيات الثقافية
*&المجتمعات التأثيمية&
&abdullah_ibrahem@yahoo.com
&
ثقافة إيلاف&janabi@elaph.com
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف