أخبار

ما الذي يؤرق النخب العلمانية العراقية؟

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
&د. حامد العطية
&

&
&لاتخفي النخب العلمانية العراقية قلقها أزاء التطورات في الساحة السياسية، يحرك البعض منهم قلق خالص النوايا على مستقبل وطنهم، ويلهث البعض الأخر وراء مصالح وأهواء ضيقة، وفيما تختلف هذه النخب في انتماءاتها ومشاربها العقائدية والفكرية تتجمع حول قواسم مشتركة، مثل الديمقراطية والتعددية ووضع الدين تحت الإقامة الجبرية في المساجد والحوزات والضمائر، وتعتبرها مقومات الصيغة الأفضل للنظام السياسي العراقي قيد الإنشاء.
&كان لهذه النخب أدوار ومساهمات في تشكيل ملامح النظم السياسية التي تعاقبت على حكم العراق، منذ إبتعاثه في القرن العشرين، بعد انتهاء الخلافة العثمانية، وتنسب لهذه النخب، بشقيها العسكري والمدني، معظم إن لم يكن كل الإنجازات وكذلك الإحباطات السياسية والإدارية والثقافية والعلمية، ولاشك بأن أي تقييم عادل وموضوعي لإداء هذه الشريحة الإجتماعية المهمة يستدعي بحثاً ميدانياً ومكتبياً، يتقصى عينة ممثلة من أفرادها، مستطلعاً خلفياتهم الإجتماعية وانتماءاتهم الثقافية والإثنية والدينية والمذهبية، ومحللاً أفكارهم ومواقفهم ومماراساتهم، وقد حاول بعض الباحثين اقتحام هذا الموضوع الشائك والمستعصي، ولم يتألق منهم سوى ندرة، كان أكثرهم شهرة استاذي القدير في الجامعة الأميركية في بيروت الراحل حنا بطاطو، الذي لاغنى لأي باحث رصين في الشأن العراقي من الإستعانة بكتابه الموسوعي عن النخب العراقية، وكنت واحداً من العراقيين القلة، الذي لم يستنكف عن مطاردتهم بأسئلته الدقيقة دائماً والمحرجة أحياناً عن أقارب لي من أعضاء هذه النخب في العهود الملكية والجمهورية.
&ومع تسجيل إعجابي الشديد بمثابرة الدكتور بطاطو، نادرة المثال بين الباحثين العرب، يخامرني إحساس قوي بأن وراء قضاءه سنين عديدة في اعداد بحثه صعوبة الموضوع وقلة مصادره الجاهزة، ولو لم يكن محتاراً في شرح وتفسير جوانبه لما احتاج لمعلوماتي المتواضعة واراءي غير الناضجة في ذلك الحين.
&وفي كل الأحوال فإن من خصائص البحث العلمي التواصل والتطور التراكمي، فلا يجوزالإكتفاء والتوقف عند بحث واحد، مهما بلغت دقة بياناته وعظمت نتائجه، ولا أدعي امتلاك بيانات أو معلومات تضاهي مااستعمله بطاطو في بحثه، ولكني أمتاز عليه بشيء واحد هو كوني من أهل الدار، الذين تفترض درايتهم ليس بشعاب بلادهم فقط وانما أيضاً بالقوى المحركة لمجتمعهم بما في ذلك الأفراد المؤثرين في حركة هذا المجتمع، ولم ينقطع اهتمامي البحثي بالموضوع منذ كتبت رسالة الماجستير عن مجلس الإعمار العراقي(1951-1958) في 1970. وضيق مساحة النشر لايسمح بعرض البيانات لذا سأكتفي بالنتائج والإستنتاجات.
&تعرف النخبة بأنها مجموعة من أفراد المجتمع الذين يمتلكون خصائص وصفات معينة تمنحهم مكانة مرموقة ودوراً اجتماعياً متميزاً، ولاشك بأن القادة السياسيين هم أبرزالأمثلة على هذه النخبة، والتركيز على العلمانيين منهم يستثنى النخب الدينية والذين يؤيدون دوراً ريادياً للدين في كافة الشؤون العامة. وقد استأثرت النخب العلمانية العراقية بالسلطة السياسية ومؤسساتها المدنية والعسكرية في عراق القرن العشرين، في عهديه الملكي والجمهوري، مفترضة أحقيتها بذلك على أساس المعرفة والإختصاص والحرص على المصلحة العامة والإخلاص للمباديء والأهداف السامية، ومحتكمة في الغالب إلى القوة والعنف في بسط هيمنتها واقصاء منافسيها وخصومها.
&يستخلص من البيانات المتوفرة عن النخب العراقية العلمانية اتصافها، وبصورة عامة، بالخصائص التالية:
1. الإلتصاق بالسلطة السياسية: ارتبطت النخب العلمانية بالسلطة السياسية، وتوزعت بين مشاركين ومؤيدين أو معارضين، حتى أصبحت السياسة في العراق حكراً على هذه النخب، بنوعيها المدني والعسكري، وهنالك عدة عوامل وراء هذه الظاهرة، من أهمها قوة الجذب للسلطة ومزاياها الإجتماعية والإقتصادية العديدة، واعتقاد النخب بجدارتها وأحقيتها بالقيادة السياسية، وضعف المنافسة من النخب الإخرى، أو نظرتها السلبية للسياسة، وتهميش دور الجمهور في العمل السياسي، وقد لايتفق معظم أعضاء هذه النخب مع هذا التحليل، ويؤثرون تبريرات تبرز تسامي أهدافهم على المصالح الذاتية، ويحضرني مجلس في مقهى الأنكل سام المشهور في بيروت، جمعني بالمرحوم الدكتور هاشم جواد، وزير خارجية عبد الكريم قاسم، في أواخر الستينات، وكان آنذاك رئيس بعثة الأمم المتحدة في لبنان، وأتذكر رده على سؤال حول سبب قبوله الوزارة في حكومة قاسم: كي أثنيه عن اتخاذ قرارات متسرعة وغير صائبة على عادته، أو شيء من هذا القبيل، ولا يخامرني أدنى شك في صدق وعلو مقاصده وسعة حكمته التي قد تكون أنقذت العراق من الأسوء في عهد الزعيم الأوحد.
&وقد أدركت حكومة البعث الشمولية أهمية الدور السياسي والترويجي للنخبة العلمانية فسعت إلى اجتذابها إلى داخل التنظيم السياسي لغرض استغلالها، أوعلى الأقل تحييدها، فأصدرت قانون أصحاب الكفاءات، واشترطت على العاملين في حقل التدريس العضوية في الحزب، ونكٌلت بالمعارضين والمستقلين منهم.
2. الميل إلى التسلط: لاشك أن العين الخارجية الناقدة تكشف الخفايا والدوافع التي تعجز أو تستنكف العين الداخلية من رؤيتها، وتنطبق هذه الملاحظة على ما كتبه أعضاء النخب عن بعضهم البعض، ولعل من أصدق ما زعموه الإتهامات المتبادلة بينهم بالتسلط واللجوء إلى وسائل القسر بدلاً من الحوار ووسائل الإقناع في التعامل مع الأتباع والخصوم، ومنذ نشوء الدولة العراقية الحديثة في القرن العشرين تناوبت على حكمه نخب مدنية علمانية مختلفة، ليبرالية وشيوعية وقومية، انهمكت كل واحدة منها في اضطهاد وتصفية منافسيها من النخب الإخرى، وإذا كان ذلك غير مستبعد من النخب العسكرية فهو مستهجن من النخب المدنية، وبالأخص المثقفة، والأغرب أن يدعي جميعهم التمسك بالديمقراطية والحرص على نشر ممارستها بين النخب وغيرها.
3. التعالي على الجمهور: إن معظم أفراد النخب المدنية العلمانية من أصول مدنية، أو مدنيون بالإكتساب والإنتماء، يمتلكون شهادات جامعية وخبرات إدارية ومهنية تميزهم عن غيرهم من العراقيين، ويعتبرون هذه الخصائص مؤهلات ضرورية لشغل مناصب قيادية سياسية وإدارية، والإفتقار إليها سبباً كافياً للإقصاء عن دائرة التنافس على هذه المناصب، وقد نمَت هذه الإتجاهات لدى النخب نظرات وممارسات استعلائية تجاه غير المنتمين إليها، تقف حواجز عالية ومنيعة أمام اتصالهم بالمجتمع وامكانيات تأثيرهم الفعال على اتجاهات وسلوك أفراده وقد تمثلت هذه النظرة الإستعلائية في إصرار أحد قياديي تنظيم عراقي معارض في الثمانينات على إنتقاء أعضاء التنظيم الجدد وفقاً لمعايير نخبوية ضيقة حتى اقتصر مجموعهم على عدد أصابع اليدين.
4. الفئوية والتعصب للإنتماءات التقليدية: لم تنجح النخب في تكوين آطر وطنية مشتركة توفر قاعدة عريضة ومتينة لبناء نظام وطني يستقطب ولاء الفئات العرقية والدينية والطائفية، وبدلاً من ذلك تمسك العديد منهم بانتماءاتهم الضيقة وقدموا الدعم المعنوي والمادي لتشتت الولاءات وعلى حساب الهوية والمصالح المشتركة، وأدت الصراعات فيما بينهم على السلطة وغنائمها إلى نتائج وخيمة على العراق.
&وقد صف الشاعر الراحل الجواهري في مذكراته مرارة معاناته في الحصول على وظيفة تعليمية، بسبب معارضة ساطع الحصري المشرف على التعليم في عهد الملك فيصل الأول، وعزا ذلك إلى دوافع فئوية وطائفية، وإذا كان من المتوقع أن تظهر الفئوية والطائفية والعنصرية في المجتمع العراقي المتنوع فقد كان حرياً بالنخبة العلمانية المثقفة مقاومتها لا تعميقها.
5. الإنفصام عن الموروث: حفلت المؤلفات والنشرات العقائدية لهذه النخب بتمجيد الذات العربية، والإشادة بالعصر الذهبي العربي-الإسلامي، واذا كان من غير العملي توقع نسخ تلك الحقبة التاريخية المزدهرة على أيدي هذه النخب فإن من غير المفهوم موقفها المناويء لأهم مقومات تلك القمة الحضارية، أي الإسلام وقيمه المتسامية، واتجاهها إلى إعادة تشكيل الوعي العراقي بمنأى عن هذا الموروث الثابت، الذي يشكل جوهر هوية سكانها، وأقوى مؤثر على فكرها وسلوكها.
ويبرز هذا الإنفصام أيضاً في نظرة الفئة المتمدنة من هذه النخب إلى الريف واعتباره مستقراً ومصدراً لقيم وممارسات التخلف في المجتمع، بما في ذلك النظام البعثي الصدامي العلماني المتنكر بدهاء مكيافيلي وراء ستر الطائفية والقبلية، متناسين بأنهم ريفيون أصلاً وفكراً وممارسة، وأن تبرئهم من القبلية والفئوية لم يتعدى الحناجر، وأقل ما يمكن أن يوصف موقف هولأء "المتمدنين" تجاه ذويهم الريفيين الذين اقتطعوا الكثيرمن قوتهم القليل لتمويل تحصيلهم العلمي هو العقوق، فأشد ما يكرهه "المثقف المتمدن" وظيفة في الريف، ومقابل النزر اليسير من مشاريع التنمية التي حظت بها القرية العراقية تعرضت لإستغلال الحضريين، الأصليين منهم والطارئين، الذين لم يساعدوها على تجاوزسلبيات قبليتها، وسلطوا عليها شرارهم من الحكام والحزبيين الفاسدين والمتجبرين والمرتشين، واثقلوا كاهلها بالجباية الضريبية، وأثكلوا نساءها بسوق أبناءهن إلى حروبهم العبثية وحملاتهم القمعية.
6. ضعف الإبداع وتغليب التقليد: يغلب على فكر النخب العلمانية العراقية كثرة التقليد والنسخ وقلة الإبداع والإبتكار، والدليل على ذلك أن معظم الحركات السياسية التي انتمت إليها، مثل الشيوعية والبعثية والقومية والناصرية والليبرالية مستوردة، أما التجمعات المنشأة محلياً، مثل الحزبين الوطني الديمقراطي والإستقلال، والتي اقتبست فكرها من الخارج، فقد اختفت من الوجود. ولم تكن انجازات النخب العلمية والتقنية والإدارية والمهنية أفضل من اسهاماتها السياسية، ولم ترتقي حتى إلى المستوى المتواضع للنخبة المصرية.
7. ازدواجية المشاعر تجاه الغرب: تجاذبت النخب مشاعر متضاربة نحو الغرب، ولا يخفي أفرادها، باستثناء أقصى اليسار، إعجابهم بالتقدم الإقصادي والتقنى المتحقق في الغرب، ولكنهم، وباستثاء أقصى اليمين، يرفضون الوجه الإستعماري والإستغلالي القبيح للغرب، وقد أدت هذه المشاعر المتضاربة، وفي ظل ضعف الإبداع الفكري، إلى ظهور وتطبيق وصفات سياسية واقتصادية ممسوخة وفاشلة، مثل النظام البعثي العلماني الديكتاتوري والقومية الإشتراكية والإشتراكية"الرشيدة".
&ونستنتج من ذلك بأن جل هذه النخب والتي تنطبق عليها هذه الملاحظات هم شركاء وليسوا ضحايا النظم المستبدة التي توالت على حكم العراق في القرن العشرين، وهم يتحملون مسؤولية تامة عن النجاحات القليلة والإخفاقات المفجعة في تلك الحقبة من الزمن، والتي أفضت إلى احتلال العراق وحدوث انقسامات حادة بين فئاته العرقية والدينية والطائفية وتغلب العنف على الوسائل السلمية في حسم الصراعات.
&وحتى الأن لاتوجد دلائل على صحوة هذه النخب، وإقرارها بالمسؤولية، ولو جزئياً، عما حل بالعراق في العقود الثمانية الماضية، والمبادرة إلى تشخيص وتصحيح جوانب القصور الذاتي في فكرها وأساليبها وممارساتها، وبما يمكنها من أداء دور رئيسي وإيجابي في إعادة بناء الدولة العراقية على مختلف الصعد، وعلى عكس هذه التوقعات أو الأمنيات تشهد الساحة العراقية تنافساً حاداً بين هذه النخب ذاتها لملأ الفراغ السياسي الناتج عن سقوط النظام البعثي، مفترضةً أحقيتها المطلقة بالسلطة، وقد دفعها القلق من تنامي المد الديني في المجتمع العراقي برمته إلى الترويج لإقصاء أتاتوركي للنخب الدينية وحلفائها من القوى التقليدية من دائرة العمل السياسي، كما بلغ التهافت على السلطة ببعضهم إلى الدعوة لوصاية أمريكية دائمة لضمان علمانية النظام السياسي.
&ولاتشجع هذه الملاحظات على التفاؤل من نتائج استلام ورثة هذه النخب والسائرين على نهجها للحكم في العراق تحت الإحتلال الأمريكي أو ما يبشر به من حكم وطني مستقل، يخشى أن لايكون أفضل ممارسة وأكثر توفيقاً من "الحكم الوطني الأول"، الذي ورث الإحتلال البريطاني في عشرينيات القرن الماضي.
مستشار إداري عراقي يعيش في المنفى hatiyyah1@yahoo.ca.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف