العلمانية ضمانة للتقدم العربي
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
&
بات من الواضح اليوم أنّ البشرية هي في طور التغيّرات الكبرى في مجتمعاتها وفي قيمها ومفاهيمها، وعلى أساس هذه التغيّرات، التي سوف ترسو عليها، ستتحدد وجهة هذا العالم في القرن الحادي والعشرين. وفي سياق هذه التغيّرات تبدو العلمانية أحد محاور الاختلاف في جسد الاجتماع السياسي العربي الراهن، خاصة بعد الصخب المفتعل حول مسألة الحجـاب، ليس في المجتمعات العربية الإسلامية فحسب، بل بين صفوف العرب والمسلمين المقيمين والمواطنين في دول أوروبا الغربية. مما يدعونا إلى العودة لطرح الأسئلة البديهية للحياة الاجتماعية المدنية، حول حدود الحرية والمسؤولية في السياق المكاني والزماني لهذا الصخب.
فإذا كنا نعيش أزمة عميقة في مجتمعاتنا العربية فإنّ واقع الحال الحضاري اليوم لم يعد يحتمل تأجيل القضايا الكبرى حول المواطنة والحرية والحداثة، ولم تعد تكفي لتجاوز هذه الأزمة جرعات من الحريات المؤقتة، والديموقراطية، التي تقف عند حدود المسلمات والهياكل التراثية ومؤسساتها التي ترضى أن تترنح مجتمعاتها كل يوم على أن لا تهتز أركانها ومكتسباتها يوما، وذلك في إطار نسيج العلاقات المصلحية والحماية والتغطية المتبادلتين بينها وبين السلطات القائمة.
وهكذا، يبدو أنّ العلمانية ليست شعارا يرفع، بل هي اتجاه تاريخي، وجملة مواقف، وقوى اجتماعية، تلم بالتاريخ، وتتوافق مع الترقي، ومع التحولات الاجتماعية على الصعيد العالمـي. ومن ثم، فالعلمانية - بما يراد لها أن تكون تشخيصا عربيا - ترى في إقصاء التناقضات والصراعات الطائفية والمذهبية والإقليمية والإثنية، التي تؤجج وتسعَّر في العالم العربي، أمرا حاسما في صالح الخطوة الأولى باتجاه فعل تاريخي عربي مفتوح. وبهذا، فإنّ العلمانية المعنية هنا لا علاقة لها بما تلصقه الأصولية الإسلامية من مماهاة بينها وبين الإلحاد، ومن الاعتقاد بأنها مؤامرة غربية لتدمير الإسلام من داخله .
إنّ حسم وتجاوز الجدل القائم منذ قرنين حول ضرورة العلمانية بات يشكل المدخل الرئيسي لإقامة النظام العصري، المدني بطبيعته، وأنه لمن المستحيل التقدم نحو الحرية والديموقراطية من دون الخروج من التناقضات الاجتماعية العميقة والقفز فوق مسألة التمييز الديني أو المذهبي أو القومي، على كافة مستويات الحياة العامة بما فيها قضايا الأحوال الشخصية.
ألم تبلغ النقاشات حول العلمانية والإصلاحات الاجتماعية أوجها في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن الماضي وذلك في عز الاستعمار وعلى مشارف الحروب العالمية ومعارك الاستقلال الوطني ؟ ألم يكن مشروع النهضة العربية آنذاك، بمجمله، قائما على مسألة العلمانية والحرية والديموقراطية، مع ما يستتبع ذلك بالطبع من احترام التعدديات الثقافية والسياسية وحماية حقوق الإنسان ؟.
لقد آن أوان تبلور الخطاب النقدي العلماني داخل العالم العربي وفي المهاجر العربية، الذي يلخص عملية التغيير الحضاري الواجبة والمستشرفة لآفاق التقدم العربي. فالعلمانية نظام عام عقلاني ينظم العلاقات بين الأفراد والجماعات والمؤسسات، فيما بينها وفيما بينها والدولة، على أساس مبادئ وقوانين عامة مستمدة من الواقع الاجتماعي، يتساوى أمامها جميع أعضاء المجتمع وفئاته بصرف النظر عن الانتماءات والخلفيات وتشمل :
&أ - فصل الدين عن الدولة وإقرار حيادها تجاهه.
ب - إلغاء الطائفية السياسية.
ج - تعزيز المحاكم المدنية العامة، لضمان المساواة التامة بين المواطنين على اختلاف انتماءاتهم.
د - إقرار توحيد قانون الأحوال الشخصية، بحيث يساوي بين المرأة والرجل، ويمنح المواطن حق الاختيار بين الزواج المدني أو الديني أو كليهما.
هـ - اعتبار القوانين نسبية لا مطلقة، مصدرها المجتمع، فتعدل بضوء حاجاته ومشكلاتـه، وبمقتضى الأحداث التاريخية الجارية وحسب مشيئة الشعب الذي يُحكَم باسم هذه القوانين.
و - اعتبار الحاكم حاكما باسم الشعب، يستمد سلطته من الناس ويمثل إرادتهم، ولا يستمدها من إرادة إلهية فوق المجتمع.
ز - تعزيز الثقافة العلمية العقلانية.
ح - الإقرار بحقوق مختلف المذاهب والطوائف.
ط - تحرير الدين من سيطرة الدولة، والدولة من سيطرة الدين.
ولما كان الأمر كذلك، فإنّ العلمانية تجد مرتعها الخصب في إطار من الديمقراطية، التي تمارس عقلانيا وتنويريا، وذلك على نحو تغدو فيه الديمقراطية والعقلانية والتنوير أحد أوجه العلمانية وصيغة من صيغ التحفيز عليها.
إنّ العلمانية ارتبطت بأكثر من معنى، فهي ليست فقط بمعنى فصل الدين عن الدولة كما هو شائع في العالم العربي، بل كان الارتباط الأوثق بين العلمانية والفكرة القومية، حين انبثقت من ثقافة ديمقراطية وصراع في سبيل التقدم وكرامة الإنسان، وجاءت بمثابة تأكيد على قدرته على تنظيم شؤونه تنظيما عقلانيا، بلا قبليات. لذا فالمبدأ الأساسي في العلمنة يؤكد أنّ الدين أمر شخصي، وينبغي، بالتالي، فصله عن الدولة والمدرسة والأحوال الشخصيـة.
وتعتبر العلمانية منظومة متكاملة، فهي على المستوى المعرفي، معادل للعقلانية، والرؤية الدنيوية الأرضية إلى الكون، والإنسان، والمجتمع، والثقافة. وعلى المستوى القومي، تغدو العلمانية الشرط التاريخي لـ" الاندماج القومي" الذي يتجاوز التكسير الاجتماعي، ويصفّي تناثر الأمة. وعلى المستوى السياسي، تبدو شرطا ضروريا للديمقراطية، فلا يمكن دمقرطة المجتمع دون علمنته، فالوجه الأول لأي مشروع تقدم عربي هو العلمانية والثاني هو الديمقراطية.
إنّ الكثيرين لا يدركون تماما ماهية العلمانية هذه ومدى أهميتها من أجل بناء مجتمع ديمقراطي على مستوى تحديات العصر. ولعل السبب في رفضهم العلمانية هو أنهم يخشون أن تكون مرادفا لمعاداة الدين، على أنّ هذا الخلط لا أساس له، بل أنّ العلمانية من شأنها أن تحرر الدين من استغلال السلطة له. وبالتالي فإنّ العلمانية من شأنها أن تقوّي بعد القناعة الفردية الحرة من العقيدة، وذلك من خلال فك الربط بين الدين والسلطة. بل أنّ العلمانية هي، في جوهرها، ليست سوى التأويل الحقيقي والفهم العلمي للدين.
وعندما تطرح العلمانية، بمعنى عدم تدخل الدولة في الشؤون الدينية لمواطنيها وبحيث تكون المواطنة هي أساس العلاقة بين الدولة والمواطن، فإنها - في هذه الحالة - أقرب لأن تكون مفهوما سياسيا، يشكل ضمانة أكيدة للمساواة ولتلاحم المجتمع، حيث تكون العلاقة بالوطن والدولة علاقة سياسية وليست علاقة دينية قد تحد من المساواة السياسية بين أصحاب الديانات المختلفة.
إنّ العلمنة منظومة عقلية منطقية غير قابلة للتجزئة، فليس ثمة نصف علمنة، كما أنه ليس هناك إمكانية لعلمنة حيز من المجتمع دون الآخر، فهي لا تكون فاعلة في المجتمع ما لم تتناول كل بناه الثقافية والاجتماعية والسياسية. وتتأسس العلمانية على وطأة ثقيلة وواسعة النطاق لدولة الحق والقانون، وتقوم هذه النزعة التدخلية الواسعة للدولة على دعامتين : أولهما، اعتبار الدولة العلمانية ضمانة الوحدة والنظم الاجتماعيين، بحكم قدرتها على تجاوز الانقسامات الاجتماعية والقيمية التي تنخر الجسم السياسي، ومن ثم قدرتها على التعبير على المصلحة العامة. فقد اعتبر جان جاك روسو الدولة الإطار المعبر والمجسد للإرادة الكلية للمواطنين، وهي إرادة ناظمة ومتعالية في الوقت نفسه عن مجموع المصالح الفردية والجزئية، كما أعاد الفيلسوف الألماني هيغل استلهام هذه الفكرة في مرحلة لاحقة في القرن التاسع عشر من خلال تشديده على فكرة الدولة الكلية المجردة والجامعة والفضائل السياسية والأخلاقية، والقادرة في الوقت نفسه على ضمان وحدة المجتمع المدني المنقسم على نفسه في المصالح والمعايير الأخلاقية. وثانيهما، أنّ الدولة ليست مجرد أداة لإدارة الشأن العام بل هي " صوت الأمة "، وموضع حلول العدالة الكاملة والخير الأعظم، ما يعطيها مشروعية التدخل لفرض قيمها وتصوراتها المفترض فيها أن تكون القيم العامة والكلية للمجتمع.
إنّ العلمانية لا تجعل الدين أساسا للمواطنة وتفتح أبواب الوطن للجميع من مختلف الأديان، وتتمثل أسس الدولة العلمانية في :
أ - أنّ حق المواطنة هو الأساس في الانتماء الوطني.
ب - أنّ الأساس في الحكم الدستور الذي يساوي بين جميع المواطنين ويكفل حرية العقيدة دون محاذير أو قيود..
جـ - أنّ المصلحة العامة والخاصة هي أساس التشريع..
د - أنّ نظام الحكم مدني يستمد شرعيته من الدستور ويسعى لتحقيق العدل من خلال تطبيق القانون والالتزام بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
ومن الملفت للانتباه أنّ مفكري النهضة العربية الحديثة، بما فيهم تيار الإصلاح الإسلامي، في القرن التاسع عشر طرحوا كيفيات تحديث الدولة العربية وفق رؤية علمانية. فقد تبنى الشيخ محمد عبده المخطط الكوني لتطور المجتمعات من الحالة الطبيعية إلى الحالة الاجتماعية ثم إلى الحالة السياسية، إذ يقول " فالمرء يوجد ساذجا فطريا يلتمس الغذاء والمبيت وسائر الحاجات الطبيعية مما تصل يد إمكانه إليه، ثم يدفعه الحرص على الذات إلى حفظ النوع وتلجئه كثرة الحاجات إلى طلب الإعانة، فيتألف ويجتمع ويصير مدنيا. ثم يتقدم في هذه المرتبة فينظر في شؤون نفسه ويهتم بأحوال جنسه، فيصير سياسيا، وهو الإنسان المدني الكامل الحقوق والواجبات ". هذا التطور الخطي الصاعد من الأدنى إلى الأعلى لا يقتصر على المجتمعات بل يشمل الثقافة والتربية والأديان التي يواكب تطورها التطور الاجتماعي والحضاري.
الشيخ محمد عبده رأى أنّ في الدين أصولا عبادية اعتقادية وأخرى دنيوية عقلية، ودعا إلى تحصيل الإيمان بالعقل، وتقديم العقل على ظاهر الشرع عند تعارضهما، وإلى الابتعاد عن التكفير والاعتبار بسنن الله، أي بقوانين الطبيعة والمجتمع. وكان قد قرر في " رسالة التوحيـد " أولوية العقل على التبليغ، مستعيدا بذلك تقليدا معتزليا شهيرا. لقد أقامت الإصلاحية الإسلامية مساوقة بين " الإسلام الصحيح والعقل " وبين العقل الوضعي والحداثة، فأصبح من الممكن في هذا الوضع أن تقوم المماهاة بين الإسلام والحداثة بعامة، وأن يكون أساسا لمدنية سوية لا تتميز عن المدنية العلمانية الحديثة، وهي النموذج العملي، إلا تمييزا قيميا. وعلى هذا الأساس، أعادت الإصلاحية الإسلامية الاعتبار إلى المرجعية الإسلامية التي أعيد تأويلها على أسس استفادت من تجربة التنظيمات (العثمانية) وأهدافها، تأويلا حاول المماهاة بين هذه المرجعية وبين مرجعية العصر الفعلية... فكان الإسلام النفعي التابع للتأويل العلماني بالفعل أو بالقوة، دون اللفظ، مضمونا للإسلام المعياري الذي وضعته الإصلاحية الإسلامية مرجعا لها. وتجلت هذه المماهاة بين الإسلام ومرجعية العصر الحديث في مماهاة القانون بالشريعة والديمقراطية بالشورى.
وإذا كانت العلمانية، في العصر الحديث، قد تميّزت بكونها نزعة تعي مقاصدها، وتعرف متطلباتها التاريخية، وشروط نجاحها، فإنها عندما تتحول إلى " عقيدة " مغلقة على ذاتها تتحول إلى عقبة أمام النشاط التلقائي للبشر، وأمام الروح النقدية والتواصلية للعقل، وتدفع باتجاه التوتر الاجتماعي، وتدعم التوجه المعادي للديموقراطية. وفي المقابل، بات مطلوبا من الجميع اليوم التخلي عن فكرة أنّ العلمانية هي نموذج غربي غير صالح لتعميمه شرقا، وعن أنّ العلمانيين هم مستوردو أفكار ونماذج. وللخروج من هذه المأزق لا بد من إقامة حوار هادئ يهدف إلى إنتاج صيغة جديدة تقوم على أساس تغيير بنيوي جوهري تدرجي عبر المعالجات العلمانية، على أن لا ننخرط بمنطق الحاكم العربي المؤجل للإصلاح والتغيير تحت أية حجة أو شعار.
&كاتب وباحث سوري مقيم في تونس
& teab@planet.com
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف