ثقافات

الإتّحاد*

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
كمال سبتي
&

&
هذا نصٌّ إستذكاريّ لمكانٍ عنيَ كثيرأً للأدباء، وبخاصةٍ لروّاده اليوميّين، في عقدي السبعينياتِ والثمانينيات.
والإتحاد كلمة نقابية، ما كنا نعنيها قطّ، حين كنا نسمّي مكاننا بها. فهي كلمة كريهة في دولة تحكم الناسَ بالمخابرات وشرطة الأمن والحزب والنقابات..إلخ
لكنها كانت التسميةَ، والكلمةَ المنطوقةَ مع كلمتين أخريين: النادي والحديقة.
والإتحاد بناية بحديقة كبيرة..
وقد تناقلنا في جلساتنا اليومية، بأنّ البناية كانت قصرأً في العهد الملكيّ، يُسمّى قصرَ الوزراء السبعة، وإِنّ السياسيّ البارز نوري السعيد كان يؤمّه، وإِنّ الزعيم عبد الكريم قاسم أعطاهُ لأبي فرات الجواهريّ بعد ثورة عام 1958، ليكون مقراً لإتحاد الأدباء.
وغير هذا فلا أملكُ توثيقاً آخرَ لهذا المكان.
فهو إذن إتحاد الأدباء وفيه هيأة إدارية، تغيّرَ اسمُها في ما بعد إلى المجلس المركزيّ الذي يعيّنُ من بين أعضائه مكتباً تنفيذياً.
وقد لا يكونُ هذا التوصيف قد عنيَ أحداً كثيراً، حتى إنْ كان كاتبُ هذا النصِّ نفسه قد أنتُخِبَ ذات مرة عضواً في المجلس المركزيّ. لأننا اعتدنا على تسمية البناية بالإتحاد، لا ذلك الجهاز البيروقراطيّ الهزيل.
فالبناية إذن هي الإتحاد، وفي صالتها تقام أمسية أدبية كلَّ أربعاء، مرة نحضرها، وأخرى نلعنها لتأخيرها موعدَ إنزالِ العرق.
ولأننا قد ذكرنا العرق، فلأننا كنّا نشربه في الصالة الشتوية صالة المحاضرات. أو في الحديقة، حين تبدأ تباشير صيف بغداد بالقدوم.
وفي تعالٍ معنويّ، لم يشأ المكتب التنفيذيّ، في ما بعد، أن يكون مسؤولاً عن تقديم العرق إلى زبائنه من الأدباء، فعَهِدَ به إلى كيانٍ إداريّ آخر سُمّيَ: الهيأة الإدارية للنادي.
فإذا كنتَ تشربُ العرقَ في الصالةِ وقتَ الصيف، قلتَ سأخرج إلى الحديقة.
وإذا أحببتَ أن تتشكّى من رداءة المزّة، والعشاء، ووساخة القدح، ودورق الماء، وعدم ثبات الكرسيّ والطاولة بالأرض، قلتَ سأذهب أتشكى إلى الهيأة الإدارية للنادي.
لكنك عندما تكون في مقهى البرلمان، أو مقهى حسن عجمي، تقول: سآخذ الباصَ أو التاكسي إلى الإتحاد.
وقد دخلتُ إلى الإتحاد بضعَ مراتٍ قبل عام 1975، قادماً وحدي، أو برفقة الشاعر كاظم جهاد، قادميْن معاً من مدينة الناصرية.
وفي صيف عام 1975 دخلتُ الإتحاد مقيماً دائمياً، لم أتركْهُ إلاّ بالهربِ من البلاد كلّها في صيفٍ آخرَ، قادم.
كنت أرتاده كلّ يوم، فأجلس مع عددٍ من الصحبةِ الأدباء الشبّان من أقراني، لنشربَ العرقَ ونجادلَ في الأدبِ وفي السياسةِ وفي السفر.
كنّا نتأخّر عادةً - إلى ما بعد الساعة الثانية عشْرَة. ولأنني كنت أسكن في قسمٍ داخليٍّ لمعهد الفنون الجميلة، يغلقُ أبوابَهُ قبل الساعة الثانية عشْرَة، كان عليَّ إذن، كلَّ مرةٍ أن أبحثَ عن مبيتٍ آخر.
كانت لنا في الإتحاد حديقتان. حديقةٌ حُشّتْ ، وقسِّمَتْ إلى قسمين يفصلهما ممرٌ في المنتصف. وحديقة أخرى، خلفيّة، مهملّة، تُشبهُ الدغل، كانت قد سُوّرَتْ بحاجزٍ من الأعواد وقطعِ الجوخ، حتى تُفصَلَ عن الحديقة الأمامية.
في مراتٍ مختلفة، بعد الساعة الثانية عشرة، تسللتُ إلى الحديقةِ الخلفيّة لأنام. كنت أفرشُ جرائدي الجبهوية كلّها، وأضعُ عليها كتبي مخدةً لرأسي الدائخ بعرق الإتحاد، وأنامُ، غيرَ متذكرٍ بأنّ عقاربَ وحياتٍ شتى يمكن أنْ تخرجَ إليّ ليلاً.
كنتُ أستيقظُ في الصبح، مخضرّاً. أيْ قد تلوّنَ زيّي الدراسيّ الموحّد، بلونِ الحشيش.
سألني أحدُ صحبي عن اللون الأخضر فأخبرته بأمره، فأخبر بدوره نُدلَ النادي. فتغيّرَ المشهدُ في ما بعد.
&فعند وقتِ دفع الحسابِ من كلّ ليلة، أخذ نادلانِ يحرسان مدخلي الحديقة الخلفية، وماكان يتركانِ مكانيهما حتى يتأكّدا من خروجي من الإتحاد.
&وكنتُ إذا خرجتُ قبلَ الساعةِ الثانية عشرة، أخذتُ الباصَ الأخيرَ في ساحة الأندلس أو اِشتركتُ مع صديقٍ في تاكسي أو ذهبتُ مع القاصّ جمعة اللامي، الذي تركَ اِحتساءَ العرق، وأمسى لا يأتي إلى الإتحاد إلاّ ليقلّني بسيارته منه. وإذا كانَ الوقتُ قد تجاوزَ الثانية عشرة ليلاً، وكان الناقد عبد الجبار عباس موجوداً في بغداد، قادماً من الحلة، ذهبنا سوية إلى علبةٍ ليلية "ملهىً ليليّ" في بادىء الأمر، ثمّ إلى فندقٍ للمبيت فوق سطحه. وفي غيرِ هذه المراتِ فقد كانَ الأصدقاءُ يبيتون عندي في القسم الداخلي أيضاً، فباتَ فيه الشاعر هاشم شفيق حتى سفره مع الشاعر فوزي كريم عام 1978، وباتَ فيه الشاعر شاكر لعيبي ليلته الأخيرة، قبل سفره بعد الحرب في أوكتوبر عام1980. لكنّ جان دمو وعبد الجبار عباس كانا يأتيان معي، للنوم في مبيتي أكثرَ من غيرهما. إلى القسم الداخلي قبل الساعة الثانية عشرة، أو إلى فندقٍ حين يكونُ الوقتُ صيفاً، لأنَّ القسمَ الداخليَّ كان يغلقُ أبوابَهُ طوالَ العطلةِ الصيفية، في السبعينيات.
&وبات عندي في القسم الداخليّ آخرونَ أيضاً، هرباً من منظماتِ البعث في مناطقهم أيّامَ مطاردة السلطة للحزبِ الشيوعيّ. كما جئنا إليه مُدمَّيَيْن ذاتَ مرة، أنا والشاعر البصريّ حيدر الكعبيّ بعد أن أشبَعَنا رجالُ الأمنِ ضرباً في شارع السعدون عام1978.
ولليالي الإتحادِ طعمٌ لا يُنسى.
النسيمُ العذبُ الذي يهبُّ فجأةً وقتَ الحرّ، والسماءُ الزرقاءُ الصافية، وجدالنا الصاخبُ حولَ الشعر، وغناؤنا في آخر الليل أغانيَ عراقيّة قديمة..
وحتى في الشتاء، فإنَّ قربَ الطاولاتِ من بعضها في الصالة يُعطي شعوراً عن ألفةٍ مّا، عن حميميةٍ مّا بين روّاد المكان.
وقد كان الإتحاد عالماً أدبياً مكشوفاً قد لا تراه في غير العراق، وفي غير الإتحاد تحديداً.
فأنت ترى فيه الأدبَ العراقيَّ كلَّهُ في الشعر والقصّة والنقد، وقد خلعَ عنه كلّ جُبّة في الجدال، بل إنكَ ترى أعلامه، في عالمهم الصادق غيرالمثير للريبة بسبب الحجبِ المزيفة، وغير المثير للقرف بسبب المجاملاتِ الكاذبة.
والإتحاد في دولة توتاليتارية كالعراق كان تنفساً مّا للأديب حتى إنْ كانت السلطة قد تعلمتْ أن تفتحَ عينيها في مكانٍ كالإتحاد.
ففيه يُطْلِعُ الأديبُ رفيقه بكلّ ما جدَّ سياسياً، وإنْ كان بالهمس.
كما كان ملجأً للأديب، الذي لا يستطيع الشربَ في باراتِ بغداد، التي تشهد عادةً، معاركَ بالسكاكين وبالمسدساتِ، وبالرشاشاتِ حتى.
&وكان الإتحاد لا يخلو من معاركَ خمرية بين أعضائه، فتقرّر الهيأة الإدارية منعَ تقديم العرق إلينا. فيكون علينا أن نبحثَ عن مكانٍ آخر.
&مرة، في عام 1975 أو قبله بقليل، كنت أهمُّ بالدخول إلى الإتحاد، فصرخ بي القاصّ مهدي عليّ الراضي من مكانه في مقدمة البناية، وقد كان يعمل موظفَ إستعلامات: إذهبْ إلى نادي الموسيقيين، العرق ممنوع اليوم. الجماعة هناك. وكان يؤشّر بيده إلى جهة ساحة الأندلس حيث كان ذلك النادي.
ولقد كنتُ أعملُ في الصحافة وفي القسم الثقافي في إذاعة بغداد، على مبدأ المكافأة المقطوعة التي لم تكن تكفي لليالي الإتحاد، تماماً. على الرغم من أنّ زملائي الطلبة كانوا يعيشون بمخصصات المعونة الممنوحة لنا في القسم الداخليّ، حَسْب.
فكنا نقترض من بعضنا، أو من الشاعر عليّ الطائي، الذي كان قد خصّصَ دفترَ حساباتٍ لي ولآخرينَ: أذكر منهم الشاعرين خليل الأسدي وهاشم شفيق. كلٌ كانت له فيه صفحة باسمه، يدوّن عليٌّ فيها كلّ قرضٍ مع تأريخ منحه، وتأريخ سداده. وقد كنت سدّاداً للقروض دورياً، بشهادة مانحها.
وكنّا في مسعانا الأدبيّ وفي شكل حياتنا نختلف عن أقرانٍ، كانوا يجلسون غير بعيدينَ منّا، كنتَ تسمعُ في كلامهم: أستاذ طارق، وكانوا يعنون به طارق عزيز، وأستاذ شفيق، وكانوا يعنون به شفيق الكماليّ.
وهؤلاء ما كانوا يستدينون من أحدٍ. كانوا يدخلون الإتحاد بثيابٍ مكوية، وفي يد كلّ واحدٍ منهم حقيبة دبلوماسية. وكانوا يكتبونَ شعراً، مشبَّعاً بالفرح الثوريّ، يشبهُ الشعرَ الذي كان يكتبه حلفاؤهم ، لكنهم كانوا قوميين فيه.
وبسبب عملي في القسم الثقافي في إذاعة بغداد منذ عام 1976 فقد توطّدتْ علاقتي بالشاعر حسب الشيخ جعفر، الذي كان يعمل في الإذاعة أيضاً.
وحسبُ الشيخُ كان من رّواد الإتحاد اليوميين، فأخذتُ أجلسُ معه منذ عام 1978، أو قبله بقليل.
ولم يكن الوضع السياسيّ بين الحزبين- البعث والشيوعيّ - في الإتحاد متشنجاً - كثيراً-، فقد كانا في جبهة. فلم نشهد توتراً عميقاً بين أعضائهما. لكننا شهدنا اختلافاتٍ لغويةً مّا. مرةً اجتمعوا في الهيأة الإدارية للإتحاد وهي غير تلك التي أصبحت للنادي في ما بعد -، فتأخروا في الخروج. سألناهم في ما بعد عن سببِ التأخير. قالوا: كنا نريدُ كتابة رسالة إلى أحمد حسن البكر. البعثيون كتبوا: إلى الرئيس المناضل. والشيوعيون أصرّوا على إرسالها خالية من صفة "المناضل".
لكنّ عام 1978 غيّرَ شكلَ الإتحاد وطعمَ لياليه، ففيه انفرطَ عقدُ التحالف الجبهويّ، وطاردت السلطة الحزبَ الشيوعيّ.
فلم يعد الشيوعيونَ البارزونَ يأتونَ إلى الإتحاد، وبدأنا أنا وصحبي التخطيطَ للسفر. فتركتُ الدراسة في معهد الفنون الجميلة، على أملِ اللحاق بصديقي الشاعر حسين علي عجّة الذي ودعته إلى باريس في تلك الفترة، وقد لحقتُ به بعد بضعةِ أشهر.
لكنني عدتُ من باريس إلى بغداد..
وقد لا يكون الخوضُ في سببِ العودة مناسباً.
لكنه كان مؤلماً..
أخذتُ أنا وحسبُ الشيخُ جعفر، بعد العودة، نتابع جلساتنا في الصالة، شتاءً، في ركنٍ منزوٍ عن الآخرين لنتكلمَ كما نشاءُ، ونعمدَ إلى الهمس حين يغيرُ علينا فضوليّ مّا. كما اخترنا للصيف طاولة تحتَ نخلة الحصيريّ، الذي قيل أَنّه زرعها عام 1958.
وكنت أنتقل في منتصف الوقت من طاولتنا، لأجلسَ مع عددٍ من صحبتي. وبعضهم كان يتهيأ للسفر بعد أن اندلعت الحربُ مع إيران، فغادرَنا في جوٍّ معتمٍ فرضته الحربُ وصفّارات الإنذار.
إنه الحريق. وبقيتُ مع حسب، بقيتُ مع حسب وحده.
والإتحاد هو مكاني في لحظة تعذّر المكان لشخصٍ مثلي، قادمٍ من مدينة جنوبية بعيدة. فلم أكن أملك بيتاً في بغداد. فكان عليّ إذا أردتُ أنْ ألتقي إمرأةً أحبّها، حتى، أنْ آتي بها إلى الإتحاد، حين اكتشفتُ خلوَّهَ في وقتِ ما بعد الظهر من أيّ وجودٍ بشريّ.
لكن حدثَ الشتاتُ ذات مرة..
فخرجنا أنا وحسبُ الشيخُ إلى باراتٍ أخرى في شارع أبي نؤاس وفي أماكنَ أخرى في بغداد، بعد أنْ أغلقوا الإتحاد لضياعِ رشاشة نادل النادي، المنتسِب إلى الجيش الشعبي. صدرَ قرارُ الاغلاق من منظمة الجيش الشعبيّ في المنطقة التي يقع فيها الإتحاد. كان قراراً هزلياً، لم يتحرّكْ مسؤولو الثقافة للطعن في مشروعيته. لا همْ و لا أتباعهم من الأدباء الموظفين الذين كانوا إذا ما جاءوا يوماً إلى الإتحاد، لم يتوقفوا عن التهكم منه ومنا بأسئلة متعالية: كيف تجلسونَ على مثل تلك الكراسي؟ كيف تشربونَ بمثل تلك الأقداح؟ والطاولة؟ أكانت طاولة حقّاً؟.. وهكذا.
&ولم يفتحوا بابَ الإتحاد ثانية حتى رأينا ما رأينا في باراتِ العاصمة وقتَ الحرب، وحتى بدأ ضيوفٌ مختلفونَ عنا، يدخلونَ إلى الإتحاد في بدلاتٍ عسكرية زيتونية أنيقة، يكتبون أدبَ الحربِ أو أدبَ القادسية. كانوا إذا اقتربوا منا وقتَ الصيف، بدأ حسبُ الشيخُ - وكان هو يراهم لا أنا، لأنني كنتُ أعطي البناية ظهري - الحديثَ عن الطقسِ الحارِّ، وإذا كنا في الشتاء كان يستعير تعبيراً روسياً عن البردِ والثلوج. وكان ذلك إشارة منه إليّ: غيّرِ الموضوع.
أصبحَ الضيوفُ الزيتونيّون أعضاءَ في إتحاد الأدباء.
وفي مرةٍ، في منتتصف الثمانينيات، تقاطعنا أنا وحسبُ الشيخُ، وتوقفَ هو بعدها عن المجيء. فبقيتُ وحدي، أقضي لياليَّ مع كائناتٍ لا أعرفها ولا تعرفني..
وكنتُ أحاولُ الهربَ من البلادِ بمخططاتٍ شتى..
حتى نجحَ أعسرُها وأقساها في صيفٍ بغداديّ.
1993 مدريد

&
* كان الشاعر فوزي كريم قد طلب مني عام 1993 كتابة موضوع عن الإتحاد لمجلته "اللحظة الشعرية" وقد أنجزته، وحال شكل حياتي المتغير في إسبانيا من إرساله، كما أنّ المجلة المذكورة كانت قد توقفت عن الصدور في ذلك الوقت أيضاً. إذن هذا هو الموضوع. وهو جزءٌ من كتاب توثيقيّ: سرديّ وشعريّ بعنوان "بريد عاجلٌ للموتى"، يصدر قريباً عن دار مخطوطات في هولندا.
&

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف