لقاء إيلاف الأسبوعي المفكر التونسي د. الحبيب الجنحاني: الرأسمالية الاحتكارية تحتاج إلى خلق عدو، ولو كان وهميّا
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
&
&
وبمناسبة صدور كتابه الجديد بعنوان "المجتمع المدني وأبعاده الفكرية" بالاشتراك مع الباحث المصري د.عبد الفتاح إسماعيل، عن دار المعرفة بدمشق، التقينا الأستاذ د. الحبيب الجنحاني لمزيد الحديث عن معضلات العولمة ومشكلات الصراع الحضاري بين العرب والغرب، والمسألة العراقية، وضرورة المجتمع المدني لزمان العرب المعاصر، وغيرها من الإشكاليات، فكان هذا الحوار:
&
".. المجتمع المدني نقيضاً للدولة أو معادياً لها، بل يصب في مجراها ويدعمها؛ فإذا كانت دولة ديمقراطية تتمتع بالشفافية واحترام القانون والمؤسسات الدستورية قام التعاون بينها وبين قوى المجتمع المدني. أما إن كانت استبدادية ضعفت أركان المجتمع وذبلت. لقد برهنت تجارب التاريخ الحديث أن الإصلاح لا يتم برغبات شخصية، بل لابد من إشراك المجتمع بكل فئاته التي تسهم في ترشيد مسيرته وتعزيز خطاه، الأمر الذي يقتضي إزالة جميع العوائق السياسية والقانونية والأمنية التي تمنعه من المشاركة في عملية الإصلاح. هذا، وتمثل النخبة المثقفة دعامة صلبة ضمن قوى المجتمع المدني؛ إذ إن مهمتها تكون في تجذير الوعي، وغرس روح العمل السياسي، والاهتمام بالشأن العام.. من أجل الوصول إلى ديمقراطية حقيقية". هذا بعض مما جاء في حديث د. الجنحاني في الكتاب المشار اليه أعلاه، ولكن إتماما للفائدة، وإحاطة أشمل بمعضلات واقعنا العربي الراهن، وحيث ان لضيفنا أكثر من مساهمة منشورة حول مواضيع الحرب على الإرهاب والتدخل الأمريكي في العراق، ومستقبل الديموقراطية في العالم العربي، رأينا أن نبدأه بالسؤال التالي:
&
* هل هناك أية علاقة ما بين الحرب على الإرهاب والحرب في العراق، على الديمقراطية في العالم العربي؟
* أودّ قبل الحديث عن علاقة الإرهاب بصفة عامة- وغزو العراق بصفة أخص- بمستقبل الديمقراطية، وحقوق الإنسان في الوطن العربي، أن أمهد بالمدخل التالي: أنني أميل إلى الاعتقاد بأنه لا يمكن فهم الظاهرتين الجديدتين دون ربطهما بظواهر أخرى هي نفسها جديدة لا يتجاوز عمرها ثلاث عقود من الزمن، ولكنها أشمل، وتأثيرها في المستوى العالمي أبعد مدى، وأخطر شأنا.
&
* وما هي تلك الظواهر؟
* لقد انكب الفكر العالمي في الثمانينات بصفة خاصة على دراسة ظاهرة تاريخية معاصرة لم يعرفها تطوّر المجتمع البشري من قبل، وهي تختلف في جوهرها عن الظواهر التاريخية الكبرى. وأعني بذلك ظاهرة "العولَمة"، وقد ذهب الناس مذاهب شتى في فهم كُنْهها، وتفسير سماتِها، وهي في نظري ظاهرة إيجابيّة رغم ما رافقها من سلبيات. ومن المعروف أنها ما تزال بصدّد التشكّل والتطّور، ولم تتضح بعد جميع ملامحها الإيجابية منها والسلبيّة ولكن تبقى جوانبها الإيجابية في نهاية المطاف هي المحك الأساسي لتبنيها والذود عنها، وتخليصها مما التصق بها من هنات، فَهَمَها بعض الناس فهماً خاطئا فرفضوا الظاهرة، ونفروا منها تأثرا مما طفى فوق السطح من قشور دون البحث عن اللب. وهو كما ألمحت قبل قليل، لبّ إيجابي، وكسب ثمين لتطوّر المجتمعات البشرية وفي مقدمتها المجتمعات السائرة في طريق النمو مثل المجتمعات العربيّة.
&
* وما هي هذه الجوانب الإيجابيّة لظاهرة العولمة، وقد حرصت على تأكيدها؟
* للإجابة على هذا السؤال أكتفي بالتلميح إلى النقاط التالية: تقدم المعرفة في شتى المجالات، الثورة الاتصاليّة، سقوط المسافات والحدود بين البلدان، تبلور ملامح ثقافة كونيّة تمثل فرصة ثمينة لثقافات الشعوب المتخلّفة اقتصاديا وتقنيّا بأن تصبح روافد إثراء للثقافة الكونيّة من جهة، ولتفيد من تقنياتها المتقدّمة لتعرف بخصائصها، ولتتحوّل مع الزمن جزءا منها. أما إلحاح الخطاب الرسمي في بعض البلدان على الخصوصيّة الثقافية باعتبارها تمثل أساسا متينا من أسس الهويّة فإنّه يؤدي في نهاية الأمر إلى المزيد من التهميش، والبقاء خارج ديناميّة تطوّر المجتمع الإنساني المعاصر. ومما يلفت النظر في هذا الصدد أن البلدان التي يلحّ فيها الخطاب الرسمي على الخصوصية الثقافية والهويّة هي من أكثر البلدان عداءا للديمقراطية، وحقوق الإنسان، وقد سبق أن كتبت مؤكّدا أنّ من لا حقوق له لا هوّية له.
&
* تؤكد دائما على أنه ثمة مبادئ جيدة أتت مع العولمة. ما هي تلك المبادئ؟
* لا بدّ من الإلماح إلى مبدأ جوهري من المبادئ الجيدة التي اقترنت بظاهرة العولمة، وأعني مبدأ احترام الحريات العامة، وحقوق الإنسان. باعتبارهما دعامتين صُلبتين من دعائم أية تجربة ديمقراطية حقيقيّة، لا ديموقراطية شكلية تختلف فيها الممارسة عن القول اختلاف الليل عن النهار. ولا مناص في هذا الصدد من الإشارة إلى ضرورة التمييز بين جوهر الظاهرة باعتبارها ظاهرة إيجابيّة، وبين محاولة استغلالها من قوى إمبريالية دوليّة للتحوّل إلى إيديولوجية الليبرالية الجدية المتطرفة، وهو التيار الليبرالي المتبني لمبادئ أصولية السوق، وهي أصولية ليست غريبة عن الأصولية الدينية السياسية التي استغلت ظاهرة الإرهاب لتنظر إلى الحرب الوقائية أو الاستباقية، ولتصبح الهيمنة على أي مكان في العالم مهما كان قصيّا، دفاعا عن أمن الولايات المتحدة الأمريكية.
&
* ما انفك الساسة، وأهل الاختصاص في شؤون الفكر والاقتصاد، وتقنيات الاتصال الحديثة، منكبين على فهم ظاهرة العولمة حتى فاجأتهم ظاهرة "الإرهاب الدولي"، أليس كذلك؟
* نعم، هذا صحيح تماما. وقد اكتسب يوم الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 بعدا خطير الشأن، في أهدافها وتقنياتها، أعني ظاهرة الإرهاب، واستغلتها قوى يمينية متطرفة في الولايات المتحدة لتخرج على الناس بنظرية جديدة في المجال الأمني والعسكري، وليصبح الدفاع عن أمن الشعب الأمريكي في أية بقعة من العالم، وبجميع الوسائل، دفاعا مشروعا يجب أن تقبله جميع الشعوب طوعا أو كرها. وذهب المخططون في الخفاء إلى أبعد من ذلك عندما شرعوا في التنظير إلى إمبريالية جديدة تذكّرنا بإمبريالية المرحلة الاستعمارية في القرن التاسع عشر بالخصوص، فهي تلتقي معها في جوهرها عبر الغزو والاحتلال المباشر.
&
* وهل كان موضوع العراق حلقة في هذه السلسلة؟
* نعم، إن احتلال العراق وحكمه من طرف قوة عسكرية إمبريالية حكما مباشرا، والسيطرة على ثروته النفطية جاء تطبيقا لاستراتيجية التنظير للإمبريالية الجديدة، وقد ذهب المحلّلون السياسيون إلى أن بغداد هي البداية فحسب، وليست نهاية، فقد صرّح الجنرال كولن باول قائلا : " إن حربنا على العراق هي مقدمة لتغيير خارطة الشرق الأوسط بأسره". ومن النافع القول هنا : إن ظاهرتي الحرب على الإرهاب، والاحتلال العسكري المباشر، مرتبطتان بظاهرة العولمة كما أدلجتها الليبراليّة الجديدة المتطرّفة، والتي جعلت منها الوجه الآخر لأصولية السوق، فالليبراليون الجدد& يلتقون مع المحافظين الجدد في استغلال التقدّم المعرفي والتكنولوجي الذي يمّثل السمة البارزة للعولمة لفرض نظام عالمي جديد بقيادة قوى اليمين المتطّرف. وليس من الصدفة أن نجد ضمن زمرة المحافظين الجدد المنظرين للحروب الوقائية أو الاستباقية مَنْ هُمْ مِنْ غلاة الإيديولوجية الصهيونية.
&
* هل لهذا علاقة بنظرية خلق العدو؟
* لقد اتضح من جديد أن الرأسمالية الاحتكارية تحتاج إلى خلق عدو، ولو كان وهميّا، فقد زعم دعاتها أيام الحرب الباردة بأن سقوط ديكتاتورية بلدان المعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفيتي سيكون انتصارا لمبادئ الحريّة، وحقوق الإنسان، وسيؤدي سقوط الأصنام الكبيرة في هذا المعسكر إلى سقوط الأصنام الصغيرة في بلدان العالم الثالث. وزعموا أن ميزانيات المعسكر الغربي الضخمة المخصصة للحرب الباردة، وإنهاك الاتحاد السوفيتي في مجالي المعركة الاقتصادية، وسباق التسلّح ستصرف بعد السقوط على مخططات التنمية الاقتصادية في المجتمعات السائرة في طريق النمو، ولم تمر إلاّ سنوات معدودة على سقوط جدار برلين 1989 حتى "عادت حليمة إلى عادتها القديمة"، فبدأت الرأسمالية الاحتكارية تسعى إلى خلق عدو جديد تنظر له فكريا وإعلاميا، وتعد له في الوقت ذاته الخُطط الاستراتيجية والعسكرية، فطلعت علينا بنظرية نهاية التاريخ" وانتصار الليبرالية نهائيا. ثم انتشرت مقولة "صراع الحضارات" لتحذّر الرأي العام الغربي قائلة: إن العدو قادم من الجنوب هذه المرّة، ومن بلاد الإسلام بصفة أخص. وهكذا تحوّل الصراع أيام الحرب الباردة من صراع إيديولوجي سياسي إلى صراع حضاري ديني. ولم يبق الأمر مقتصرا على كتابات ممثّلي اليمين الأمريكي المتطرّف، بل سقط القناع، وانكشف اللب عندما بدأ قائد جوقة الإمبريالية الجديدة يدق طبول الحرب، فاستعمل في خطب رسمية مفهومي " الحرب الصليبية" و" محور الشرّ" وحَسِبَ كثير من أهل الاختصاص في الشؤون السياسية الاستراتيجية أن الحلف الأطلسي سيحمل بعد سقوط جدار برلين إلى مثواه الأخير في مقبرة الحرب الباردة، ولكنّّهم فوجئوا به في شرق أوروبا، وله مشروعات في أفغانستان، وباحثا عن تعاون وثيق في منطقة المغرب العربي، ويندرج كل ذلك ضمن البحث عن هذا العدو الجديد الذي أطلّ برأسه من الجنوب، وأطلقوا عليه اسم " الإرهاب " وضرورة شن حروب ضدّه بأشد الأسلحة فتكا وتدميرا.
&
* إذن فأنت تهدف من وراء هذه الإشارة السريعة إلى البرهنة على أن التنظير إلى مرحلة الإمبريالية الجديدة قد بلغ مرحلة التنفيذ مع وصول المحافظين الجدد إلى مركز صنع القرار في البيت الأبيض....
* لقد عبروا سريعا من النظرية إلى التطبيق... وأود في هذا الصدد إبراز النقطتين التاليتين: أ- التنظير للإمبريالية الجديدة لم ينطلق من فراغ، بل نجد جذوره في تفكير مدرسة اليمين الأمريكي المتطّرف، وكان الجديد فقط هو بلوغ مرحلة التنفيذ مع الرئاسة الأمريكية الحالية عبر نقطتين أساسيتين: حاولت الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب الباردة فرض زعامتها العالمية عبر ما أسمته بالنظام العالمي الجديد، والاستيلاء على إرث الاتحاد السوفيتي، والعمل على إعادة تقسيم العالم وتحويله إلى عالم طيّع ومطيع، وليس من المبالغة القول إنها ورثت النظم الإمبريالية القديمة ذات الاستراتيجية التوسعيّة، ولكنها طبّقتها بذكاء أكبر، ذلك أنها تطبق هذه الاستراتيجية باسم بلد يزعم أنه يمثّل الأسلوب الأمثل والأسمى من أساليب الديمقراطية الليبرالية. وهكذا تمكنت عبر الشرعية الديمقراطية من إقامة نظام دكتاتورية رأسمالية احتكاري مستغلّة في ذلك المنظمات الاقتصادية والبنكية العالمية الخاضعة إلى سيطرتها، وإذا حاولت منظمة دولية مثل هيئة الأمم المتحدة أن تقف في وجهها، وتتجاوزها، بل قل تهمّشها لتصبح تكيّة لتوزيع المعونات الخيريّة. إن الذين شبّهوا الإمبراطورية الأمريكية بالإمبراطورية الرومانية رغم فارق الزمن لم يسرفوا في القول. فالسلم الأمريكي هو اليوم لفائدة الطبقات الثرية على حساب الطبقات الكادحة كما كان السلم الروماني بالأمس. ب- إن فكرة زعامة العالم تنطلق من فرضية عنصرية ذات طابع أسطوري، وأعني فرضية " القدر المحتوم"، أي أن قدر الولايات المتحدة المحتوم هو زعامة العالم، وتذهب هذه النظرية إلى أن العنصر الانكلوساكسوني هو الأرقى، ومن ثمّ يكتسب حقا طبيعيا للاستحواذ على أية منطقة في العالم، وتلقتي نظرية القدر المحترم هذه مع النظرة الدينية الميتافيزيقية للعالم. ولا بد من إبراز موقف عدد كبير من المفكرين الغربيين، وبينهم مفكرون أمريكان رواد يرون في الوطنية الأمريكية ذات الطابع الشوفيني، وقد انكشفت للعالم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، نقيضا بيّنا لفلسفة الأنوار، وأن السياسة التوسعيّة للولايات المتحدة تعبّر في نهاية المطاف عن موقف إمبريالي كوني& ضد فكرة التقدّم التاريخي.& ولعله من المفيد في خاتمة هذه الفقرة التمهيدية التذكير بدور الإمبريالية الجديدة في دعم ظاهرة الإرهاب، والتأسيس لها. فعلاقتها مع تنظيم القاعدة واضحة، وتأكيد واشنطن على الإسلام السياسي كبديل في بعض الأقطار العربية أصبحت لا يحتاج إلى إقامة دليل، أما دعمها المالي والعسكري للنظام العراقي في حرب الخليج الأولى فقد فضحته الوثائق الأمريكية نفسها.
يتبع
&
الحلقة الثانية
الحلقة الثالثة
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف