ثقافات

لقاء إيلاف الأسبوعي د. الحبيب الجنحاني (2/3): الغرب ليس واحدا، بل متعدّدٌ

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
أجرى الحوار حكمت الحاج
&
&
د. الحبيب الجنحاني في سطور: مفكر تونسي ذو اهتمامات فكرية واسعة.& أستاذ التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع العربي الإسلامي بالجامعة التونسية.& ناضل سياسيا ونقابيا واجتماعيا وأسهم في حركة التحرر الوطني التونسية.. نشر العديد من الكتب من أبرزها: "دراسات في الفكر العربي الحديث"،& "المغرب الإسلامي الحياة الاقتصادية والاجتماعية". وبمناسبة صدور كتابه الجديد بعنوان "المجتمع المدني وأبعاده الفكرية" بالاشتراك مع الباحث المصري د.عبد الفتاح إسماعيل، عن دار المعرفة بدمشق، التقينا الأستاذ د. الحبيب الجنحاني لمزيد الحديث عن معضلات العولمة ومشكلات الصراع الحضاري بين العرب والغرب، والمسألة العراقية، وضرورة المجتمع المدني لزمان العرب المعاصر، وغيرها من الإشكاليات، فكان هذا الحوار:
&

&* بعد هذا المدخل الذي قد يُتهم بالإسهاب، ولكننا نرى أنه أساسي، ليتك تموضع إشكاليات الحرب على الإرهاب، والحرب على العراق، على مستقبل الديمقراطية في الوطن العربي، في مسارها الدولي والإقليمي معا؟
* إن قصة الديمقراطية المحمولة على أجنحة الصواريخ إلى الأرض العربية تمثّل افتراء مفضوحا، واستبلاها للشعوب. فالتجارب الديمقراطية الحقة يبينها نضال الشعب ذودا عن حريّتها وحقوقها. لقد حققت الديمقراطية وكذلك حقوق الإنسان خطوة نوعيّة في عصر العولمة عندما تحوّلتا إلى مفهومين كونيين يتجاوز النضال في سبيلها الحدود الوطنية، وتتظافر في الدفاع عنهما قوى التحرّر والتقدّم في العالم بأسره. ولكن تبقى سمات كل تجربة متأثرة بمعطيات وطنية وإقليمية معينة، وبمدى صمود هذا الشأن أو ذاك في مواجهة جميع أشكال الاستبداد. تكفي أمور ثلاثة لفضح زيف الدعوة الديمقراطية التي يبشر غلاة الإمبريالية الأمريكية بنشرها: الأمر الأول هو إن سلوك البلدان المعروفة بعدائها للديمقراطية وحقوق الإنسان داخل أوطانها لم يتغيّر بعد احتلال العراق، فهي مطمئنّة أن رياح الديمقراطية الأمريكية لن تعصف بها، وهي الخبيرة بالمخططات الحقيقية لسياسة واشنطن. أما الأمر الثاني فهو مثال باكستان، فبعد أن ندّد الغرب بنظامه العسكري وطالبه بالعودة إلى ثكنته ليترك الشعب الباكستاني يواصل تجربته الديمقراطية من جديد تحوّل النظام بعد تحالفه مع واشنطن في حرب أفغانستان إلى طفل الغرب المدلل وأصبح الجميع يطلب وده. ثالثا : كيف يصدق العالم حماسة السياسة الأمريكية الرسميّة إلى نشر الديمقراطية في الوطن العربي بعد أن فضحت الوثائق الأمريكية الرسميّة نفسها مخططات واشنطن لفرض نظم عسكرية فاشية في بلدان أمريكا اللاتينية خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وما تدبيرها لانقلاب الجنرال "بينوشيه" في "شيلى" إلاّ مثالا من أمثلة كثيرة. ولا يختلف اثنان من العارفين بشؤون السياسة الأمريكية حول مبدأ ثابت وأساسي يؤثر في السياسة الخارجية الأمريكية، ويتلخّص ذلك في مصالح الرأسمالية الاحتكارية ممثّلة أساسا في المرحلة الحالية في شركات صناعة السلاح، والشركات النفطية، وتحوّلت هذه المصالح في المرحلة الأخيرة إلى استراتيجية دولية تستند إلى التنظيم لمرحلة إمبريالية جديدة.
&
* لكن يقول البعض إن التواجد الأمريكي في العراق هو من أجل الديموقراطية الغائبة والمساعدة على نشرها....
* إن الغزو الأمريكي للعراق ليس لنشر الديمقراطية، وفرض احترام حقوق الإنسان في المنطقة، بل هو مقدّمة لتغيير خارطة الشرق الأوسط بأسره كما أعلن ذلك الجنرال كولن باول، وأذهب إلى القول إن هذه الخارطة الجديدة ستقوم أساسا على استراتيجية أثنية وطائفية ومذهبية بالدرجة الأولى تهدف إلى تفتيت دول المنطقة وبعث دويلات أثنيه وطائفية تابعة يتحكّم في شؤونها تحالف أمريكي إسرائيلي. هل نحتاج بعد كل ما لمّحنا إليه إلى البرهنة على أن قضيتي حقوق الإنسان والديمقراطية في الوطن العربي تواجهان اليوم تحديات كبرى، وليس من المبالغة القول: إن معركة الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي قد دخلت بعد احتلال العراق منعرجا خطيرا الشأن، وازدادت الأمور تعقيدا ووضعت قوى الحريّة والتقدم في العالم بصفة عامة، وفي الأقطار العربية بصفة أخص أمام مسؤوليات جديدة، وأوضاع معقّدة. ونشير في هذا الصدد إلى أن الانعكاسات السلبية لظاهرة الحرب على الإرهاب في مجال حقوق الإنسان قد اكتست طابعا دوليا فاتخذت تعلّة للتنظيم للحروب الوقائية، وانتهاك حقوق الإنسان، وخاصة حقوق الأقليات التي تعيش في الغرب، وما سنّ قوانين جديدة للهجرة ومنح الجنسية لأبناء الجنوب إلاّ دليل آخر على استغلال قوى اليمين لظاهرة الإرهاب لتشديد الخناق على الأقليات التي تعيش منذ أمد طويل في البلدان الغربية وفي مقدمتها الأقليات العربية والإسلامية. وتواجه القوى المؤمنة بالديمقراطية، وحقوق الإنسان في الوطن العربي نوعين من التحديات، تحديات ذات طابع دولي، وتحديات ذات طابع وطني، فالقوى الدولية أصبحت تغض الطرف عن انتهاك حقوق الإنسان في بلدان أعلنت انضمامها إلى التحالف الدولي ضد الإرهاب، ومثال باكستان المذكور واضح في هذا الصدد، وتحديات ذات طابع وطني، فكثير من النظم استوعبت بسرعة درس أسيادها في المجال الدولي لتتخذ من مقاومة الإرهاب تعلّة لتُحكم قبضتها على قوى الحريّة والديمقراطية المعادية بحكم رؤيتها لجميع أشكال التطرّف والعنف، وهذا يذّكرنا بما قامت به بعض النظم العربية بالأمس القريب لمّا استغّلت مواجهة حركات التطرّف الديني لتقمع في الوقت ذاته ممثلي تيار الأحرار الديمقراطيين. إن هذه التحدّيات بنوعيها تتطلب من جميع قوى الحرية والديموقراطية في الوطن العربي ومنظمات حقوق الإنسان بصفة أخص، استراتيجية جديدة وتنسيقا دقيقا فيما بينها من جهة، وعقد تحالفات مع المنظمات الدولية لحقوق الإنسان، من جهة أخرى. وهنا تبرز أهمية التعاون الدولي، وأهمية بروز مفهوم المجتمع المدني الدولي بصفة خاصة وينبغي أن تسعى قوى المجتمع المدني العربية إلى دعم هذا المفهوم الجديد. والإفادة منه، ولا ننسى الحالات التي مثلت فيها قوى الحريّة والتقدّم في الغرب خشبه النجاة لما اشتدّت موجة الردة والرداءة في هذا البلد العربي، أو ذاك. ولا نغفل عن التذكير هنا بأن الغرب ليس واحدا، بل هو متعدّدٌ، وأن الأحرار الغربيين هم الذين أماطوا اللثّام عن قضايا مخططات قوى اليمين. وهم الذين فضحوا بالحجة الدامغة إيديولوجية المحافظين الجدد، وسعيهم القديم الجديد للوصول إلى مركز صنع القرار في واشنطن، فلا بدّ للنخبة السياسية والفكرية العربية أن توطّد علاقاتها مع قوى المجتمع المدني في الغرب، وأن تعمل من أجل أن تكون جزءا ذا شأن في منظومة المجتمع المدني الدولي.
&
* ثمة حديث الآن في العراق عن بوادر تكوين لجمعيات ومنظمات باسم المجتمع المدني. ما تعليقك؟
* عندما نعود إلى حالة العراق بعد الغزو، فإننا ندرك أهميّة قوى المجتمع المدني في سبيل التحرير أولا، ثم في سبيل إرساء دولة وطنية مستقبلة، وبناء مجتمع تعدّدي ديمقراطي, ولكن المشكلة تبرز هنا في ضعف المجتمع المدني نتيجة خضوع البلاد طيلة خمسة وثلاثين عاما لنظام حزب واحد معاد للرأي الأخر، وللتعدّدية السياسية والفكريّة، وتمثّل العقلية العشائرية نواته الصلبة. إن العراق تهدّده اليوم النزعات الأثنيّة والطائفية والعشائرية، ومن هنا فهو في حاجة ملّحة إلى دعم قوى المجتمع المدني، ويمكن في هذه الحالة المحدّدة أن تتظافر منظمات المجتمع المدني العربية وفي طليعتها منظمات حقوق الإنسان مع منظمات المجتمع الدولي لتأسيس شبكة من مؤسسات المجتمع المدني تقف في وجه المحتل، وتقف في الوقت ذاته في وجه القوى الأخرى المتاجرة بمصلحة الشعب العراقي.&
&
* كثر الحديث في الآونة الأخيرة، وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر أيلول 2001& في منطقتنا العربية، عن حوار الحضارات، وصدام الحضارات. ويبدو لي إن العرب مرة أخرى يدخلون نفق النهل من الغرب والسير على منوال ما يريد الغرب نفسه أن نفكر فيه خدمة لمصالحه. أسألك، هل يجب أن نتعلم من الغرب كل شيء؟
* أودّ أن ألاحظ بداية أن اختلاف الرؤى واختلاف الحضارات وتميزها بعضها على البعض الآخر ظاهرة عرفها تاريخ المجتمعات البشرية منذ عصور الحضارات القديمة، من الحضارة الصينية إلى المصرية إلى حضارة بلاد وادي الرافدين ثم الحضارة العربية الإسلامية وصولاً إلى الحضارة الحديثة التي أصبحت تعرف اليوم بالحضارة الغربية. وهذا أمر طبيعي، لأن لكل حضارة ميزاتها وسماتها الخاصة بها. وهذه الميزات تأثرت في الماضي وفي العصر الحديث بالعامل الجغرافي والديني والاقتصادي واللغوي، إلخ... من العوامل التي تعتبر أسسا لحضارة ما. لكن في الوقت نفسه، لا بد من تأكيد ظاهرة عرفها تاريخ الحضارات، وأعني بذلك ظاهرة التأثر والتأثير ما بين هذه الحضارات المختلفة، فلا نعرف في التاريخ حضارة كانت منعزلة عن الحضارات التي زامنتها أو التي سبقتها أو التي جاءت بعدها. فطبيعة الحضارة أن تكون متفاعلة تؤثر وتتأثر. لكن ما الذي حدث منذ القرن التاسع عشر بصفة خاصة، أعني بعد نمو الرأسمالية وظهورها كقوة لا ترتبط بالحضارة الغربية فحسب بل كحضارة عالمية؟ الذي حدث هو أن هذه الحضارة الغربية وهي الحضارة الحديثة وبالرغم من أنها في رأيي نتاج حضارات بشرية متعاقبة، بالرغم من ذلك فقد نجح الغرب في أن يسيطر على هذه الحضارة ويعتبرها حضارته الخاصة، ومن هنا جاء وصفها بالحضارة الغربية. تزامنت قوتها وإشعاعها مع دخول حضارات قديمة في ذمة التاريخ أو ركود وضعف حضارات أخرى بالرغم من أنها حضارات حية مثل الحضارة الغربية الإسلامية. وهكذا نستطيع أن نقول& إن الحضارة الحديثة التي ظهرت بوادرها الإيجابية مع عصر الأنوار في القرن الثامن عشر ميلادي، أخذت طابع حضارة كونية وأصبحت تمثل نموذجا وقدوة للشعوب الضعيفة وهي بحكم ضعفها أصبحت تحت سيطرة الرأسمالية العالمية منذ القرن التاسع عشر بالخصوص، إلى عصر العولمة اليوم. لكن لا بد في الوقت ذاته أن نبرز وجهين لهذه الحضارة الغربية التي أصبحت كونية كما ألمحت قبل قليل.
&
* وما هما هذان الوجهان؟
* وجه بشع ورديء ويتمثل ذلك في (المآسي التي تسببت فيها الرأسمالية الغربية وخصوصا بعد بلوغها نهاية القرن ومرحلة الإمبريالية وأعني مآسي الحروب الاستعمارية وحربين عالميين. وهناك الوجه الآخر لهذه الحضارة وهو الوجه المشرق والمضيء، وجه الحرية والتقدم السياسي والمعرفي واحترام المؤسسات الدستورية وحقوق الإنسان وغيرها من المسائل التي جعلت الحضارة الغربية قدوة لكل الحركات النهضوية والإصلاحية التي عرفتها مجتمعات البلدان النامية والعالم الثالث وحتى أمريكا اللاتينية. وتعليقا على الإشارة إلى ما تفضلتم به من الحديث حول صدام الحضارات، فإنني حريص على القول إن رواد الحركات الإصلاحية في الوطن العربي منذ منتصف القرن التاسع عشر ثم بعد ذلك خلال النصف الثاني من القرن العشرين قد ميّزوا تميّزا واضحا بين وجهي الغرب المشار إليهما أعلاه، فهم كانوا يُقاومون الاستعمار الغربي وأساليبه في استغلال البلدان العربية وغيرها ولكنهم في الوقت نفسه حاولوا الإفادة من الوجه المشرق الذي ميز الحضارة الغربية. فدعوا إلى مقاومة الحكم المطلق الاستبدادي واحترام الحريات، وإنشاء الدساتير والانتخابات البرلمانية التي عرفها الغرب. ورد في هذا النص مفهوم المجتمع المدني أكثر من مرّة، وهو مفهوم جديد في أدبيات الفكر العربي المعاصر، وهذا لا يعني أن قوى المجتمع لم تكن موجودة، بل كانت أكثر نشاطا، وأبلغ تأثيرا في كثير من الأقطار العربية قبل ميلاد الدولة الوطنية، وبروز نظم الحزب الواحد، ويكفي أن نذكر هنا بما قامت به هذه القوى في تاريخ حركات التحرّر الوطني العربية. وبما أسهمت به في مرحلة ما بين الحربين في نشر الوعي الوطني من جهة، وفي إثراء الحياة الفكرية والاجتماعية من جهة أخرى. لقد أصاب المجتمع المدني الوهن عندما أمّم نظام الحزب الواحد من جهة، والمؤسسة العسكرية من جهة أخرى المجتمع وأصبح أي عمل جماعي تطوّعي يثير الريبة والشكوك.
يتبع
&
الحلقة الأولى

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف