أخبار

لا تفسدوا ذكرى عرس العراق يا أهل النهرين لا تفرطوا بصبح أصباحكم

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
رشيد الخيُّون
&
&

"عرس العراق" عبارة قالها أبو عمر الجرمي عن يونس النحوي: "أنا أذكر عرس العراق. فقيل له: وما عرس العراق؟ قال موت الحجاج سنة خمس وتسعين"(ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الأمم والملوك). وهذا إبراهيم النخعي، أحد أركان مدرسة الرأي بالعراق، سجد لله وبكى فرحاً لموته. قال تلميذه حماد بن أبي سليمان (أستاذ الإمام أبي حنيفة النعمان): "بَشرتُ إبراهيم بموت الحجاج فسجد...ما كنت أرى أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت إبراهيم يبكي من الفرح"(ابن خِلّكان، وفيات الأعيان). والنخعي هو القائل: "كفى عمّي أن يعمى الرجلُ عن أمر الحجاج"( المصدر نفسه). مات النخعي مرتاحاً بعد سنة واحدة على موت الحجاج، أي 96هـ. فهل عمينا عمَنْ هو أكثر تبذيراً في الدماء من حجاج، وهل يُراد لهذا العرس أن يتحول إلى مأتم؟
&نرى كل المتضررين من فقد حجاج يدفعون نحو إشاعة الفوضى وحرمان العراق من تحريره الثاني. وهم أنفسهم طربوا لمقتل محمد باقر الصدر وأخته، وقتل محمد محمد صادق الصدر وولديه. فالوضع السابق لايتحمل مطالب الأخير: الإفراج عن زيارة الأربعين والإفراج عن العلماء المعتقلين. ورغم زهد المطلب إلا أن الصدر رأى السيف أقرب إلى نحره من حبل الوريد، فألتحف الكفن، الذي إلتحفه أول مرة الشيخ محمد مهدي الخالصي الابن. إلتحفه الصدر في أجواء مخيفة لحد الفزع، ينتظر الموت في أي لحظة، نجد فيه تحدٍ لآلة الرعب المهيمنة في المكان.
كان لإرتداء الكفن معنىً وهيبة وتعالٍ على الموت قتلاً، وله وقع على المشاعر، لكننا نراه تحول هذه أيام إلى زي للمباهاة والتلويح برعب الناس، وإستعراض القوة. الذين يرتدون الكفن اليوم كانوا شهود قتل محمد محمد صادق الصدر وولديه، فأين كانت أكفانهم، وأسلحتهم، وأين إختفى صوتهم؟ قتل الصدر الأب في السنة 1999 وأستمر قاتله حتى العام 2003، وطوال هذه الفترة كانت التقية سيدة الموقف. عجباً! الشامتون بالصدر الأب، والذين قالوا: قتل الشيعة بعضهم البعض وأعلنوا براءة النظام من قتله يتحمسون اليوم لولده، والصحف التي أعتبرت الأب عميلاً إيرانياً أعلنوا ضم ولده لتجمعاتهم باسم الديمقراطية والقومية.
كان التاسع من أبريل عرساً، وكان الثالث عشر من كانون الأول عرساً، وسيكون الثلاثون من حزيران عرساً، ولأنه أصبح على الأبواب تراهم يضعون العراقيل لتحقيقه.
انتظر الشاعر& الشعبي العراقي صبح أصباحه ولم يأت، فنذر لقدومه روحه قرباناً فقال:
أدكَ روحي نذر للجايب بشارة!
لكن شاعر آخر& أبخس قربان صاحبه، لطول انتظاره، فكتب له من وراء مقاصب الهور البيضاء:
بس روحك نذر للجايب بشارة
أعلكَ الروح وأولادي بكَنارة
رغب الشاعر أن يبيع لحمه الجزارون من أجل صبح الأصباح..
مات الشاعر وهو يحلم بأشعة ذلك الصباح! مات بعد خذلان لم يصح من غيبوبته إلا للموت.
لقد صرخ قبلها بصوت ظل يدور بين جدران بيته، حتى أجهز على أنفاسه،
قال لغجرية كانت تأن لأنينه:
غني غني الصوت ما يطرب كَلب محزون غني
غني ما ريد البواجي اجروحي يلجمني هذني
غني طول الونه كلش ما تشيل السفن وني
غني غني بنغمة الحق مو حجي الباطل كتلني
مات وماتت الغجرية، ومات جيل عدَّ من دهر العذاب أربعمائة وعشرين شهراً، وهو ينتظر ذلك الصبح.
&خمس وثلاثون سنة أنقضت، ولسان حال الجواهري يقول: "ضقنا بها ضيق السجين بقيده/من فرط ما حملت على الأوزار". أربعمائة وعشرون شهراً، أثنا عشر ألف وستمائة يوم بلياليها وزوارها السريون. دهر طويل والعراقيون ينتظرون صبحاً أعترض رجال الدين، من السودان والأردن واليمن، على قدومه، أعترضه يسار العالم، مع أن أول خطبة دينية صريحة خطبها الشيخ أحمد الكبيسي، وأول صلاة تقام في الطرقات. وأول صحيفة ظهرت يوم التاسع من أبريل هي جريدة اليسار العراقي، وأول مسيرة خفقت أعلامها سلماً هي مسيرة اليسار العراقي. وأول زيارة أربعين مليونية تتحقق بعد سقوط التمثال. وأول مرة ينعم الشباب العراقي بأمنهم من قانون الجندية الإجباري، الذي سنه مدحت باشا، ثم طوى به البعثيون مئات الآلاف من الشبيبة. وبعد أيام عادت المياه إلى الأهوار، بعد أن بثقت السدود والحواجز بثوقها، فعادت الأسماك والطيور إلى مكامنها، وعاد المهجرون والمهاجرون إلى ديارهم دون سؤال وإستفسار وموقف من الجيش الشعبي وخدمة (العلم).
&أعترض المعترضون لأن الحرب هي الحرب، لكنهم يقولون لا للحرب ولا يقولون لا للظلم، وكأننا هواة حرب، وحمالي ظلم، لاينظرون هول محنتنا. فأي بلد ينذر فيه الشعراء أرواحهم قرابين من أجل الخلاص، وأي بلد أكلت كلابه فيه أطباءه، وأي بلد قُطعت فيه ألسنة المُضحكيّن، الذين يلوذ الناس بسخريتهم من الكآبة والغنط، وقتلت الأم فيه بعد لحظات من ولادتها قبل أن تسر بملامح وليدها، ووشى فيه الأب بأبنه والابن بأبيه، وزغردت فيه الأمهات قهراً لقتل أولادهن، ودفع فيه الأهل ثمن رصاص قتل فلذات أكبادهم، وأي سلطة أستخدمت في أقبية أمنها ثرامات اللحوم، وقطعت أجساد الآدميين داخل التوابيت بالمناشير.
أليست هي القيامة وأهوالها؟ فكم ذيل سيضيفه قصاصو السجون والمعتقلات لموسوعات العذاب والمقاتل، تتضمن سمل العيون وبتر الأيدي بماء الذهب، وغرف ممغنطة محشاة بالمسامير، وخراطيم كهربائية تلسع الأبدان كأفاعي الرمال "تنفخ غاضبة". ورغم ذلك نخشى الحرب، وأي بشر لا يخشاها؟ وهل وجدونا متخلفين عن شفافية الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، وقوله في آلام أربعين سنة من حرب داحس والغبراء؟ لكننا ملسوعين بحرب مستمرة، يشنها علينا "المستعمر السري"، على حد عبارة الشاعر الضرير عبد الله البردوني، دهرها أربعمائة وأكثر من عشرين شهراً، أكرر هذا الرقم لهوله وثقله وبطأ جريانه.
دهر بدأ بصبح أبتلع متعة مدينتا بانحسار الطوفان السنوي، كنا صبية نمرح مع الطيور وهي تفتش بطون البحيرات بعد انحسار الماء عنها. قطع ذلك المرح الصاخب صمت الإذاعة، وإستمرار تلاوة الذكر الحكيم. بعد أيام عادت وجوه شباط 1963 تدريجياً. بالنسبة لنا سمعناها عبر الإذاعة ثقيلة محفوفة بالمكاره، ومنذ ذلك اليوم ونحن ننتظر صبحاً آخر، مرَّ الصبا ومر الشباب حتى تعثرنا بكهولتنا وغربتنا، وننتظر نجمة الصبح الجديد، ننتظرها مع شاعر آخر قال ما وزنه وزن نذر الروح وعرض الروح والأولاد قرباناً في دكان الجزار:
لا كَمر يروي الشواطي
بسبرة المد والجزر
ولا سِما ألتمطر نجمه
بلكي منها يهل نجم
يطرد الظلمة وهراتي يصيحن أطلع يا فجر!
كبرت الأحزان، وعطل البلاء المخيلة وخصوبة الأرض، وأهل الرافدين بين منفيين ومقتولين وصامتين على الكراهة بين سنة وأخرى ألعن من سابقتها، طوال أربعمائة وعشرين شهراً، كل يوم منها يعد بخمسين سنة مما يعدون، ألا يُترك العراقيون للإحتفال بنهاية سلطة رقطاء بعد الخلاص من أسوء سيئات الدهور والدول؟
ففي يوم عباسي رومانسي، نسبة لما نحن فيه، نزل ثلج في نواح من العراق ألبسها ثوبأً أبيض، ولعله من الغرائب نسبة لمناخ بغداد. كان ظلم ذلك الزمن لا يتعدى جباية ضريبة وملء القصور بالجواري الحسان، فسوط الجابي وخفة ميزان القاضي لم يُنسيا الشعراء جمال الطبيعة ولا بهاء البياض، فقالوا بالمناسبة:
يا صدور الزمان ليس بوفر
ما رأيناه في نواحي العراق
إنما عمَّ ظلمكم سائر الأرض
فشابت ذوائب الآفاق
لكن، ذهب ماء الفراتين، وهُجرت الطيور والأسماك من الشواطئ، وتحولت الآفاق إلى سجون، وحمل الموتى توابيتهم، وحفروا قبورهم بعظامهم، واستبدلت المكتبات بالثكنات، وكل مصائب الكون جربت بأهل العراق والشعراء صامتون، ورُفعت ذكرى أبي نواس من بغداد وأحفاده صامتون صمت الأموات، لأن هول الجور أعطب كل شيء، فأخرس الكلمات في الأفواه.
نكره الحرب وعلى الكراهة قبلنا تولي أجنبي خلاصنا تحت أي المسميات، لكن الجور لم يترك لنا خياراً غير الإستسلام لطبول الحرب، فهي رغم خرابها الكوني أهون من الحياة في ظل مَنْ خصَ الجواهري الكبير مرادفه:
ذئب ترصَّدني وفوق نيوبه
دم إخوتي وأقاربي وصِحابي
لم يبق لنا المستعمر السري الملتحف ثياب الذئب غير استصغار العجائب، ومنها القبول بالدارعات تعربد فوق سمائنا، ونحن غير منسجمين معها قلباً وقالباً، ذلك لعلمنا اليقين أنه لو فلت هذه المرة لتحول إلى مردوخ آخر توضع تماثيله وتعبد في زوايا أماكن العبادة! ولأبي تمام قول في استسهال العجائب إذا تساوت الأحداث بعجائبيتها:
على أنها الأيام قد صرن كلها
عجائب حتى ليس فيها عجائب
مرَّ عام والعراقيون يعملون صباح مساء من أجل تحرير بلدهم، من مساعدة أو إحتلال فقد تداخلت المسميات وتساوت العجائب، صبروا على تجاوزات وأخطاء المحتلين. فالفاتح أو المحتل مهما كانت نواياه لا تؤتمن صولته، أتى هذه المرة علناً لا سراً مثل السنة 1963 و1968، وهم يقدمون أمامهم قطعان الذئاب الضمآنة لدمائنا. مرَّ عام والعراقيون في خلاف وصراع المحررين المحتلين، فمَنْ يرى نفسه أكثر حرصاً على الوطن من أعضاء مجلس الحكم الخمسة والعشرين، وهم تلاوين العراق كافة، فالوعد الموعود على الأبواب، والبر بوعد تسليم السلطة للعراقيين هو الإختبار. أما مَنْ يشجع تجيش المراهقين ويطرب لمارشات جيش المهدي، رغم أنه يعتبر فكرة المهدي بدعة في الدين والدنيا وهو طائفي إلى أدق عرق فيه، ويتغزل بالفلوجة والمقاومة، ويحيي تفجير طوابير الشباب المرشحين إلى الإنخراط بسلك الشرطة والجيش فهو وحده المهووس غراماً بالمحتل وبطلب السلطة.
r_alkhayoun@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف