مثقفو بغداد وكتّابها بين عهدين
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
&
- 1 -
لم تزل طرية تلك الأيام التي كانوا يتسكّعون فيها بين المقاهي ومجالس المثقفين "العاطلين" العديدة؛ هؤلاء الذين عاشوا خارج أحضان المؤسسة الثقافية، وخارج كل شيء أيضا. كل مكان قضوا فيه وقتاً؛ كان له نكهته وعبيره، كان له روّاده وأزمانه. حدائق الاتحاد العام للكتّاب ظلّت تستقطب الأكبر سنّاً، الأطول عمراً في حرفة الكتابة؛ الساعين دوماً لإكمال حياة "المثقف" العراقي النمطية: الصعلكة والنقاشات الحادة وتبادل الاتهامات والشرب المستمر. وعادة ما يكون "بار" الاتحاد هو الملجأ الأخير . بعد زيارة المقاهي المختلفة، والمرور بشارع المتنبي؛ الذي أصبح في السنوات الأخيرة كعبةً للمثقفين والمتصلين بالثقافة من كل المشارب والأذواق والجنسيات.
&& المتنبي، احتضن باعة الكتب من الهواة والمحترفين، ضمّ "مشاريع" الكتّاب والشعراء الذين ظلّوا يتحرّقون شوقاً لأن ينشروا كتاباتهم ونصوصهم، بعيداً عن الرقابة وأعين المؤسسات الرسمية. العديد منهم، هاجر بكتاباته إلى صحف ومجلات في كل مكان خارج العراق، حتى أصبح معروفاً في شمال أفريقيا قبل أنْ يعرفه أحد في بغداد.
مقهى حسن عجْمي، واحة من نوع خاص، لراحة الكتّاب من بقايا جيل الستينات العظيم، الذين يقضون ساعات طويلة، مرهقة، في لعب طاولة النرد والدومينو قبل التوجه إلى اتحاد الكتّاب لإكمال النهار. بالطبع، لقد عرف هذا المكان أوقاتاً ثقافية عظيمة في الماضي، عندما كانت نخبة كبيرة من الطاقم الثقافي الستيني لا تزال في عنفوانها وأوج عطائها، الذي طبع الثقافة العراقية بطابعه الإنساني المتمرد لسنوات طويلة دوشيش، دوبيش، طاخ، آزنيـف.
& الشاه بندر يجتذب الصحفيين والزوار من العرب والأجانب الذين يقصدون شارع المتنبي كل يوم جمعة، لأنه ببساطة: لا يوجد أي مكان آخر للاستراحة. الشارع والمقهى يكملاّن بعضهما، مثلما يكملاّن صورة المشهد الثقافي العراقي، منذ أن فُرضت العقوبات الاقتصادية قبل أكثر من عشر سنوات، وتحوّلت المؤسسات "الثقافية" إلى أبواق ومنابر للدعاية الممجوجة. وفي أجواء الحصار "الحكومي" الخانقة خلال عقد التسعينات، تحوّل الشارع مع المقهى إلى رئةٍ وحيدة للمثقفين والكتاب، والباحثين عن الحرية والاختلاف.
& منذ سنتين، بدأنا نسمع باسم مقهى الجماهير. كان في البداية مطعماً شعبياً يقدم وجبات رخيصة للمهتمين بشؤون الثقافة والأدب والفن، الذين لم يتجاوز دخلهم الشهري دولارات معدودة أيام صدام. ثم تحوّل بعد الحرب إلى ما يشبه صالونا أدبيا لإلقاء المحاضرات وإقامة الندوات، التي تنظمها عدد من التجمعات او المنظمات الثقافية المستقلة الوليدة. لكن هذا المقهى يظل غير جماهيري، على عكس اسمه، الذي اكتسبه نتيجة قربه من مبنى دار الجماهير للطباعة والنشر، وليس لأي سبب آخر.
& الباحثون عن الثقافة والمشتغلون بها، كانوا يقصدون المتنبي كل يوم جمعة لشراء الكتب وتبادل الحوارات ولقاء الأصدقاء. لكن الكثيرين منهم، يتجنبون الجلوس في الشاه بندر التي تصبح مثل علبة سردين بشرية في هذا اليوم بالذات، ويختارون أحد أيام الأسبوع الأخرى لتدخين الأركيلة وشرب الشاي الحامض، و"تحليل" الأوضاع السياسية بانتظار الفَرَج!
& ولا يكتمل الأسبوع دون زيارة حوار، صالة العروض التشكيلية الشهيرة المجاورة لأكاديمية الفنون الجميلة. زيارتها كانت شبه واجبة كل يوم أثنين او ثلاثاء من الأسبوع، حيث تجتمع نخبة من الفنانين والمثقفين وجميلات أكاديمية الفنون في الحدائق والصالات الصغيرة "الحميمة". حوار لم تخيبنا أبداً، بمعارضها شبه الدائمة لكبار الفنانين العراقيين من مختلف الأجيال والاتجاهات. في حوار تحضر المرأة العراقية بامتياز: فنانة ومثقفة وصديقة وحبيبة. حضورها يكسر الطابع المونوتوني "الذكوري" الغالب على المشهد الثقافي العراقي، ويكسب المكان ألفة ورقّة تفارق تماما أجواء المقاهي الصاخبة ونقاشاتها المحمومة.&
&
- 2 -
& شارع المتنبي، حيث تنتشر مكتبات عريقة على جانبيه وباعة كتب هواة على أرصفته، تحوّل الى ظاهرة "مزعجة" للسلطة، بسبب انتشار ظاهرة استنساخ الكتب الممنوعة وتوزيعها سرّاً وعلناً، بدون الاكتراث لعيون السلطة وآذانها وأذرعها.
&نظام صدّام كان حساساً من أشياء كثيرة، وعلى رأسها الكتب بكل أنواعها، وكذلك المجلات والصحف العربية التي "استطال" لسانها فجأة، ولم تعد تحترم أولي الأمر او تكيل لهم المديح والثناء. وكثيرا ما كنا نشهد غارات "أمنية" سريعة ونظيفة، تعقبها مصادرات ومداهمات لمخازن الكتب ومعامل الاستنساخ، و"اختفاء" للمسؤولين عن هذه النشاطات "الهدّامة" لفترات قد تصل الى أعوام أحياناً... أو تقوم البلدية مصحوبة برجال الشرطة بمنع بيع الكتب على الأرصفة، لأن ذلك يتعارض مع الوجه الحضاري للعاصمة !!! عندها كان الشارع يفقد جاذبيته وحركته بسرعة غريبة، وينقطع روّاده، ويتحول الى ما يشبه المأتم او الميتم الثقافي.
في هذا الشارع، في هذه المقاهي والملاجئ، تحت ضغوط الفقر والتجاهل والرقابة والتقارير والاختفاء وُلدت ثقافة جديدة؛ أكثر حداثة، وأكثر انفتاحا، أقل تسييساً، وأقل غروراً. بالتأكيد، كنا داخل العراق أقلّ إنتاجا وفعالية بكثير من أشقائنا في الخارج، إلاّ أننا لم نكن أقلّ منهم تطلّعاً الى ثقافة مغايرة، أكثر إنسانية، وأكثر تعددية بالتأكيد.
ومنذ خطاب الرئيس الأمريكي في الأمم المتحدة بمناسبة الذكرى الأولى لهجمات سبتمبر، أدرك الجميع بأن شيئا ما سيحدث؛ لقد انتهى فلم "بن لادن" وبدأ فلم "صدام". بعد الخطاب مباشرة، بدأ تدفق الصحفيين والمراسلين الأجانب لاستكشاف ميدان الحرب القادمة. أذكر أننا عشنا أوقاتا حرجة، نتمزق بين رغبتنا الحارقة في إعلان كرهنا للنظام أمام المراسلات الجميلات، وبين خوفنا الأزلي من أن تطيح رؤوسنا قبل أن يطيح النظام، خصوصاً ان المراسلين كانوا مصحوبين دوماً بمرافقين أمنيين بصفة أدلاّء او مترجمين.
&وحدث التغيير بسرعة . على& أيدي الآخرين، وسط ذهولنا وعدم تصديقنا.
شهدنا ويلات الحرب، ثم أعمال السلب والنهب والحرق، التي طالت العديد من المعالم والمرافق الخدمية والفنية والحضارية، تحت أنظار قوات التحرير/الاحتلال ونحن أشبه بالعاجزين كل شيء كان غير قابل للتصديق مثل صدمة قوية او زلزال.
انتظرنا شيئاً يعيد بعض التوازن والاستقرار لنفوسنا وعقولنا، شيئا يؤكد لنا مغزى او معنى التغيير الكبير: هذا الـ Big Bang السياسي/العسكري.
كان صدور الصحف الجديدة " الخجولة " أسرع تغيير إيجابي يحصل في العراق. في البداية جاءتنا الصحف من المنطقة الكردية، ومن مراسلي بعض الصحف العربية، لتثبت لنا ان ما عشناه لم يكن حلما او كابوسا. بعد شهرين كانت عشرات الصحف تولد أو تموت بنفس السرعة، لكن بعضها صمد واستمرّ. فجأة، كانت هناك حركة بين الأصدقاء والشلل للانضمام الى جريدة أسبوعية او مجلة قيد التأسيس.
وبين ليلة وضحاها، كانت نسبة كبيرة من روّاد المقاهي والمتسكعين التاريخيين يكتبون بشكل منتظم، او يعملون كمحررين، او مسئولي صفحات ثقافية وسياسية. أصبحوا منشغلين جداً، يكسبون ما لا يقل أحيانا عن مائتي دولار شهريا، لينفقوها بنفس الطريقة "الصعلوكية" السابقة في حدائق الاتحاد - الذي زينت مدخله الآن لوحة كبيرة Billboard تمثل "الجواهري" العظيم بكامل أناقته، بدل صورة القائد الذي لم يعد "ضرورة" لأحد.
وبدل الكتب المستنسخة، امتلأت المكتبات والأرصفة بالكتب الأصلية الممنوعة سابقاً لبطاطو والنيهوم والعلويّان ومكية وشريعتي والصدر وأقطاب السنّة والشيعة وغيرهم. ثم غزتنا مجلات الجيش الأمريكي "الرجالية": F H M , STUFF, TATOO, MAXIM& ) )، والعزيزة على قلبي MAD إضافة الى مطبوعات أخرى لم نسمع بها مطلقاً.
تحوّل المتسكعون السابقون الى "ياقات بيض" في الصحف والمجلات، ومؤسسات وزارة الثقافة؛ التي يرأسها مثقف "منفتح"، لا يكلّ من سؤال الجميع عن ماذا يريدون من الوزارة. آخرون التحقوا بمكاتب الصحف والمجلات ووكالات الأنباء العربية والأجنبية، كمحرري أخبار او مراسلين او مترجمين. سيئو الحظ اكتشفوا فجأة، متأخرين كالعادة أهمية إجادة لغة أجنبية او استخدام الكمبيوتر، بالإضافة الى "فنون" العلاقات العامة بالطبع، ان المرء لا يتعلم مثل هذه "المهارات" في الأكاديميات البوهيمية او مقاهي المثقفين او حدائق الاتحاد!
بصورة عامة، نستطيع القول، ان التغيير على الأصعدة الثقافية والإعلامية كان مفيدا او مجديا الى حدٍ كبير، حرّر المثقفين من الفقر والرقابة والتسكع والتبعية الى حد بعيد.
&مع هذا، فان دور المثقفين والمبدعين في العملية السياسية - والحياة العامة ككل - لا يزال ضعيفاً جداً. وربما سيبقى كذلك الى زمن ليس بالقصير، ما دامت اللعبة السياسية مقتصرة على لاعبين "محدودين"، وفي أجواء يملؤها الغموض والإرهاب والانفلات الأمني!
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف