أصداء

السياسة الفلسطينية: غياب العقل الاستراتيجي

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

شكلت محطة أوسلو مفترقا حاسما في السياسة الفلسطينية المعاصرة، حيث فلأول مرة تدخل النخبة السياسية الفلسطينية في حالة اشتباك وتشابك مع السياسة الإسرائيلية، بعد أن كانت تدور حولها، في دائرة الصراع على الرأي العام الدولي، وحيث كانت كلا السياستين محكومتين بالاصطفاف الدولي على جانبي قطبي الحرب الباردة.
وإذا كانت هذه الحالة قد بدأت في مدريد وخلال التحضير لعقد المؤتمر الدولي فيها، عام 91، فأنها قد أخذت شكلها المباشر، حين شق الطرفان مفاوضات خلفية ثنائية بينهما في أوسلو، التي أفضت إلى الاتفاق المعروف، الذي وقعه الجانبان تحت الرعاية الدولية في حديقة البيت الأبيض الأمريكي عام 1993.
وقد تجلت مستويات هذه الحالة، خلال المفاوضات التي أعقبت توقيع الاتفاق بالأحرف الأولى، وصولا إلى اتفاق القاهرة، الذي عرف باتفاق غزة _ أريحا أولا، حيث شعر الجانب الفلسطيني الذي جاء بإرث الإدارة السياسية للثورة، لحركة التحرر الوطني، بأنه يجلس قبالة وفود متخصصة، أفرزتها مؤسسات دولة عصرية منظمة، لا تفاوض من فراغ، ولكن وفق أوراق وأرقام وعن دراية ومعرفة. الأمر الذي دفع الوفد الفلسطيني في حينه إلى الاستعانة بخبراء مصريين، خاصة في المستوى القانوني.
ومع الوقت ومع استمرار عملية التفاوض، كما كان الطرفان قد اتفقا، خاصة فيما يتعلق بملفات الحل النهائي، كان يتكشف باستمرار ضعف المفاوض الفلسطيني الناجم عن عدم تخصصه، وعن عدم استناده إلى جهد تخصصي مهني يقدم رؤية واضحة لمجمل الملفات المطروحة على طاولة التفاوض.
وفي تقديرنا أن الأمر لم يتوقف عند حدود الافتقار إلى التسلح بالمعطيات الفنية المهنية المتخصصة في المجالات المختلفة وحسب، ولكن افتقر المفاوض الفلسطيني إلى الرؤية الاستراتيجية التي توضح له حدود وفواصل ما يمكن التفاوض عليه، ما يمكن اعتباره استراتيجيا وما يمكن اعتباره تكتيكيا، ما يمكن التراجع عنه في لحظة ما، وما لا يمكن التراجع عنه.
وقد تضاعفت صعوبة الموقف، حين كانت القيادة السياسية، تؤكد على أن الطرفين يخوضان صراعا سياسيا حاسما، بنتيجته يتحدد مصير ومستقبل القضية الفلسطينية برمتها. وكانت الحالة تتعقد يوما اثر يوم، مع تعطل حتى المؤسسات القيادية عن القيام بدورها كمرجع للمفاوضين، كهيئات، بعد أن اختزلت هذه المؤسسات، بما فيها الهيئة القيادية الأولى، اللجنة التنفيذية ل م ت ف، في شخص الرئيس، رئيس اللجنة التنفيذية، ورئيس السلطة، خاصة وان الجميع يعلم بان معظم الفصائل التي كانت تشكل قوام المنظمة، كانت تعارض أوسلو، وبعضها أعلن انسحابه من اللجنة التنفيذية. فيما كانت القوى الإسلامية الصاعدة خارج المنظمة وما زالت، فضلا عن رفضها أوسلو ذاته.
ومع حدوث الاصطدام السياسي بين الجانبين في كامب ديفيد 2000، وذهابهما إلى مرحلة المواجهة الميدانية، استطاعت إسرائيل، الدولة المنظمة، التي توظف حتى خلافاتها الداخلية، بشكل يحقق مصلحتها الوطنية، أن تستلم زمام المبادرة السياسية شيئا فشيئا، ومن دفع الفلسطينيين إلى تحويل انتفاضتهم الشعبية إلى مواجهة مسلحة بين الجانبين، ثم إلى محاصرتهم لاحقا في دائرة ردود الفعل على ما ترتكبه من جرائم ومن مجازر، فتحت الطريق إلى العمليات داخل الخط الأخضر، وما نتج عنها من عدم تفهم دولي للكفاح الفلسطيني من اجل الاستقلال.
غياب الوعي الاستراتيجي عن القيادة السياسية الفلسطينية، دفعها إلى الوقوع في خطأ التقدير الناجم عن الاعتقاد بان إسرائيل لن تحتمل سقوط بضع مئات من القتلى في صفوفها، وان جبهتها الداخلية سرعان ما تتفكك على اثر ذلك. حيث حدث العكس، وتوحدت إسرائيل كلها وراء القيادة اليمينية المتشددة، ورئيسها الدموي اريئيل شارون.
ثم تضاعف المأزق الذي أحاط بالسياسة الفلسطينية، بعد أحداث الحادي عشر من أيلول في الولايات المتحدة، وعدم تقدير القيادة السياسية الفلسطينية لابعاد هذا الحدث على الصعيد الفلسطيني. وكل الأحداث السياسية بعد ذلك معروفة للجميع، حيث أصبحت القيادة الفلسطينية تلهث وراء الأحداث، أسيرة المبادرة الإسرائيلية من جهة، وردود الفعل الفلسطينية الميدانية عليها من جهة ثانية، فكانت تركض وراء سراب محاولة العودة إلى طاولة التفاوض من حيث توقفت، واستجداء العودة إلى الحالة والواقع الذي كان قائما قبل اندلاع المواجهة.
والحقيقة أن أية نظرة سريعة على واقع الهيكل السياسي الفلسطيني، أن كان ذلك المتمثل بمؤسسات السلطة، أو الهياكل التنظيمية للفصائل ذاتها، بهدف الوقوف على كيفية اتخاذ القرار، وكيفية صنع الموقف السياسي، تشير إلى حالة الفوضى التي تنتاب عصب النظام السياسي الفلسطيني القائم.
فإضافة إلى غياب وجود المؤسسات ذات الطابع الاستراتيجي، التي تقدم تصوراتها وتقديراتها ورؤاها للقيادة السياسية، وحتى غياب المفكرين والمثقفين كأفراد عن دائرة المشورة والتخطيط السياسي، فان الفصائل ذاتها، وتحديدا هيئاتها القيادية، تكاد تكون لجان لادارة العلاقات العامة. وهذا لا يقتصر على غياب الحياة الديمقراطية / الانتخابية داخل هذه الفصائل وحسب،بل وحتى غياب الهيكل التنظيمي، كما كان عليه حالها قبل عقود، حين كان مجمل التنظيم يشارك في تحديد سياسته وفي اتخاذ قراراته.
والغالبية الساحقة من الأمناء العامين وأعضاء المكاتب السياسية، توقفوا منذ سنين عن القراءة وعن المتابعة الجدية العميقة للتحولات والتغيرات السياسية الكونية والإقليمية، بعد أن انخرطوا في فعل يومي / ميداني، وتحولوا إلى هيئات لادارة الشؤون اليومية لأحزابهم وفصائلهم، فضلا عن القيام بمهمة العلاقات العامة الفصائلية ( باعتبارها مهمة وطنية ) فيما بينهم.
تتضح الصورة بشكل اعمق، حين يتم طرح أسئلة مفصلية تحتاج إجابات للرد على التحولات والمتغيرات الكونية والإقليمية، في الوقت الذي ما زال فيه الخطاب السياسي الفلسطيني بأسره يردد شعاراته ذاتها ويعيد إنتاج جوهره. يردد الجميع عن ظهر قلب، بعد كل ما حدث، ثوابت الحل للقضية الفلسطينية، دون التوقف لمراجعة العقل، لجهة التفكير في أن القرارات الدولية ذاتها التي أنتجتها ثنائية القطبية الدولية، ولم تستطع فرضها في حينه، أيمكن أن يتم فرضها الآن ؟
وحين يجمع هذا ( الكل الوطني ) على دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس وعلى حدود 67 وعلى حق العودة وفق 194، فان الجميع قد تحول إلى أسير للشعار، دون أن يقوى على صنع الآليات التي تحققه.
وهل حقا يمكن الآن فرض دولة فلسطينية بمواصفات فلسطينية على المحيط الإقليمي وعلى المركز الكوني؟
فان لم يكن للمعادلة الإقليمية مصلحة، وان لم تر حلا في إقامة هذه الدولة، فهل يمكن فرضها على الجميع ؟
ثم ما هي مواصفات هذه الدولة ؟ هل سيتوقف المحيط والمركز الكوني عند الثابت الفلسطيني المتعلق بالحدود ومفهوم السيادة، والتي بالمناسبة يتغير مفهومها في العالم بأسره، بعد أن تحولت دول قائمة وذات وزن دولي من حالة العزلة، إلى حالة التوافق الدولي.
ألم يرد المركز الكوني، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بان الدولة الفلسطينية يجب أن تكون ذات حدود متصلة، ديمقراطية، تعيش بسلام مع إسرائيل ؟
ثم ألا يعتقد البعض بان إقامة الدولة الفلسطينية، في لحظة إعادة ترتيب مفردات النظام الإقليمي، بطريقة تتجاوز سايكس _ بيكو، لابد لها أن تجيء في هذا السياق الإقليمي، وإلا فإنها قد لا تقوم ؟ هذه الأسئلة تحتاج عقلا استراتيجيا، يعيد ترتيب الخطاب السياسي الفلسطيني ومكوناته، على خلفية رؤية استراتيجية تقرا أبعاد التحولات الدولية والإقليمية، وجوهرها، ثم تحدد مكان الفلسطينيين في عالم بدا يتشكل، قبل أن يفوت الأوان، ويجد هذا الشعب المكافح ذاته ملقى على حافة الطريق، وان بطولاته لم تتعد كونها فعلا دون كيشوتيا، ينال الاحترام، لكنه لا يفضي إلى شيء على ارض الواقع.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف