أحداث العنف في فرنسا 2
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
في هذه الحلقة من أحداث العنف في فرنسا نتابع ماقدمناه في الحلقة السابقة لنعطي الموضوع مايستحق من ذكر العوامل التي لها علاقة بالأحداث سواء بشكل مباشر أو غير مباشر وسنبدا بالعناصر التالية :
جرس إنذار
إن من فضل الله على الناس أنه يجعلهم يستقوا الدروس والعبر من أنفسهم ومن غيرهم ليتعلموا من تجاربهم وتجارب الآخرين لتكون وقاية لهم من أحداث قد تكون أكبر مستقبلاً وأيضاً وقاية لباقي دول العالم لمن يريد أن يعتبر فهي تجربة يجب أن تأخذها الحكومات بعين الإعتبار بالدرس والتحليل وأخذ العظة من تلك التجربة المريرة.
ومن باب أولى أن تأخذ العبرة من هذا الدرس هي الحكومة الفرنسية وأن تعيد حساباتها وقرراتها وهنا يتبادر الى الذهن السؤال التالي هل فرنسا كانت أفضل الموجود بالنسبة لمثيري الشغب فيها ؟ أم أن هناك قصور يجب عليها تلافيه ؟ وهل الحكومة الفرنسية تتحمل المسؤولية عن الأحداث ؟ وإن كانت المسؤولية مشتركة بين الفاعل والمفعول به والمحرض على أعمال العنف وتصريحات بعض المسئولين.
وعبر عن ذلك رومانو برودي رئيس المفوضية الأوربية السابق في إطار مخاوفه من إنتقال موجة العنف الى الدول المجاورة حينما قال إن انتقال أعمال الشغب من فرنسا إلى الدول المجاورة ليس إلا مسألة وقت، أما في إيطاليا فقد إعتبر وزير الخارجية الإيطالي جان فرانكو فيني، أن الوضع في ضواحي باريس "أخطر" من الوضع في إيطاليا، لأن هناك نزاعا اجتماعيا متأصلا في نزاع إثني.
على العموم فإن هذا الدرس ينبغي أن يتم إستيعابه وتجارب بعض الدول تفيد بعضها الآخر وهذه الظاهرة بحاجة الى مزيد من الدراسة والبحث وأن يشارك فيها العديد من الخبراء وصناع القرار وأن يعمل الجميع على تعديل القوانين التي تحد من إنتشار وتفشي هذه الظاهرة التي بدأت تتغلغل في المجتمعات حتى لاتؤدي في النهاية الى حروب أهلية.
أحداث سبتمبر
إنه من الصواب أن نربط بين أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م التي هزت العالم وغيرت مساره وبين مايحدث في كل دول العالم بعد هذا الحدث الكبير، لأن هذا الحدث أثار نقمة أمريكا ودول العالم الغربي ضد المسلمين وتلاها الحرب على أفغانستان ثم الحرب على العراق ثم الحرب على الإرهاب ثم الحملات الإعلامية ضد العديد من الدول الإسلامية ثم الخلاف الأممي في إنتزاع قرار بالحرب على العراق ثم الخلاف الفرنسي الأمريكي بشأن هذه الحرب ثم أحداث إرهابية في أسبانيا وفي بريطانيا وفي مصر والسعودية والمغرب وتركيا وأندونيسيا والعديد من دول العالم.
ومن الحملات الغربية المستمرة ضد الإسلام والمسلمين أثارت العديد ممن يحملون بذور الإنتقام وكأن العالم دخل في دوامة عنف وعنف مضاد وإن إختلفت الوسائل المستخدمة في هذا العنف كل على طريقته وبقدراته وإمكانياته وبدأت الإعتقالات والمطاردات والإعلانات عن مطلوبين في عمليات إرهابية وتعاون العديد من الجهات الإستخبارية للقبض على المطلوبين في جميع دول العالم، وإتخذت إجراءات إحترازية ومنها تأشيرات الدخول الى الدول المختلفة ونظام البصمات الإلكترونية المرتبط بالصورة.
الفشل في التعددية
رغم أن دول أوروبا أفضل بكثير من الدول العربية في تسهيل عملية الإندماج والتعايش السلمي بين المواطنين إلا أنه لا زال هناك قصوراً واضحاً في العديد من الدول الأوروبية وتم الإعتراف بهذه الأخطاء من قبل العديد من قادة الدول الغربية وبدأوا بالفعل في دراسة وتطبيق عملية الإندماج وخصوصاً بعد صدور كتب عن صراع الحضارات وصراع الأديان ونهاية التاريخ وأقيمت المؤتمرات عن تسامح الأديان وصدرت عنها توصيات وبدأت بعض الدول في تعديل منهجها الدراسية سعياً منها في كبح جماح الإرهاب والتخفيف من نقمة الغرب عليها.
وأقيمت العديد من المؤتمرات والإجتماعات الرسمية بين الدول للحد من الهجرة وإصدار قوانين تتلائم مع الطبيعة الديموغرافية لهذه الدول وعدلت قوانين الجنسية في عدد آخر من الدول كل ذلك من أجل الحد من تهميش الجماعات المهاجرة وإنخراطها في المجتمعات التي تؤوي إليها وبدأت بعض الدول تدرك معنى المساواة الكاملة بين البشر إلا أن البعض الآخر لازالت الأمور فيها تسير ببطء شديد لأن تغيير ثقافات المجتمعات تحتاج الى وقت كبير وتجارب دامية كالتي حدثت في فرنسا وقد سبقتها ألمانيا قبل عدة أعوام عندما ظهر النازيون الجدد أما بالنسبة لفرنسا فقد حذر الرئيس الفرنسي جاك شيراك من جماعات فرنسية عنصرية قبل عدة أشهر في بلاده إلا أنه لم يتمكن من تعديل القوانين وإصدار قوانين صارمة بهذا الشأن حتى إستفحلت المشكلة ثم إنفجر الوضع هناك.
ويطمع المهاجرون في المساواة الكاملة إلا أن بعض الكتاب والمثقفين لايؤمن بذلك ومن هنا تنشأ العنصرية بين البشر كما كانت العنصرية بين السود والبيض في أمريكا حتى صدرت قوانين بعد أحداث دامية منعت جميع أشكال التمييز العنصري وإستقر الوضع هناك.
وهناك بعض الأمور يصعب التحكم فيها مثل دمج الثقافات بين المجتمعات فهناك جماعات المهاجرين تجلب معها عاداتها وتقاليدها وثقافتها أيضاً وحتى يتم الإندماج تحتاج الى وقت طويل فهذه الجماعات تؤثر وتتأثر وذلك لأن سرعة إستجابة البشر للتغيير تختلف فيما بينهم. كما نجد أن التغيير يطال حتى الشكل المعماري فهناك في فرنسا وفي بعض الأحياء وكأنك في إحدى الدول المغاربية كما أن في بريطانيا في بعض الأحياء تجد نفسك وكأنك في الهند أو الباكستان مثلاً.
وتختلف طبيعة البشر من حيث إحترامها للنظام فمن أتى من دول لاتحترم النظام فإنه بطبيعته لن يحترم النظام إلا بعد أن يعتاد عليه أو يطبق بحقه هذا النظام فعندها يدرك مدى أهمية تطبيق النظام، ومما تقدم ندرك لماذا يكون هناك فشل في التعددية.
فكرة إنشاء مرجعيات دينية
بعض أصحاب القرار في فرنسا يدعم فكرة إنشاء مرجعيات دينية من أجل إحكام السيطرة عليها من خلال قادتها وزعماءها إلا أن الجماعات الأصولية إستغلت هذا الدعم لصالحها لقدرتها على تحريك الناس وإنقلب السحر على الساحر ولهذا السبب تحذر العديد من الجماعات الإسلامية من الإنحياز وراء الحملات الإنتخابية التي تحاول إكتساب التصويت في الإنتخابات لصالحها وإن كانت الحكومة إستفادت من ذلك الوضع قليلاً إلا أن تلك الجماعات إستفادت أكثر، ولازال الشد والجذب في مدى تأثير تلك الجماعات في عملية إندماج المجتمع المسلم في فرنسا.
الحرب على الفقر
إذا كان الفقر أحد الأسباب المؤدية الى الإرهاب سواء بطريق مباشر أم غير مباشر فمن باب أولى أن نحارب الفقر أولاً، وما يحدث الآن في فرنسا وماهو مرجح حدوثه في باقي القارة الأوروبية هو بمثابة جرس إنذار لجميع حكومات العالم بأن تتوحد في الحرب على الفقر كما توحدت الجهود في الحرب على الإرهاب وإذا كان الإرهاب لن ينتهي إلا بزوال مسبباته فمن باب أولى أن نحارب أسبابه ومن أهمها الفقر.
إن ما أنفق في الحرب على الإرهاب لو أستثمر جزء بسيط منه في الإنفاق على الفقر لكان يكفي للملايين من الجائعين على الكرة الأرضية وكان يكفي لتوفير ملايين من فرص العمل للفقراء حول العالم، وإذا أطلق على مايحدث في فرنسا بثورة الفقراء فلماذا إنتظرنا حتى تحدث هذه الثورة التي إذا ما عولجت أسبابها فإنها حتماً ستودي الى آثار كارثية على فرنسا وعلى العالم أجمع، إنها كارثة لاتقل عن إعصار كاترينا الذي وحد العالم في التعاطف مع متضرري هذه الكارثة، فلماذا لم نسمع عن متعاطفين مع الحكومة الفرنسية لمعالجة هذه الأزمة.
الآثار السلبية لأعمال العنف
إن مايحدث في فرنسا كأي أعمال عنف أخرى لها آثار سلبية منها ماهو بعيد المدى ومنها ماهو قريب المدى كما ستؤدي الأحداث الى إزدياد حالة التفسخ في المجتمع إلا إذا عولجت الأسباب المؤدية لهذه الأعمال، كما ستكون هناك آثار كارثية على الإقتصاد الفرنسي، كما أنها تؤدي الى إضعاف النظام الأمني والإجتماعي والحضاري، إنه مأزق أمني وإجتماعي لايستهان به وجعلت دولة القانون على المحك فإما أن تخرج الحكومة منها بماء الوجه أو تستقيل ليخلفها حكومة قوية تحافظ على الأمن والنظام.
الآثار الإيجابية لأعمال العنف
بعد الإنتهاء من أعمال الشغب ستبدأ الحكومة على الفور في علاج الآثار وضخ أموال لإعادة إعمار ماخلفته هذه الأعمال من دمار، وسيتم تعويض المواطنين عن خسائرهم في محاولة لتصحيح الأوضاع وإندماج هؤلاء الشباب في العمل مما يدعم نمو الإقتصاد من جديد ليعالج الآثار الكارثية التي حدثت، وستكون هناك إستجابة من الجميع للتعايش السلمي بين طبقات المجتمع، وستكون تجربة جديدة لرسم سياسة إجتماعية تساعد على الإندماج والإنخراط في مجتمع واحد على الأرض الواحدة حتى لاتحدث أعمال عنف مرة أخرى.
وسوف تستفيد من هذه التجربة الدول الأوروبية المجاورة وتعمل على صياغة سياسة أمنية أوروبية موحدة لمواجهة التحديات الداخلية وأعمال الشغب، وسوف تنشأ بعد ذلك حكومة قوية تواجه التيارات المتعصبة التي تسببت في الأحداث وسوف تقدمهم للعدالة ولانقصد بذلك الشباب الثائرين فقط وإنما أيضاً بعض المسؤولين الذين يصفون هذه الشريحة من المجتمع بالحثالة وسيتم حتماً القضاء على العصابات المنظمة.
مصطفى الغريب – شيكاغو