هذه قصتي معك يا ميليس
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
انه لمن الغريب أن أجد نفسي اليوم معنياً بالسيد ميليس اياه حيث انني اكتشفت ان هناك علاقة بيني وبينه بشكل من الأشكال وقبل أن يطلب مني الحضور للمونتفردي للتحقيق معي لمجرد كتابة مقال كما فعل مع شارل أيوب فانني رغم استعدادي أوكد للسيد ميليس أنني أعيش ًبعيداً عن سوريا ولم أذهب الى بيروت الا مرة واحدة وبصفة علمية طبية بحتة. لكن هل يمكن استبعاد أي فعل يقوم به هذا الحاقد الأحمق؟
بكل حال هذه مقالتي وسوف اعبرعن رأيي بكامل حريتي وليكن ما يكون فليس هناك لاحسابات بنكية ولا من يحزنون.
قصتي مع ميليس تعود الى العام الذي نلت فيه شهادة الثانوية العامة تحديداً سنة 1986 وقد كانت سنة سريعة مليئة بالدراسة والترقب ليس بهدف تجميع افضل مجموع فقط ممكن بل بأفضل استيعاب لأنني كنت قد عقدت العزم على الالتحاق بنوع من الدراسة الجديدة كانت قد بدأت قبل سنتين أو ثلاث في سوريا في هيئة الطاقة النووية السورية التي كانت تصطفي عدد قليل من الطلاب بناءً على مجاميعهم العالية وعلى مقابلات صعبة مع مختصين غاية في الخبرة والدقة كما اكتشفت لاحقاً..
مّر العام سريعاً وجاءت النتائج وحصلت على مجموع 240\233 بدون الديانة وكان ترتيبي الثاني في محافظتي بعد احتساب الديانة والاول بدونها وبالطبع كنت من العشرة الاوائل على مستوى سوريا. كانت حمّى الطب والهندسات مستعرة في ذلك لكنني أبقيت نفسي بعيداً عنها فقد كان هدفي واضحا وبسيطا انه هيئة الطاقة النووية في دمشق بالفعل اعلنت الهيئة عن حاجتها لطلاب لايفادهم الى المانيا الغربية للدراسة و ذلك بناءً على العلامات والمقابلة.
زحف يوم المقابلة ببطء وليس أصعب من مقابلة لا يعرف المرء عما ستدور وعن ماذا سُيسأل كل ما رشح عن المقابلة أنها من الويلات وشبه المستحيلات لكنني كنت مصمما لأنني كنت مولعاً بالفيزياء والرياضيات والكيمياء لدرجة الشغف و قد كان هناك عدد كبير من الطلاب الذين حددت لهم الهيئة حوالي اسبوع كامل لإنهاء مقابلاتهم وحقيقة الامر أن الاحساس بالجدية والمسؤولية ينتاب الشخص بقوة بمجرد الدخول الى غرفة المقابلة التي كانت طاولة اجتماعات ضخمة يجلس عليها رجال ستينيون وخمسينيون ينظرون من خلف عدسات ضخمة لم أعد اذكر عددهم بدقة وكانوا يقدمون أنفسهم بسرعة شديدة الاستاذ فلان عميد كلية الرياضيات فلان مدرس الفيزياء في جامعة دمشق فلان عميد كلية العلوم والكيمياء و اخرهم كان ثعلب ينظر كأنه يريد ان يرسمني وهو على مافهمت يعمل في مجال علم النفس السلوكي المهم انه شخص يهتم بالناحية النفسية وليس العلمية.
احسست ان هؤلاء يستطيعون التهامي بلحظة واحدة فقد كان الجو المحيط بهم حرفياً اكاديمياً بحتاً وكنت أنا الفتى ذو 17 عاماً وحيداً وعلي لن أواجههم بقوة العقل. صدمني أول حديث فقد كان بسيطاً وواضحاً: نحن لا نسأل في منهاج البكالوريا فأنت حاصل على علامات تامة في كل المواد العلمية سوف نسأل عن قضايا اخرى. فكان اول سؤال
( بتحب البحر؟) سؤال بسيط نعم احب البحر
(شفت سفن بالبحر) نعم شاهدت الكثير منها
( بتسمع عن المد والجزر) نعم اسمع عنه...
هذا الاسئلة البسيطة ظاهرياً انتهت الى اسئلة تتعلق بحساب كمية الطاقة الكهربائية السنوية التي يمكن ان تولدها المياه البحرية اذا كان معدل ارتفاع المد اليومي يتراوح بين 1 أو 2 متر بناءً على قرب وبعد القمر عن الارض.
وكان الاساتذة متل ابطال الافلام واحد يسأل والأخريتابع بتواتر سريع وكان أفضل سؤال سمعته بعد ذلك سؤالا مفاجئاً وبنفس النبرة السريعة اياها ( شو بتشرب) فقلت ( أي شيء ماعدا مية البحر).
انتهت المقابلة بعد بصراع مرير الا انني كنت واثقاً من أنني حققت بعض الانتصارات لاسيما ان الاساتذة المعنيون كانوا منشرحين ومبتسمين بعد انقضاء اطول 50 دقيقة في حياتي حتى ذلك الوقت.
بعد حوالي اسبوعين تم اعلامي أنني واحد من ثمانية طلاب تم قبولهم وقد كان هذا هو اليوم الذي احبه واليوم الذي انتظره منذ عدة سنوات طرت فرحاً الى دمشق وهناك في الهيئة تقابلت مع زملائي الجدد وكنا موضع احترام وترحيب كبيرين وكان كل شيئ حولنا يوحي باهميتنا والثقة الملقاة على عاتقنا وطلبوا منا ان نبدأ بدراسة الالمانية والانكليزية والتحضير سريعاً للايفاد في المانيا حتى مدير الهيئة شخصياً رحب بنا مبتسماً رغم مايحيط به من هالة من الوقار والاحترام و قلة الحديث.
في أحد الايام جاء المسؤول عنا مكفهراً و طلب منا الاجتماع في قاعة على شكل مدرج صغير ولسان حاله يقول هناك خطب ما فالمدير يريد مخاطبتنا بأمر هام وقد كان الاجتماع قصيراً تسود فيه روح من الأبوية التشاؤمية فقد كان كلام المدير مختصراً وحاسماً.. ابنائي نعتز بكم كثيراً لكن هناك مشكلة تواجهنا بالنسبة لكم حيث أن جمهورية المانيا الاتحادية قد علقت العلاقات الدبلوماسية والعلمية مع سوريا بسبب انفجار ما هناك وسوريا متهمة ووو... حقيقة الامر لم يتمكن أحد من 8 طلاب استيعاب الحديث بالكامل فقد كان كالصاعقة على رؤوس الجميع واضطررنا لتجميع قطع حديث المدير لاحقاً لفهم ماقاله بالضبط،لقد كان هذا الحديث مثل الحديث عن علم الغيب لشبان في عمر 17 - 18 سنة وتقبلنا الحقيقة باندهاش كبير باختصار لايوجد امكانية لايفادنا الى ألمانيا.
لقد كان انكسار حلمنا مدوياً وتحطم اندفاعنا قاسياً بادياً على وجوهنا والجرح الذي نزفنا منه كان عميقاً غزيراً لا يزال ينزف حتى اليوم و لم نعرف علاجاً الا الصمت القاتل كصمت القبور كنا ثمانية تفرقنا كل في اتجاه بعد ان اجتمعنا على حلم واحد وعزيمة واحدة وهدف واحد صحيح ان الدولة اتاحت لنا فرصاً مشابهة لكن لعله الانكسار الهائل هو الذي غيّر طريق أغلبنا وأذكر جيداً عندما قررت كسيراً كئيباً ان أعود لكلية الطب رأيت احد زملائي السابقين فيالهيئة قد التحق بالطب قبلي وهو بنفس فئتي ولمدة 6 سنوات دراسة قضيناها سوية في كلية الطب تناقشا في كل شيء الا عن انكسار ذاتنا في ذلك اليوم كان الصمت بليغاً وكان النسيان دواءً وكان الضغط على الجرح افضل علاج.
يومها كانت الأخبار السياسية بالنسبة لي مجرد شيء أخر يهتم به الكبار و لاأدري كيف وجدت نفسي اعاني كل هذا العناء لقاء حدث لا يعنيني لا من قريب ولا من بعيد او هكذا ظننت يومها كنت اريد ان اكون ناقما على شيء ما وناقما على المجهول وناقماً على القدر ومرت السنين وضاع الحلم وبقي الانكسار ولا أجد عزاءً لي اليوم الا في نحاحاتي التي اؤوديها في عملي تجاه مرضاي.
اليوم وبعد مضي عشرين عاماً يستقيظ هذا اللهيب في داخلي من جديد بعد أن أيقنت أن هناك اعداءٌ لبلدي ولكل فرد فيه يحاربوننا بكل الطرق وبكل الاسلحة يحاربوننا اخلاقياً ولااخلاقيا ليلاً ونهاراً بسبب وبدون سبب. الحرب هي ذاتها بنفس الاساليب الدنيئة منذ حصان طروادة الى المجتمع الدولي،ادوات الحرب تتكرر بصور جديدة تحركها ايادي خفية بعيدة مثل هذا الميليس الذي اعتقد منذ عشرين عاما فقط ليرضي دولة عظمى ما ان سوريا هي التي فجرت مقهى لابيل ولولا تغير مزاج أمريكا لإتهام ليبيا لبقينا الى اليوم متهمين رغم اعتراف الموساد لاحقاً بكل صفاقة ووقاحة انها هي التي قامت بهذا العمل الاجرامي.
أخطأ ميليس منذ 20 عاماً لغاية في نفس يعقوب وأنا واحدٌ ممن دفع الثمن. واليوم يطلّ علينا من جديد كشبح الموت يريد منا أن نسقط ونتهاوى تحت تأثير أكاذيب وافتراءات وتسريبات صحافية ساذجة ليته كان وحيداً لكنه يأتينا و الابواق من حوله تدق بايقاع متواتر كأنها طبول حرب من العصور الوسطى وليس أكثر من الغربان السوداء قلباً وقالباً من حوله الكل يقف متفرجاً يريدوننا أن نسقط وأن ننزل الى أسفل السلم لنكون قربهم و لنلعب معهم فلم يعد أحد هناك الا سوريا والكل يرحب بفكرة سقوطنا بشكل من الاشكال فلماذا نحن السوريين الوحيدين القادرين على العيش بشرف وكرامة كما نستحق بينما يتمسح الاخرون بأرجل الدول العظمى المانحة التي تسرقك كل الليل وفي رابعة النهار تتصدق عليك بلقمة تردها اليك من تعبك ومالك. لا يبحث ميليس عن اي حقيقة هنا أنه يبحث عن الطريقة التي ستجعل هذا البلد يسقط مثل بقية جيراننا الذين ارتضوا الذل والمهانة في حلّهم وترحالهم.
أخطأت يا ميليس في السابق وانت تكرر الخطأ هذا اليوم سوريا ليست لبنان وليست العراق.صحيح أنك ضيعت حلمي ذات يوم إلا انني وقفت مجدداً على قدمي وأحمل الان اعلى شهادة علمية في مجالي، خساترتي السابقة حولتني الى بطل مكافح وقد ساعدني بلدي وابناء شعبي فقد انهيت دراستي في جامعة مدينتي بتفوق كبير وأمّن لي بلدي افضل الطرق الممكنة كل ذلك لقاء دولارين سنوياً رسم التسجيل في الجامعة وتابعت مشواري عزيزاً رافع الرأس وأنا أعمل اليوم مع أطباء من مختلف جنسيات العالم وأحرص كل يوم على اظهار تفوقي واعتزازي ببلدي وعروبتي.أعلم اني لست الوحيد فمثلي الكثير من السوريين الذين يعملون ويجتهدون و يعتزون ببلدهم كلٌ على طريقته.
المعارك تخلق الابطال في سوريا هذه هي الحقيقة يا ميليس فهنيئاً لك بعد ان حولت بمعركتك 18 مليون سوري الى أبطال حقيقين وليس خطاب الرئيس الاسد الأخير الا شهادة ميلاد لبطل قومي من الطراز الرفيع.
هذه قصتي معك يا ميليس ارويها لكل فرد في سوريا ولكل من يعتقد انه بعيد عن هذه الحرب وهذا التجييش ضد سوريا ارويها ليعلم الجميع أننا قد نعاني في أعزّ الأشياء الى قلوبنا اذا ارتضينا الوقوف صامتين ازاء هذا الهجوم البربري الذي يقرع بابنا في كل يوم وكل مرة بحجة جديدة وثياب جديدة ارويها لأذكر أبناء بلدي السوريين اننا نتعرض لهذا الهجوم فرداً فرداً فكما اعتقدت ذات يوم انني غير معني بالسياسة وهذه الهموم اكتشفت ان اعدء بلدي يحاصرونني في حلمي وفي ذاتي و عاجلا ام اجلا سنكتشف اننا كلنا معنيون فهناك من يريدالنيل من سوريا ومن كل السوريين ولا تصدقوا المنافقين الذين يدعّون زوراً وبهتاناً انهم يريدون الخير لشعب سوريا.
ضيعت حلمي ذات يوم يا ميليس ولا اتمنى لأي حلم سوري أو عربي أخر أن ينكسر بعد الأن فلنقف جميعاً ولندافع عن أحلامنا وعن طموحاتنا فنحن بلد خيّر معطاء يغوص في اعماق التاريخ ولدينا طاقاتنا البشرية الهائلة وايماننا وتصممينا وقوة ارادتنا وحب الحياة الكريمة الامنة ونحن نستحق العيش بالمستوى الذي يليق بأبناء كل هذه الارض.
د- تميم صقر
tamemsaker@hotmail.com