أصداء

سامحونا على خيانتنا لكم

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

كم تمنيت خلال متابعتي لبرنامج أدب السجون لو كنت أنا الذبابة التي كان يرسمها في مخيلته الممثل القدير عبد الحكيم قطيفان لأحمل له علبة البقلاوة التي كانت أمامي بمحض الصدفة، وكم تمنيت أيضا لو أسلخ جلدي لأقدمه للشاعر عدنان مقداد والكاتبة حسيبة عبد الرحمن ليكتبا عليه عوضا عن الورق الذي كان يمنع عنهما، ويدونا بأقلامهما سيرتهما الذاتية داخل المعتقلات السورية لتكون أحد مخطوطات التاريخ السوري الدموي.
في بداية البرنامج الذي عرض قبل أسبوعين على قناة الجزيرة الفضائية ظننت أنني أتابع أحد مسلسلات الدراما السورية الإبداعية بطله عبد الحكيم القطيفان، الذي أمتعنا بأدواره المميزة من الأرواح المهاجرة الى الوصية الى دوره كضيف شرف في مسلسل التغريبة الفلسطينية، فقد أحسن مخرج المسلسل في إختياره لهذه الشخصية الفذة وقام بتجسيد شخصية أحد المناضلين الفلسطنيين ضد الإستعمار الانكليزي ونفذ فيه حكم الاعدام، وغيرها من الاعمال، هذه الشخصية بهيبتها التي كانت ولا تزال تفرض وجودها على الشاشة الصغيرة بقوة وتؤثر بمحيط العمل الفني بمجمله، لكن القطيفان في برنامج أدب السجون فاق أي إبداع فني.
ذاك اليوم كنت في زيارة اصدقائي في البلد الاوروبي الذي أعيش فيه حيث نفتقد الى الحلويات الشرقية، لكن لا أدري هل من محاسن الصدف أم من تعاستها تقدم لي البقلاوة لضيافتي على اعتبار أنها نادرة الوجود في تلك البقعة النائية من الارض، كنت ألتهم قطع البقلاوة وأستمتع بحلاوتها، لكن حلاوة البقلاوة لم تخفف عني وطأة لحظات الحزن التي عشتها مع شهادة الأبطال الثلاث وتجربتهم المريرة في السجون والمعتقلات السورية، الى أن تحدث الممثل العملاق عبد الحكيم القطيفان عن ولعه وحبه للحلويات وكيف كان يرسم بمخيلته أنه ذبابة يخرج من بين قضبان السجن ويطير ليحط على أول صدر نمورة مغمور بالقطر ( العسل ) وسرد حكايته مع قطع النمورة الثلاث كما يسمونها باللغة الشامية والتي تعرف
( بالبسبوسة )، عندها لم أتمالك نفسي وبدأت أذرف الدموع وشعرت بأنني أقل وضاعة من الذبابة أمام هؤلاء العمالقة الثلاث وغيرهم ممن دفعوا سنوات طويلة من شبابهم في سيبل حريتي وحرية الشعب السوري.
هي ليست المرة الأولى التي تنتابني حالة البكاء تلك فيها فقد مررت بنفس الحالة لدى قراءتي مقالة بقلم الصحفي السوري نزار نيوف عن تجربته في سجن المزة، وكيف كان هو السجين الأخير الذي غادره وأقفل أبوابه بالمفتاح بنفسه، أعتقدت يومها أن أسلوب نزار الرائع في الكتابة كان له الأثر البليغ في نفسي، وأدخلني في تلك الحالة من الحزن والغضب واليأس التي عشتها مع المقالة، وفور إنتهائي من القراءة التقطت سماعة الهاتف واتصلت بنزار معاتبة إياه " وقلت له الله يسامحك يا نزار لقد ابكتني مقالتك " والمرة الثانية التي بكيت فيها لدى سماعي شهادة القطيفان ومقداد وحسيبة أعتقدت أيضا أنهم أبدعوا في السرد أمام الشاشة " ولن اقول التمثيل كي لا يفسر كلامي بغير محله " وبالأمس وجدت نفسي أمام حالة أخرى من الحزن والغضب وكأن بركان في داخلي يتفجر وأنا أقرأ على موقع العربية مقابلة مع الدكتور عبد العزيز الخير الذي حالفه الحظ وأفرج عنه حديثا، ومع أنه لم يكتب بقلمه كي أتأثر بأسلوبه، ولم يعرض تجربته عبر شاشة التلفزيون حتى نقول أنه أبدع في التمثيل، حتى أنه لم يشتك من الظلم، ولا من وسائل التعذيب، ولا من العزلة القاتلة وراء القضبان، إنما تحدث عن واجبه الإنساني كطبيب الذي قام به وعالج مئات الآف من السجناء خلال فترة محكوميته، حيث شملته من بين من شملتهم صدقة وإحسان النظام البعثي بالعفو كمحاولة بائسة لكسب ما يمكن كسبه من ولاء الشعب السوري.
لقد علمني عبد الحكيم القطيفان درسا في الرسم بالمخيلة لا يمكن أن أنساه، كيف يمكن أن يحول الانسان حياته البائسة التعيسة الى حياة سعيدة، فرسمت بمخيلتي اليوم أنني على بساط الريح يحملني الى أرض الوطن سوريا توقفت عند أبواب السجون حاملة معي علب الحلويات أوزعها على السجناء، ثم وقفت وسط ساحة الأمويين وصرخت بأعلى صوتي لا للسجون.. لا للمعتقلات... لا لقتل الأفكار وتدمير العقول... بعدها شاركت بمسيرة شعبية حاشدة، إنطلقت من المسجد الأموي وعمت شوارع الشام من باب توما الى باب شرقي الى ركن الدين والمهاجرين مرورا بقصر الروضة، ثم توجهت الحشود الى السجون وحطمت الأبواب واطلقنا سراح جميع المعتقلين..!

كم أحلم بهذا اليوم أن يصبح حقيقة وأشهد المسيرات المناوئة لا المؤيد للنظام المستبد، وأتساءل كيف أمام هذه الجرائم التي ترتكب بحق الوطن والمواطن ونشهد مسيرات التأييد والدعم للنظام... ؟ كيف ترتاح ضمائر هؤلاء المشاركين في تلك المسيرات وهم يهتفون بحياة الرئيس ويدعون الله لإطالة أمد حكمه وحكم أجهزته الأمنية والسجون مكتظة بآلاف المناضيلن لاجل حريتهم... ؟

فليسامحنا كل من ناضل لاجل حريتنا وكرامتنا، سامحونا على خيانتنا لكم، فصمتنا خيانة، وفي تخاذلنا خيانة، وبعمالتنا لأجهزة الأمن خيانة، ودعمنا للنظام خيانة، فالخيانة لها اشكالها، وخيانة المواطن لها نفس وقع خيانة الوطن..! سامحونا فليس بيدنا حلية سوى الأحلام، وأن نهتف بحياة الرئيس، ونصفق لأجهزة الأمن والمخابرات.. ونشارك في مسيرات التأييد... ونحمل الأعلام والتماثيل والأصنام.. باللات والعزة وهبل سامحونا، لأننا أصبحنا من عبدة الأوثان.

نورا دندشي

مواطنة سورية

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف