أصداء

الحركات المناهضة للعولمة: مالها وماعليها

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

1 - توطئة
العولمة مرحلة جديدة في التطور الحضاري للأنسان وعملية موضوعية وحتمية تمتاز بشموليتها وتأثيراتها العميقة والقوية في شتى مجالات النشاط الأنساني وهي عملية تحولات جارفة لايمكن الوقوف في وجهها أو إيقافها لأن التطور سنة الحياة، بل ينبغي التكيف معها على نحو أو أخر بما يتفق مع الظروف الأقتصادية والسياسية والاجتماعية في هذا البلد أو ذاك.
ويخطأ من يظن بأن العولمة ظاهرة برزت في العقد الماضي بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتفكك المنظومة الاشتراكية، ذلك لأن للعولمة جذورا" تضرب في أعماق التأريخ. و ثمة من يقول بأن أول عولمة تأريخية معرفية ممثلة بتعميم الحروف الهجائية لتحقيق تواصل إنساني يخدم المصالح التجارية، كانت هي العولمة الفينيقية،التي سعت لتحقيق التواصل بين المراكز الحضارية في العالم القديم وبخاصة بين القارات الثلاث الأفريقية والأاسيوية والأوروبية وتبعها في ذلك الحضارة الرومانية من خلال جهودها الحربية الهادفة الى خدمة النظام العبودي الاقطاعي، فحققت أول عولمة إنتصالية عن طريق نشر الطرق البرية وإنشاء المدن العسكرية لخدمة الاهداف التوسعية.
ويعتقد البعض بأن بدايات العولمة ترجع الى عصر الاكتشافات الجغرافية العظمى في القرون الوسطى، في حين يرى أخرون أنها – أي العولمة – بدأت منذ النهضة الاوروبية وما رافقها من ثورة صناعية وتطور في وسائط النقل والمواصلات سهلت عملية الاتصال والتأثير المتبادل والتفاعل بين المجتمعات المختلفة اما اليوم فاننا أمام مرحلة جديدة ومتقدمة من مراحل العولمة والتى تتطور بوتائر متسارعة بموازاة وتائر تطور العلم والتكنولوجيا وبخاصة في مجال تكنولوجيا المعلومات الكونية والاتصالات الفورية وهذه المرحلة كأي مرحلة سابقة من مراحل التطور الحضاري لها جوانبها الايجابية والسلبية. ولعل في مقدمة الجوانب الايجابية للعولمة تحرر الشعوب المضطهدة وإشاعة المثل العليا للديمقراطية وحقوق الانسان. والعولمة بهذا المعنى تنطوي على عملية تحرر من سيطرة النظم الشمولية والقمعية المنغلقة (التى تحاول عزل شعوبها عن بقية العالم )، وازالة الحواجز السياسية والجغرافية امام انطلاق الثقافات المحلية الى أفق الثقافة العالمية، والتخلى عن التعصب الأيديولوجى والولاء لثقافة معينة ضيقة والانفتاح على مختلف ألأفكار دون أي تعصب او تطرف، ونبذ كل اشكال وصور اللاعقلانية الناتجة عن التحيز المسبق لأمة أو دين أو ايديولوجيا والتحول الى عقلانية العلم وحياد التكنولوجيا.
بيد أن أصحاب النظرة المتشائمة لايرون في العولمة الا جوانبها السلبية الحقيقية والمزعومة، فثمة أنظمة منغلقة كثيرة في العالم الثالث تخشى من تيار العولمة الجارف وتحاول إحكام إغلاق حدودها وأجواءها في وجه رياح التغيير الجارفة التي تجتاح العالم اليوم ولكننا الآن لسنا بصدد الحديث عن تلك الأنظمة، بل عن حركات جماهيرية واسعة في أنحاء شتى من العالم وبخاصة في الدول الغربية تعارض أيضا"العولمة أو بتعبير أدق الأفرازات السلبية للعولمة بطرقها الخاصة.
ان طغيان المادية وهيمنة العناصر السلبية للنظام الرأسمالي تولد عند الشباب في أوروبا والأميركتين شعورا" عاما" بالأفتقار الى هدف الحياة.
صحيح أن الدول التي ينتمي اليها هؤلاء الشبان دول متقدمة حققت انجازات علمية – تكنولوجية باهرة وتأمين الرفاهية المادية لشعوبها، الا انها في الوقت ذاته سلبت من الانسان راحة النفس والبال وجعلته نهبا" للتوتر النفسي والقلق الدائم. وفي ظل هذا الشعور ليس من المستغرب أن نرى مظاهر التمرد والأحتجاج بشتى صورها ضد الاوضاع القائمة والأيدولوجيا المهيمنة في تلك المجتمعات ومن أجل العدالة والمباديء السامية.


2- نشأة الحركات المناهضة للعولمة وأهدافها
ظهرت أولى الحركات المناهضة للعولمة وحركات اللاعولمة في المكسيك عام 1994 وامتدت بعد ذلك بحوالي خمس سنوات الى اوروبا حين قام المزارع الفرنسي جوزي بوفي باقتحام مطعم (( مكدونالدز )) الشهير بجراره الزراعي تعبيرا" عن سخطه واحتجاجه على القيود التى وضعتها الولايات المتحدة على استيراد الجبن الفرنسي المعروف بأسم (( روكفور )).
ومنذ ذلك الحين إتسع نطاق مثل هذه الأحتجاجات ضد أهداف أخرى أكثر أهمية وأقوى نفوذا". واتخذت أولى المجموعات المعادية للعولمة-- وعلى نحو مقصود وصارخ – مواقف مناهضة للمؤسسات المالية والاقتصادية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية والتي تمثل أهم رموز العولمة والنظام الدولي الجديد.
ويرى أنصار هذه الحركات أن المؤسسات والمنظمات المالية والاقتصادية الدولية ليست ديمقراطية بما فيه الكفاية ولاتعبر عن مصالح معظم شعوب العالم ( الدول النامية وبلدان أوروبا الشرقية ) بل عن مصالح الشركات المتعددة الجنسيات وان توصيات هذه المنظمات تتناقض ومصالح كثير من الدول النامية ودول أوروبا الشرقية وأدت أحيانا" الى تردي الاوضاع الاقتصادية وانتشار البطالة والتضخم المالي وتدني مستويات المعيشة كما حدث في الارجنتين وروسيا. كما ان اعمال وانشطة هذه الشركات تلحق أفدح الاضرار ببينة الحياة وتتسبب في استفحا ل مشكلة الفقر في عدد من دول الجنوب.
إن الحركات المناهضة للعولمة لاتمثل تنظيمات تقليدية متجانسة فكريا وعقائديا" ولا تخضع لتوجيه مركز قيادي موحد، بل تتكون من حركات ومنظمات طلابية وشبابية ونقابية ومهنية شتى وأنصار حقوق الانسان وحماية البيئة وتضم في صفوفها عناصر شديدة التباين في توجهاتها السياسية وشعاراتها من أقصى اليمين الى أقصى اليسار ولكن ثمة عدد لا بأس به من العناصر المعتدلة في هذه الحركات تتألف من مثقفين وبضمنهم أساتذة وطلبة جامعات فعلى سبيل المثال ثمة منظمة تطلق على نفسها اسم (( العالم ليس سلعة )) وهي تتكون أساسا" من أساتذة وطلبة الجامعات الامريكية وبعض المهنيين والنقابيين. وبسبب هذا التكوين الذي تغلب عليه العناصر المثقفة، تبدو هذه المنظمة معتدلة ورصينة فأعضاءها لايحطمون واجهات مكاتب الشركات ولا يرفعون الشعارات الصارخة ولا يشتبكون مع شرطة مكافحة الشغب.
ولكن بالرغم من الاختلافات السياسية والايديولوجية الموجودة بين الحركات المناهضة للعولمة الا أن ثمة هدف عام وشامل يجمعها معا" وهو معارضة النمط الحالي للعولمة، مما يسهل التفاهم والتنسيق فيما بينها. أن الملايين من البشر المنضوين تحت لواء النضال من أجل عالم أفضل وأكثر عدالة وإنسانية ينتمون الى جنسيات ومهن وفئات عمرية مختلفة وهم يناضلون معا" يدا" بيد بصرف النظر عن انتماءاتهم العرقية والدينية واتجاهاتهم الفكرية والسياسية.
ولعل أهم ما تتصف به الحركات المناهضة للعولمة أن الواحدة منها لا تحاول تعزيز مواقعها على حساب الاخرى أو فرض أرائها عليها فهذه الحركات والمنظمات المختلفة تعمل وتناضل سوية دون أن يكون لها مركز قيادي موحد، بل أن كل واحدة منها تحتفظ بأستقلاليتها وفي هذا يكمن ضعفها وقوتها في أن واحد، ذلك لانه لايمكن القضاء عليها بالاجهاز على مركز قيادتها لعدم وجود مثل هذا المركز أصلا".
ويبدو أن صفة (( مناهضي العولمة )) قد الصقت بهؤلاء الناس الذين يطالبون بتغيير النظام العالمي الجديد من اجل علاقات أقتصادية أكثر عدالة بين بلدان الشمال والجنوب وهم في الحقيقة ليسوا مناهضين أو خصوم للعولمة ( كما قد يتبادر الى الذهن لأول وهلة)، بل مناضلين من أجل " عولمة " أخرى وعالم بديل. فهم لا يعترضون عموما على التكامل والتبادل الاقتصادي بين بلدان العالم، ولا يريدون وضع حواجز أو عوائق بين هذه البلدان، بل أن جوهر موقفهم يتمثل في المطالبة بتنظيم الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية على نحو يحقق المصالح المشروعة لشعوب العالم بأسره وتغيير " قواعد اللعب " في العلاقات الدولية واستخدام معايير اقتصادية واجتماعية وإنسانية موحدة للجميع دون استثناء. واذا تحققت هذه المطالب أدرك أصحاب رؤوس الآموال إنهم سوف يجابهون بنفس القيود والأجراءات في أي بلد من بلدان العالم فيما يتعلق بالقوى العاملة والأجور والضمان الاجتماعي وحماية البيئة.
ولايوجد بين " مناهضي العولمة" سوى عدد ضئيل من الناشطين الذين يطالبون بحماية المنتجات الوطنية ويدعون الى " السوق الوطنية المغلقة " وغلق الحدود أمام الشركات العابرة للقارات.
أما الآخرون فيطلقون على انفسهم أسماءا" مختلفة " الحركة الجديدة المعادية للرأسمالية " و " حركة عولمة الديمقراطية " و "الحركة المعادية للشركات العابرة " وغيرها كثير.
و من أبرز شعارات هذه الحركات "أغلقوا الوزارات، افتحوا الحدود " بمعنى أخر تقليص دور البيروقراطيةوتوحيد صفوف الناس العاديين في مختلف البلدان. وبما أن هذه الحركات غير متجانسة سياسيا" وفكريا"، لذا،فأنها تفتقر الى برنامج عمل محدد، فالبعض منها يطالب بالغاء المؤسسات المالية والاقتصادية والسياسية الدولية القائمة الآن مثل صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية،ومنظمة ألأمم المتحدة، بصفتها منظمة تسودها البيروقراطية وتخضع لأرادة القطب الواحد او القوة ألأعظم المهيمنة الأن على النظام العالمى الجديد وكذلك الأحلاف العسكرية مثل حلف الناتو، في حين يعارض البعض الاخر حل منظمة الأمم المتحدة. ولكن الكل مجمع على إنهاء أو تقليص دور الرأسمال الكبير ومراعاة النمو الأقتصادي المتوازن لدول العالم وتقليل التفاوت في مستويات المعيشة بين الشمال والجنوب.
وثمة مطلب آخر عام ومشترك بين هذه الحركات وهو إلغاء الديون المترتبة على عدد من دول الجنوب وأوروبا الشرقية والمقدمة من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي،لأن قيام تلك الدول بتنفيذ شروط هاتين المؤسستين الماليتين قد أدى في كثير من الحالات الى تفاقم مشاكلها الداخلية او نشؤ أزمات إقتصادية خانقة.

3- الأوضاع الراهنة للحركات المناهضة للعولمة
ثمة اعتقاد خاطيء وشائع على نطاق واسع مؤداه إن الحركات المناهضة للعولمة موجودة بالدرجة الاولى في البلدان الغربية أو المتطورة فقط. وربما يرجع السبب في ذلك إلى أن المساهمين أو الناشطين في هذه الحركات من تلك البلدان يتمتعون بالأمكانات المادية التي تتيح لهم السفر( من شتى انحاء أوربا الغربية والولايات المتحدةالأمريكية) الى أي مكان تعقد فيه المؤتمرات والندوات والأجتماعات المكرسة لقضايا الساعة على الساحة الدولية وتنظيم تظاهرات ومسيرات احتجاجية صاخبة ضد السياسات التي تتبعها الدول الصناعية المتقدمة
وتقوم وسائل الأعلام العالمية بتغطية حية وواسعة النطاق لهذه الفعاليات وبشكل مكثف أولا" بأول.
بيد أن القاعدة الجماهيرية العريضة لهذه الجبهة موجودة أساسا" في دول العالم الثالث. فعلى سبيل المثال نجد أن حركة ما يسمى(( الطريق الفلاحي )) تضم في صفوفها حوالي ( 50 ) مليون ناشط من دول العالم الثالث وهي التي قادت أنجح الفعاليات المناهضة للعولمة. في حين أن اهم منظمة اوروبية وأكثرها شعبية وهي ( ATTAC) ( اتاك ) وهو اختصار لعبارة فعاليات المواطنين من أجل دعم مشروع ضريبة توبين )) والمقصود هنا الضريبة التي اقترحها عالم الاقتصاد الامريكي توبين – الحائز على جائزة نوبل – البالغة 0.01 % التي تفرض على المعاملات المالية غير القانونية. وحسب تقديرات توبين فأن المبالغ المستحصلة عن هذا الطريق في حالة تنفيذ هذا المقترح كافية لتوفير الغذاء للجياع وحل مشاكل الحوامل الصحية ونفقات التريبة والتعليم في جميع انحاء العالم.


4-أساليب ووسائل النضال
عتقد المناهضون لنمط العولمة الحا لي، إن الفعاليات الجماهيرية(التظاهرات والمسيرات الحاشدة والمطالبات المستمرة والملحة ) يمكنها إجبارالخصوم على التراجع. ويلجأ المناهضون للعولمة الى تنظيم نظاهرات احتجاجية صاخبة( بمشاركة مئات الألوف من الشبيبة من شتى انحاء العالم)، فى اى مكان يعقد فيه اجتماع القمة لدول الأتحاد الأوروبى او الدول الصناعية المتقدمة.. ويحدث احيانا ان تخرج مطاهرات احتجاجية كبرى فى عدة عواصم فى ان واحد.وقبل حوالى ثلاث سنوات، خرجت ثلاث تظاهرات كبرى في ثلاثة مواقع متفرقة من العالم : الأولى في نيويورك حيث عقدت الندوة الأقتصادية العالمية. والثانية في ميونيخ التي شهدت انعقاد الكونفرانس الدولي الثامن حول مشاكل السياسات الأمنية والثالثة في بورتو – الفيري ( البرازيل ) حيث عقد المناهضون للعولمة إجتماعا" صاخبا" ضم حوالي ( 60 ) ألف منهم تحت شعار"الندوة الأجتماعية الدولية لمناهضي العولمة " ومما يثير الدهشة حقا"، المستوى التنظيمي الرفيع لمناهضي العولمة : عشرات الالأف من الشباب من شتى بقاع العالم يتحركون نحو نقطة محددة وكأن عصا" سحرية تحركهم وتوجههم، حيث أن تظاهراتهم تتسم بحسن التنسيق والتنظيم وربما يكمن السر في ذلك،أن مناهضي العولمة يستخدمون – وياللمفارقة – أحد أهم انجازات العولمة ونعني بذلك الشبكة الدولية للمعلومات ( الأنترنيت ) في إتصالاتهم.
وجدير بالذكر أن مناهضي العولمة يلجئون الى استخدام الأنترنيت ليس لغرض الأتصال، بل أن ثمة عددلايحصى من خبراء الأنترنيت المتعاطفين معهم الذين يقومون بأختراق مواقع الشبكات العائدة للحكومات والشركات والبنوك وقوى الآمن وينشرون من خلالها شعاراتهم المفضلة ومما يستلفت النظر إن شرطة مكافحة الشغب تواجه أحيانا" صعوبات جمة في السيطرة على التظاهرات الكبرى التى تنظمها المنظمات المناهضة للعولمة والتى ترافقها حوادث شغب, بيد أن مثل هذه الحالات قليلة حيث تتسم معظم هذه التظاهرات بطابع سلمي.
وعلى الرغم من أن هذه المسيرات والتظاهرات تستقطب اهتمام الاعلام العالمي، إلا أنها من الناحية العلمية لم تحقق أي نجاح يذكر الا في تلك الحالات التي فاجئوا بها خصومهم في سياتل على سبيل المثال، حيث كان من المقرر توقيع إتفاقية (( الأستثمار المتعدد الجوانب ))حيث لم يكن أحد يتوقع أن ينزل الى شوارع المدينة هذا العدد الهائل من البشر مما أدى إلى اغلاق الطرق وإيقاف حركة المرور، مما أرغم المشاركين في المؤتمر على مناقشة جوهر الاتفاقية المذكورة وفي نهاية المطاف تم رفض الاتفاقية وعدم توقيعها، فقد ظهرت اعتراضات كثيرة وملاحظات عدد من الدول المشاركة في المؤتمر.و تبين أن الأتفاقية التي كانت معدة للتوقيع تعطي الحرية للشركات المتعددة الجنسيات على تجاوز قوانين الدول الموقعة عليها، كما استطاعت حركة( الفلاحين المعدمين ) من الأستيلاء على الاراضي غير المزروعة وبضمنها العزبة المملوكة لرئيس البرازيل فيرناندو كاردوزو. إن هذه الحركات يمكن أن تحقق نصرا" جزئيا" أحيانا" ولكن أمال أعداء العولمة في تحقيق النصر على الشركات المتعددة الجنسيات مجرد وهم ساذج لن يكتب له النجاح.


5-مصادر تمويل الحركات المناهضة للعولمة
لعل خير مثال على كيفية تمويل هذه الحركات هو الطريقة التي تم بها جمع الاموال اللازمة للفعاليات الجماهيرية الحاشدة التي جرت في كل من ( سياتل ) و ( جنوا ) فقد قامت منظمة Direct Action Network ( DAN ) أي (( شبكة العمل المباشر )) ( وهي منظمة جامعية في الولايات المتحدة الامريكية ) بتوجيه نداء عبر البريد الالكتروني لكل مؤيد لفكرة إقامة تلك الفعاليات أو متعاطف مع التوجهات العامة والأهداف المشتركة لمناهضى العولمة لأرسال دولار واحد لتغطية نفقات تنظيم الفعاليات الجماهيرية في المدينتين المشار اليهما فيما تقدم. وقد استجاب لهذا النداء عدد كبير من المتبرعين، بينهم من أرسل دولارا" واحدا" ومنهم من ارسل عشرة دولارات وآخرون خمسمائة دولار أو أكثر. وبهذا الطريقة تم جمع مبلغ من المال يكفي لأستضافة ( 90 ) ألف مشارك في تلك الفعاليات لمدة يومين. وعندما بدأ كل من إتحاد النقابات البرازيلية وكبريات النقابات العالمية والمهنية في جمهورية جنوب إفريقيا بالأسهام في فعاليات الحركات المناهضة للعولمة خصصت مبالغ من ميزانياتها لهذا الغرض. وثمة أحزاب سياسية وحكومات في أنحاء العالم تمول الحركات المعتدلة المناهضة للعولمة من أجل إخضاعها لنفوذها أو سيطرتها وتحجيم العناصر المتطرفة أو الراديكالية.
ويبدو أن الدول المتقدمة تؤيد مؤسسات المجتمع المدني بشتى صورها ومظاهرها وأحيانا نرى مواقف طريفة أو غير منطقية في هذا السياق ففي جمهورية ألمانيا الأتحادية ثمة محطة إذاعة فوضوية التوجهات دأبت على التحريض ضد الدولة الألمانية وعلى نحو صارخ ومستمر، مطالبة بحل وتفكيك هذة الدولة وغلق جميع المحطات النووية في أنحاء البلاد. ولكن هذه الأذاعة بالرغم من توجهاتها المتطرفة والفوضوية تمول من قبل الحكومة الألمانية. ولولا الدعم المالي الخكومى المتواصل الذي تتلقاه المحطة لما استطاعت الأستمرار في البث. وقد يستغرب القاريء لما ينطوي عليه هذا الأمر من تناقص واضح. ولكن سرعان ما يزول هذا الاستغراب إذا علمنا إن المحطة المذكورة تنتزع المساعدة المالية اللازمة لها للأستمرار في العمل، بوساطة محامين يتولون الدفاع عنها.
وثمة مثال آخر على مدى رسوخ المباديء الأساسية لحقوق الأنسان وحرياته الأساسية في المجتمعات الغربية المتقدمة. حيث أن الأتحاد الأوروبي تمول حركة (ATTAC ) التي تحدثنا عنها فيما سبق والتي تعارض السياسات الأقتصادية والأجتماعية والثقافية لدول الأتحاد. وهذا برهان عملي على مدى ايمان الشعوب المتقدمة وحكوماتها بحرية الرأي والتعبير قولا" وفعلا".


6-كلمة أخيرة
إن من السابق لأوانه الحكم على الحركات المناهضة للعولمة، حيث لم تحقق لحد الآن الا نجاحات متواضعة هنا وهناك. وثمة بعض الباحثين والمفكرين في الغرب الذين يقارنون بين هذه الحركات وبين اللوديتيين الذين كانوا يقومون بتحطيم الآلات والمكائن التي حلت محل العمل اليدوي في أوائل الثورة الصناعية في أوروبا إيان النهضة وأدت الى حرمان الحرفيين من مصادر رزقهم، بيد أن هذه المقارنة غير صحيحة بطبيعة الحال. لأن مناهضي ( العولمة ) لا يناهضون ( العولمة ) من حيث المبدأ، بل يناضلون من أجل ( عولمة ) أفضل تحقق المساواة بين شعوب المعمورة ولاتؤدي الى ثراء البعض على حساب بؤس وشقاء البعض الأخر ولا تلحق الاضرار ببيئة الحياة ومستقبل البشرية.
وأخيرا" لابد من التنويه هنا بأن ثمة أختلاف جوهري وبون شاسع بين مناهضي ( العولمة ) في الغرب الذين يدركون إن البشرية تشكل كلا" موحدا" رغم الصراعات السياسية والمطامع الأقتصادية والأختلافات الثقافية والتوجهات الفكرية ةالأيديولوجية وان مايجري في أحد أجزائة يهم الجزء الآخر ويعنيه وبين أعداء العولمة في الدول المنغلقة أو المتخلقة الذين يرون في العولمة خطرا" داهما" على مصالحهم ومواقعهم وينطلقون في معاداتهم للعولمة من منطلقات ايديولوجية متزمنة وأفكار سلفية عفا عليها الزمن.
أجل ثمة هوة سحيقة بين من يناضل من أجل مستقبل أفضل وعالم ينعم فيه البشر بثمار التقدم العلمي – التكنولوجي والتطور الحضاري وبينة الحياة النظيفة فى عالم تسوده العدالة والمساواة وبين من لايدرك إن العولمة سمة العصر وأنه يعيش في عالم متحرك دائم التغيير والتطور تسوده علاقات متحركة وأنماط حياة متجددة ومن هنا يمكن القول إن معاداة العولمة في الدول المنغلقة مظهر من مظاهر التخلف الفكري والجمود العقائدي، في حين أن المنظمات والحركات المناهضة للعولمة في الغرب دليل على التجدد والحيوية والايمان بالقيم الأنسانية المشتركة بين البشر جميعا" ونضال من أجل (عولمة ) حقيقية تحترم هذه القيم وتتجاوز الأفرازات السلبية للتقدم العلمي – التكنولوجي.

جودت هوشيار

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف