العازفون على العود المنفرد
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
العزف على العود المنفرد يندرج ضمن موسيقى الإرتجال، لأنه يعتمد التقاسيم على هذه الآلة بدون إلتزام بعدد الضربات الموسيقية. فلو أردنا أن نعزف مقطوعة على سبيل المثال على آلة البيانو فإننا نستطيع أن نعزفها نفسها كل مرة لملايين المرات وعلى مدى العمر والأزمان وهي نفسها بكل إنغامها مائة في المائة، لكننا على آلة العود غير ملزمين بعدد الضربات ذلك رهين بحس وأداء و(تمثيل) عازف العود المنفرد وهو مغمض العينين محتضنا آلته الموسيقية المسماة العود. ومن يريد أن يتأكد من هذه الحقيقة فليسجل مقطوعة تعزف مرتين ويضعها على آلة الكومبيوتر وسوف لن تتطابق.
الكثيرون يجيدون العزف على العود المنفرد موظفو الدولة الحلاقون معلمو الرياضة الرسامون باعة الجملة والمفرد وسائقو التاكسي ويتمتعون بها ويدندنون معها الأغنيات في بيوتهم وفي الأعراس أحيانا دونما رغبة أن يقعوا في دائرة الضوء. ويوما في العراق عزف الفنان الراحل جميل بشير عددا من المقامات العراقية على آلة العود وأرفقها ببستات من نفس نغم المقام وخرج بمقطوعة بقيت تأريخا مبادرا في العزف على هذه الآلة. لم يمنح المقطوعة إسما ولم يدع أنها مقطوعة موسيقية لأنها عزف مقامات وأغاني تراثية. ولأن الرجل لا يجيد الأداء الإعلامي ولا يجيد الحديث عن نفسه وهو فنان بكل معنى الكلمة وموهوب كموسيقي وليس كعازف عود فحسب، فقد نسيت المعزوفة وبقيت نغما على شريط.
يأتي أخوه منير بشير ليعيد عزف هذه المقامات، لكنه لبس العباءة السوداء وطلب إطفاء إضاءة الصالات التي يعزف فيها وإشعال الشموع وراح مسافرا لبلدان كثيرة يعزف ذات المقطوعة. وصارت لكل معزوفة إسما، ودخلت كموسقى تصويرية لبعض الأعمال الدرامية.
أولا، العود ونغمه لا يصلحان موسيقى درامية كعزف منفرد بل يمكن أن تدخل آلة العود ضمن أوركسترا شرقية. يوما كنت في بيروت وشاهدت مسرحية (إزار) لنضال الأشقر والموسيقى بخلفية إيقاع وعزف على العود لمنير بشير. بعد بضعة سنوات سمعت نفس الموسيقى كما هي تماما على فيلم وثائقي فلسطيني وبعد عدة سنوات سمعت نفس الموسيقى كما هي تماما على فيلم وثائقي عن الصناعات اليدوية في العراق. فما هي العلاقة بين دراما مسرحية عن المرأة وفيلم عن فلسطين وفيلم عن التراث الشعبي في العراق؟ كل ذلك يدلل على أنها موسيقى فحسب ويمكن أن تمنح أي عنوان.
بقيت موسيقى العود في داخل العراق يقام لها المهرجان وتستضيف الآلات الشعبية من أنحاء العالم وخدمت نظام الدكتاتور كثيرا.
يوما سمعنا عن طالب تخرج من معهد الدراسات النغمية من ضمن بقية الطلبة وأشيع أو أشاع عن نفسه أن النظام قد زجه في المعتقل وعرف وهو في المعتقل بأنهم سوف يقطعون يده التي عزفت العود فقرر كما يدعي وهو في معتقله أن يتمرن العزف بيد واحدة تمهيدا في حال قطعت يده. ولا يمكننا التأكد من أن نظام صدام حسين يسمح للموسيقى أن يجلب آلة العود معه إلى المعتقل!. فهرب ذلك الطالب من بطش النظام كما يشيع والذي عرف بإسم نصير شمه وقلنا على خير بدأ عازف العود يتخذ موقفا من النظام. لم تمر سوى أسابيع وهو في أوربا حتى ذهب إلى مصر ومن هناك جمع عددا من المرتزقة من العاملين في الوسط الفني المصري من ممثلين وسينمائيين وذهب معهم دليلا أو دلالا وشاهدناهم في مطار بغداد يستقبلهم وكيل وزير الثقافة.. جاءوا بدعوى دعم الشعب العراقي ضد الحصار وإستقبلتهم صحيفة بابل التي يصدرها إبن الدكتاتور في اليوم التالي بمانشيت يقول ستين رأس غانية عراقية على أرصفة شوارع بغداد. وهي حادثة مخيفة لم تحرك مشاعر فناني مصر ولا ريشة عازف العود المنفرد. بل سمعنا عزفا من نفس المقامات والبستات معنونة بالعامرية وهو القبو الذي قصفته القوات الأمريكية في حرب الخليج.
اليوم وبعد أن سقط الدكتاتور صرنا نسمع عن معزفات نفس المقامات والبستات تحت عنوان الفلوجة ونفسها يمكن أن تكون المقاومة وأية عناوين يمكن أن تكتب على عزف منفرد على هذه الآلة.
العزف على العود شأن سهل يمكن أن يتعلمه الإنسان في صباه في بضعة شهور وتبقى قدرته وفطنته على الأداء.. آلة عزفية للتسلية والتأمل أحيانا قدرتها التصويرية محدودة أو مفقودة والذي يتقنها لا تكفيه أن يسمى موسيقيا بل عازفا إلا إذا تطورت قدرته الموسيقية وأصبح مؤلفا حقيقيا لا تشكل آلة العود في موسيقاه سوى مفردة صغيرة بين الآلات وعند الضرورة.
ليس إحتقارا لآلة العود فهي آلة شرقية طروب، ولكن ينبغي الكف عن المبالغة وإعتبار عازف العود موسيقارا وقد تعلموا أن يجلسوا مغمضي العيون حالمين كما منير بشير في عباءته وموسيقاه نفسها التي سجلت على ثلاثة أعمال درامية متباينة الهدف والشكل، مثلها مثل معزوفات المقامات وأغنية (ون يا قلب لا تتبع العافوك وتظل شماته) ومرة نسمعها في العامرية وتارة في الفلوجة وثالثة في المقاومة يعزفها كل عازفي العود المنفرد دونما إستثناء.
إن الموسيقى هي أرقى الفنون لا تقبل النشاز وسميت السمفوني وتعني التوافق، فهي هارموني الأصوات والأنغام ولكل حركة فيها مشهد حواري دون كلمات وكل جملة موسيقية هي همسة عاشق ضمن حكاية أو إلتفاتة محارب في معركة وتجسيد لمشاعر شعب ملحمية مكتوبة بدقة ومنسجمة إنسجاما سيمفونيا. أما عازفو العود البسطاء فهم عازفون إرتجالا لمقامات مسموعة تنتهي ببستة (يا كهوتك عزاوي بيها المدلل زعلان) ويعنونوها بكلمة موسيقى ملجأ العامرية أو مأساة الفلوجة.. طيب ولماذا حلبجة غائبة والأنفال مفقودة وإنتفاضة آذار مغمى عليها والنجف أيضا قصفت بدون موسيقى (يلمنحدر وياك خذني) !!
إن ملحمة العراق ومآسيه ومستقبله بحاجة إلى عبقرية ترتقي إلى بيتهوفن وموتزارت وجايكوفسكي وكورساكوف، وليس إلى عازفي آلة شرقية بسيطة محدودة الإمكانية بخمسة أوتار مزدوجة وعزف منفرد يتنقل بين ثمانية عشر مقاما، وبضغة بستات عراقية تراثية لا علاقة لها لا بالنجف ولا بالفلوجة.
رحم الله جميل بشير الذي علمهم العزف دون أن يبتزنا ومات تاركا وصيته أن يدفن في لبنان نكاية بنظام أغلق الأستوديو الوحيد في العراق الذي بناه وأنشأه بعرق جبينه وهو الأستوديو الوحيد المؤهل لتسجيل الموسيقى في العراق.
سيكثر العازفون على العود المنفرد وتكثر المقطوعات الموسيقية بذات المقام والبستة المتشابهة. وسيكثر الدجل وسيكثر الندم وسيكثر الإنزواء للذين يحترمون ذواتهم!
سالم المرزوك
كاتب عراقي مقيم في بانكوك