كتَّاب إيلاف

طالباني مالي هدومه

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

لم يظهر في التاريخ السياسي العراقي المعاصر منذ تشكيل دولته المستقلة بداية عشرينات القرن الماضي إلا عدد محدود جدا من الساسة المحنكين الذين يتمتعون بنفاذ شخصيتهم على المستويين المحلي والدولي من حيث التأثيرعلى أحداث المنطقة،أو بالأحرى دورهم في صنع تلك الأحداث.فخلال العهد الملكي كان المرحوم نوري السعيد هو النجم اللامع في سماء السياسة العراقية رغم مساوئه التي غطت في كثير من الأحيان على محاسنه المتعددة وحنكته البالغة في قيادة العمل السياسي بقياسات تلك الحقبة.وكان السعيد بمثابة الكوكب الذي تدور حوله عدد من النجوم في معظمها خافتة، أو تلمع ثم تخفت، فيما بقي لمعان نجمه الى آخر لحظة من حياته قبل أن يسحل في شوارع بغداد.وفي العهد الجمهوري الأول،ظهر عبدالكريم قاسم الذي تمتع بشعبية قل نظيرها في تاريخ العراق بعد ثورته على الحكم الملكي وتأسيس الجمهورية العراقية( التي لم تخلد) بسبب إفتقار الزعيم الى المهارة والمقدرة السياسية على إدارة شؤون الدولة بمتناقضاتها، حيث سرعان ما تحول الى النهج الدكتاتوري العسكري الذي عجل بسقوط نظامه بعد عدة أشهر من نجاح ثورته.وفي الفترة اللاحقة وأثناء تسنم الشقيقين عبدالسلام وعبدالرحمن عارف برزت شخصية الدكتور عبدالرحمن البزاز الذي تبوء منصب رئيس الوزراء وكانت شخصيته طاغية حتى على الرئيسين العارفين،يزاحمه في بعض المرات طاهر يحيى الذي لم يستطع أبدا أن يضرب كتفه بكتف البزاز كما يقول المثل الكردي.
وفي العهد الثاني لحزب البعث العربي الإشتراكي وبسبب دكتاتورية الحزب القائد وتمركز السلطة بيد الأمين القطري ونائبه في الحزب، لم تبرز أية شخصية سياسية في العراق ما عدا الرئيس أحمد حسن البكر ونائبه صدام حسين وهما كانا زعيمين لقبيلة تمكنت من الدولة العراقية بقوة الساعد المخابراتي وبقتل وتصفية الخصوم السياسيين لها، قبل أن يكونا محترفي سياسة. فالأول كان رجل عسكري، والثاني من رؤساء عصابات إجرامية إستخدمته الدولة لتصفية معارضيه ثم كافئته بأعلى مناصب الدولة قبل أن ينقلب على ولي نعمته ليتبوأ مكانه في الموقع الأول بالدولة.ففي هذه الحقبة الممتدة لأكثر من ثلاثة عقود ونصف لم تبرز أية شخصية سياسية من الوزن الثقيل في الدولة العراقية، فيما أفرزت جبهة المعارضة عددا من القادة التاريخيين للعراق في مقدمتهم المرحوم الملا مصطفى بارزاني قائد الحركة التحررية الكردية طوال سنوات الستينات والنصف الأول من السبعينات. فقد طغت شخصية هذا القائد الكبير بدورها على الكثير من الشخصيات السياسية العراقية في تلك السنوات سواء داخل الحكم أو في جبهة المعارضة.وكانت زعامة بارزاني للحركة الكردية إمتدادا لسنوات الستينات التي شهدت بدايتها إنطلاقة الثورة، سبقها لمعان نجمه أثناء حركة البارزانيين في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي،وقبلها من خلال قيادته لقوات البيشمركة الكردية في أول جمهورية كردية تأسست في تاريخ الشعب الكردي بمدينة مهاباد الكردية في إيران. ومع رحيل هذا القائد الكبير الذي يذكر له التاريخ الكردي أنه كان أول زعيم كردي موحد للأكراد في كردستان العراق، حيث إنقادت له الجماهير الكردية قاطبة وسلمت له بالزعامة واختارته قائدا لحركتها الثورية التحررية التي وصل أعداد مقاتليها في شهر آذار 1974 عندما لجأ بارزاني مرة أخرى الى الجبال لمعاودة قتال نظام البعث الى حدود 300 ألف مقاتل، وهذا عدد يفوق جنود العديد من الدول العربية مجتمعة.
بعد رحيل بارزاني علا نجم جلال طالباني كشخصية سياسية قوية وقائدا للثورة الجديدة التي إندلعت في كردستان العراق إثر انهيار ثورة الملا مصطفى في آذار من عام 1975 بعد سنة واحدة من القتال جراء توقيع صدام حسين على إتفاقية الجزائر مع شاه إيران الذي أوقف دعمه للحركة الكردية وحاصر قواتها مقابل حصوله على تنازلات مشينة من صدام حسين عن أجزاء كبيرة من الأراضي والمياه الأقليمية العراقية لشاه إيران.وكان طالباني بدوره قد برز كشخصية سياسية منذ بداية الستينات وهو لا يزال في الثلاثينات من عمره عندما ترأس الوفد الكردي للقاء الرئيس المصري جمال عبدالناصر عام 1963 والذي تنبأ له بمستقبل باهر، وقد تحققت نبوءة ناصر في أعقاب سقوط نظام البعث في 2003 حيث أصبح طالباني أول رئيس دولة كردي في تاريخ المنطقة برمتها، وأول رئيس منتخب للعراق منذ تشكيل دولته المستقلة.
ولم يكن إختيار طالباني رئيسا للدولة العراقية الجديدة نتيجة لإستحقاقات انتخابية بقدر ما كان نتيجة لقوة شخصيته على الصعيدين المحلي والخارجي وكونه من أبرز القادة العراقيين خلال السنوات الثلاثين الماضية، بالإضافة الى حنكته السياسية والدبلوماسية ومهارته في قيادة السلطة التي خبرها من خلال تجربة إدارة أول حكومة أقليمية في كردستان العراق،الى جانب تمتعه باحترام وتقدير العديد من الشخصيات الدولية والعربية والأقليمية. وأثبت طالباني خلال الأشهر التي تبوأ فيها منصبه كرئيس للدولة وفي خضم أحداث جسام عصفت بالعراق قدرة فائقة على قيادة بلد متعدد الأعراق والطوائف،إستمدها أيضا من خلال قيادته لإدارته في كردستان التي تعتبر في معظم أوجهها مشابهة أو صورة مصغرة للعراق الكبير من حيث تعدد الأعراق والطوائف فيها،وكان طالباني كما يقول المصريون(مالي هدومه) في إشغال هذا المنصب، فقد كانت شخصيته غالبة على المنصب الشكلي الذي شغله وهو رئيس الجمهورية المقيد بالعديد من القيود التي تحول دون حرية الحركة وإتخاذ القرارات الكبيرة والمهمة في البلد،وهذه نقطة نعتقد أنها بحاجة الى المزيد من البحث والتمحيص رغم قبولنا للأسباب التي دعت الى أن يكون هذا المنصب هامشيا في العراق الجديد، فنحن نعلم أن العراق الذي يقف الآن على كف عفريت بسبب تصارع القوى السياسية فيه ووفود الأرهاب الخارجي إليه وتدخل قوى ودول أقليمية في شأن العراق لزعزعة أمنه واستقراره، كل هذه الأمور مضافا إليها التجارب المريرة للحكم في العراق وعلى الأخص تجربة حكم البعث الدكتاتوري الشمولي بقيادة صدام حسين أدت بمجملها الى ضرورة كبح جماح الشخص الأول في الدولة بتقييد سلطاته وصلاحياته، نزولا الى تقييد حرية حركة حتى رئيس الوزراء من خلال إلزامه بعرض قراراته المهمة على مجلس الوزراء قبل إقرارها، هذه القيود رغم غرابتها من حيث عدم وجودها في أي دولة أخرى بالعالم خاصة في النظم غير الرئاسية الذي يكون رئيس الوزراء فيه رئيسا فعليا متمتعا بكامل الصلاحيات كان سبب فرضها هو عدم العودة بالحكم الى الدكتاتورية والإنفراد بالسلطة خاصة في دولة كالعراق المعروف بتعدد قومياته وطوائفه وأديانه. ولكن لا الرئيس طالباني هو صدام الذي كان يعاني من عقد نفسية متعددة ونزح من قرية مغمورة، ولا شخصيته السياسية وحنكته وخبرته السياسية المشهودة تستحق أن يتبوأ منصبا لا حول له فيه ولا قوة، فتاريخ طالباني يشهد له بأنه كان أحد أبرز الشخصيات السياسية الفريدة في العراق يجب أن يتشرف المنصب الذي يحتله به، لا أن يسلم موقعا هو مجرد اسم على غير مسمى.
لقد كانت لتصريحات طالباني الأخيرة بالتنحي عن منصبه وعدم تجديد ولايته وقع الصاعقة على الأكراد بالدرجة الأولى،وعلى بقية القوى السياسية العراقية حسب إعتقادي. فالبنسبة للأكراد يعتبر وجود طالباني في منصب رئاسة الدولة ضمانة أساسية لمستقبلهم في العراق، وأن لم نبالغ ضمانة بقائهم داخل إطار الوحدة الوطنية للعراق التي ينشدها ويؤكد عليها جميع القوى السياسية العراقية،فالأكراد ضحوا كثيرا من أجل إسقاط نظام صدام حسين الذي قارعوه لأكثر من 35 سنة هي مدة حكم صدام وحزبه، وبالتالي فهم يستحقون هذه المكافأة (الصغيرة) إذا ما اعتبرنا منصب الرئاسة رمزيا، وينبغي عدم إغفال الإشارة الى حقيقة واضحة قد تبدو خافية على بعض القوى السياسية أو العراقيين،وهي وجود تيار شعبي ضاغط على القيادة الكردية بإتجاه إجراء إستفتاء شعبي عام في كردستان لتقرير المصير، وقد أظهرت إستفتاءات وإستطلاعات رأي أن أكثر من مليوني شخص من الناخبين في كردستان يؤيدون إنفصالها عن العراق، ولولا الضغوط الدولية والأقليمية التي مورست على القيادة الكردية في الفترة اللاحقة لسقوط نظام بغداد للدخول الى العملية السياسية بالعراق وعدم التسبب في إفشال مخططات أمريكا فيما يتعلق بالمنطقة والعراق لما تعمدت القيادة الكردية إهمال مطالب وضغوطات هذا التيار الشعبي المتنامي، أو تحاول إخماد جذوتها في الظروف الراهنة للأسباب المذكورة، وقد لا يستمر هذا الوضع إذا ما خرج الأكراد من المولد بلا حمص كما يقال.
رغم أن طالباني يدرس الآن بعض الأفكار لبلورتها بإتجاه العودة الى كردستان والإنصراف للمشاركة في إدارة شؤونها في مقدمتها توحيد الحكومة الكردية المنقسمة على نفسها منذ عشر سنوات بإدارتين في أربيل والسليمانية، وكذلك قيادته لعملية إصلاحات واسعة النطاق في الهيكل الإداري للحكومة والقضاء على الفساد الإداري فيها كما تعهد بذلك أمام الناخبين الأكراد خلال الحملة الانتخابية،ولكن برغم هذه النوايا لطالباني إلا أن هناك بالمقابل ضغوطا دولية عليه وبالأخص من الولايات المتحدة لقبول ولاية ثانية لرئاسة العراق. حيث لم يخف السفير الأمريكي في العراق الذي زار السليمانية لوضع الحجر الأساس للجامعة الأمريكية فيها إشارة واضحة الى توقعه بتبوء طالباني للمنصب لولاية ثانية. وما بين رغبة طالباني بالعودة الى كردستان وحاجة الشعب الكردي الى دوره في ترتيب بيته الداخلي، وبين رغبة أمريكا في بقائه بالمنصب، مع الإشارة الى آخر تصريح لنائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني الذي كان في بغداد قبل يومين والذي أكد الحاجة الى حكومة قوية في العراق لقيادة المرحلة القادمة، وهي إشارة أخرى الى رغبة أمريكا في بقاء طالباني على رأس الدولة، يبقى أن نشير الى أن طالباني الذي يريد توسيع صلاحياته الدستورية بعدد من المطالب التي لا تتعارض مع أحكام الدستور العراقي الجديد لا يريد الإنفراد بالسلطة أو العودة الى الدكتاتورية السابقة بكل تأكيد، لسبب بسيط وهو لأن طالباني الذي خبر السياسة وغرق فيها الى حد الأذقان يدرك متطلبات هذه المرحلة من تاريخ العراق والمنطقة ويتفهم مدى حاجة العراقيين الى الديمقراطية والاستقرار السياسي وبناء المجتمع المدني الذي أرسى طالباني ذاته أسسه في كردستان، يدرك أيضا وهو رجل قانون أن انتخاب رئيس الجمهورية في العراق لا يتم عبر إقتراع مباشر بل ينتخب من قبل البرلمان الذي له الحق بأغلبية الأعضاء أن يعزل الرئيس في حالة مخالفته لأحكام الدستور أو تجاوز صلاحياته، عليه فأن إعطاء طالباني ما يريد من السلطة لا يتناقض مع توجهات العراق الجديد، بل نعتقد أنه يشرف العراق أن يكون على رأس دولته شخص كطالباني الذي يخوض في بحر متلاطم من المتناقضات والخلافات والميول المتعددة، لكن المنصفين يجب أن يعترفوا بأن طالباني أثبت أنه رجل الدولة المترفع عن الإنتماءات الطائفية والعرقية، فبرغم كونه سنيا في بلد ذي أغلبية شيعية، وكرديا في دولة ذات غالبية عربية استطاع أن يقود العراق في خضم تلك الأمواج وأنه قادر أيضا على قيادة المرحلة القادمة بقوة وإقتدار، ويكفي العراقيون أننا نحن الأكراد آثرناهم على أنفسنا بإعطائهم طالباني، فعليهم أن لا يردوا الهدية الا بأحسن منها..

شيرزاد شيخاني
sherzadshekhani@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف