أصداء

الى صديقي خروتشوف مع أطيب التحيات!

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

وسط الهموم التي تجثم على صدورنا، وتحيل أيامنا بكل تفاصيلها الى غصة قاتلة تخنقنا بهدوء، نبحث هنا وهناك عما يسلي الروح والنفس و ربما الجسد أحياناً، ليس عن ملذات تتطاير هي الأخرى سريعاً ولا تترك أثراً في مسرى حياتنا اليومية، بل عما تتناقله لنا الأخبار والعناوين و (القفشات) المسلية هنا وهناك.. ونمتع عيوننا المتعبة بما نشاهده من صور ٍ عبر الشاشة والأحرف الألكترونية! ولو جاءت بعض من تلك الأخبار وسطورها، لكي تحاكي أذهاننا وما نعيشه من أحداث يومية أو ذكريات جميلة مضت، فإن القلم يستنهض فنونه وقدراته لكي يروي للقراء فصول ما حدث ويحدث في عالمنا الذي تتلبسه حالة من الهذيان والجنون المنفلت وتقوده قوى خارقة لا تعرف الرحمة والترحم، لا حدّ لها بالفصول التي رسمتها لنا!
يقول الخبر المبكي والمضحك كما هو حال عالم شعوبنا العربية، والذي تناقلته وكالات الأنباء والمواقع الألكترونية قبل أيام، ما مفاده أنه ( قبل أسابيع رزق مواطن ليبي يدعى القذافي ( كذا ) بمولود ذكر في إحدى مستشفيات مدينة ( مصراتة ) الليبية فأسماه "معمر" تيمناً بالرئيس الليبي. ولم يقـدّر للطفل أن يعيش ويحيا، فتوفي بعد أسبوعين فقط من ولادته. وعندما همّ والده بتجهيزه للدفن طلب من المستشفى إعطاءه شهادة وفاة لصغيره. لكن أحدا من الأطباء العاملين في المستشفى لم يكن على استعداد لإصدار شهادة وفاة باسم "معمر القذافي" خوفا من أن يناله الأذى من العناصر الموالية للنظام! وهكذا ظل جثمان ذلك الطفل في الثلاجة لأكثر من أسبوعين دون أن يدفن!! وللخروج من المأزق نـُصح والد الطفل السيد القذافي بالحصول على إذن من المحكمة بتغيير اسم طفله المتوفى، كي يتمكن المستشفى من إصدار شهادة الوفاة! وفعلا تم ذلك واستبدل إسم "معمر" باسم آخر ليكون ذلك الطفل الليبي المسكين هو المخلوق الوحيد في العالم الذي غيروا اسمه بعد موته كي يتسنى لأهله دفنه!
هذا الخبر الذي أذهل القراء ولشدة وقعه على النفوس ولوقع المصائب المريرة التي نعاني منها في بلداننا العربية من جراء سياسات الحكام المهووسين بألقابهم ونياشينهم وعباءاتهم وهندامهم الأجوف الفارغ والرعب الذي تعيشه شعوبنا جراء سياساتهم الدموية، فإن الذكريات الحية المشتعلة في صندوق الدماغ قد عادت بي الى أيام وسنوات ثورة 14 تموز 1958 الفتية وحيث كانت تعيش زهوة أيامها وعنفوانها.. وحيث المد الشعبي الثوري يجتاح كل فواصل الحياة ويلهب عقول الناس بحكايات ٍ وأفعال ٍ يتلمسون ثمارها على مستوى حياتهم المعيشية والثقافية، ويتطلعون بشغف وحرارة الى المنجزات الحية والموعودين بها بمعاونة دول صديقة للعراق يقف على رأسها آنذاك الإتحاد السوفياتي وباقي دول المنظومة الإشتراكية، بل وأن الأمل الكبير الذي كان يراود حياة عامة أبناء الشعب العراقي وبكل كادحيه وفقراءه هو أن يروا بلدهم و زعماءهم آنذاك في مصاف زعماء تلك الدول الذين ألهبوا حماس الملايين من البشرية في تلك الفترة وأصبحوا في أذهان الناس قادة ملهمين وأسطوريين تتحدث عنهم الألسن في كل مناسبة أو مجلس! وأحد هؤلاء القادة كان نيكيتا خروتشوف السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفيتي للفترة من 1953-1964 و رئيس مجلس السوفيت الأعلى للفترة من 1958 - 1964!
كان ( هَجــْول ) رحمه الله أحد أبناء جنوب العراق الباسم و الذي عاش تلك السنوات متطلعاً ومتأملاً كغيره من الكادحين في أن يرى ويتلمس ثمار ثورة تموز الفتية وهي تخطو بقوة وثبات من أجل مصالح الفقراء والمعدمين ومستقبل الوطن اللاحق، وكان يرد الى أسماعه في تلك الفترة أسماء كل الزعماء الوطنيين والعالميين والأحداث الحاسمة التي صاحبت أيام حكمهم وعلى الأخص منها أزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962، فكانت أسماء كاسترو و خروشوف وغيرهم قد ألهبت حماس كل قطاعات واسعة من الشعوب على إمتداد المعمورة المتطلعة للتحرر ومنهم صائغ الذهب العم ( هـَجــول ) الذي كان في أولى سنوات الثورة قد شرع في تعلم القراءة والكتابة بعد الإنتهاء من عمله مساءً وبحماسة منقطعة النظير هو وغيره من صحبته من الصاغة وأصحاب المهن والحرف الأخرى في أسواق البصرة الشعبية، وكانت مدرسة المربد الإبتدائية في محلة القشلة و العريقة بتاريخها تحتضن هؤلاء الكسبة والحرفيين بين جدران صفوفها الواسعة لكي يبدأوا مشوار تعلمهم ودراستهم المبتدئة على أمل أن يتصفحوا الجرائد الوطنية ويتلقفون الأخبار عوضاً عما يسمعوه من مذياع الراديو! وفي يوم ما.. قريب من تلك الأحداث رزق العم ( هـَـجـْــول ) بمولود ذكر هو الثالث بين أولاده، وعمــّت الفرحة الدار والشارع والأحبة وسوق الصاغة الذي يعج بالحياة منذ أولى ساعات الصباح.. وحان موعد إصدار الجنسية الخاصة بالوليد الجديد الذي طلّ على الحياة في أيام وسنوات ثورة تموز المباركة على العكس من أخويه اللذين يكبرانه بسنوات و اللذين ولدا أيام الحكم الملكي. أسرع الوالد و رب البيت وسلطانه الى دائرة النفوس في البصرة لكي يصدر له الجنسية العراقية كمواطن عراقي جديد يضاف الى نفوس العراق البالغة حينذاك حوالي السبعة ملايين نسمة. لكن الذي حدث في تلك اللحظات أن الموظف المسؤول عن تسجيل البيانات الأولية لغرض ديمومة وإستمرار المعاملة الرسمية قد رفض تدوين ما ورد في بيان الولادة الرسمي آنذاك، فقد ورد إسم الوليد الصغير في بيان الولادة تحت إسم ( خروتشوف )!، بل وأسرع ذلك الموظف المرتعب الى مديره المسؤول لكي يخبره بتلك ( المصيبة ) الكبيرة! التي إستبشر بها في أولى ساعات الدوام! وعلى نفس الخطى المسرعة و( المصاب الكبير ) الذي ألــمّ بالموظف، توجه سيادة المدير العام لكي يسأل مستوضحاً عن صاحب الطلب! ورغم الإلحاح الكبير على العم ( هـَجــْول ) لكي يغير إسم الوليد الصغير ويمنحه أي إسم آخر حتى ولو تيمناً بإسم الزعيم عبد الكريم قاسم أو الآخرين كالمهداوي أو وصفي طاهر أو ماجد محمد أمين، لكن عمنا الراحل أصرّ على طلبه هذا، والذي قابله رفض صريح وقوي من دائرة النفوس آنذاك!! وأنتشر الخبر كما يُقال كالنار في الهشيم وأصبح حديث الناس الأقربون، بل وإزدادت زيارات الأحبة والمحبون لكي يشاهدوا ( خروتشوف ) العراق الصغير وهو لم يزل يتعدى الشهر من العمر!! وبعد محاولات إقناع عديدة تدخل بها الأهل والأقربون والأصدقاء، ونظراً لإستحقاقات إصدار الجنسية خلال فترة زمنية محددة، فقد إقتنعت عائلة الوليد الصغير أن تستبدل إسم ( خروتشوف ) الى إسم آخر (..... ) لا زال يحمله رسمياً أينما حل في ترحاله وسفره وعيشه! أما نحن الذين سمعنا وعاشرنا الحدث الذي هزّ مشاعر الناس المقربون وأضحكهم وألهاهم، فلم نزل نحتفظ بتلك الذكرى وأحداثها حية في أذهاننا الطرية، بل ونسترجع ذكرياتنا مع ( خروتشوف ) العراق، الصديق العزيز الذي هزّ إسمه كيان السجل الرسمي العراقي المتمثل بمديرية النفوس العراقية في لواء البصرة أنذاك.. ولا زلنا نردد في أول لحظة لقاء أو عناق أخوي وبدون همس هذه المرة.. وبدون خوف أو تردد.. أهلاً ( خروتشوف )! ونضحك! فاليك ايها الصديق الغالي.. أطيب التحيـــــــات!

عبد الجبـار السعودي

بصرة - أهــوار في كانون الأول 2005
basrahahwar@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف