أصداء

ثقافة الاعتذار ممارسة حضارية لا تليق بالبعثيين

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك



كتب الأخ باسم السعيدي عن أدب الاعتذار وكيف أعتذر بوش وكويزومي عن أخطائهم الماضية، و قفزت حينها إلى خاطري دعوة كريمة سابقة أقترحها الأخ (الدكتور زياد أبو الهيجاء) سفير فلسطين السابق في بوخارست، يطلب فيها الصلح والصفح مع البعثيين. وأخبرته بأن ليس البعث فكرا أو منهجا عقليا وأخلاقيا يمكن محاورته والأخذ والعطاء معه، كما هي التيارات السياسية في الدنيا، بقدر ما هو دعوة محبوكة إبليسيا نسجها عفلق لاستقطاب ضعفاء النفوس أكثر من فكر مقنع يشدهم ويرتقي بملكات عقولهم ويسموا بنفوسهم. وعالم البعث مرتع خصب للأفاقين والمغامرين وصيادي الماء العكر، والمتشربين بالغش حد الثمالة، والساقطين اجتماعيا، وعديمي الأصول، أكثر من كونه مدرسة أخلاقية ذات مرامي مثالية، تجتذب من يريد ممارسة مكارمها.
و البارحة سمعنا طالباني (الرئيس المعين)، يدعوا للتسامح معهم بعد أن سجل تأريخه تسامحا مشهورا مع الشيوعيين في بشتشان حينما ذبحهم عن بكرة أبيهم، أو حينما قطع أرجل أخوتنا الأكراد (العراقجية) على يد جلاوزته. اليوم يريد "الريس" حينما تحول بقدرة إلهية من ذئب إلى راعي، ويروم أن يشيع روح التسامح بيننا، من خلال رفضه حكم الإعدام على صدام (المغرر به)، ثم تصنيف البعثيين إلى صنفين، جماعة سورية، وجماعة عفلق، وكأن جماعة سوريا كانوا (حبابين) وديعين، ولم يقتلوا الناس بحسب النوايا في الصدور، ويشهد سجن تدمر، ولم يقصفوا المدن السورية بالطائرات، وينكلوا بأقارب المعارضين وذويهم، ويمنعوا معارضيهم في الخارج من الحصول على أبسط حقوق المواطنة، ويحبسوا معارضيهم السياسيين منذ السبعينات حتى اليوم، ولم يعلن عن مصيرهم، وسوف نستعلم عن مقابرهم الجماعية لاحقا إن شاء الله، بعدما تسقط السلطة، كما حدث مع بعثنا الساقط.
وإذ أتذكر قصة كتبها عام 1959 في صحافة الشيوعيين العراقيين، الشهيد (أبو سعيد) عبدالجبار وهبي رحمه الله (والد الفنانه أنوار عبدالوهاب)، وهي تحاكي قصة (خليلات العبد) المعروفة لدى أهلنا الشروقيين، يصف بها حال مجموعة من البحارة بعدما تاهوا في عباب البحر، وكان أحدهم قد تبول من السفينة إلى الماء، فهبت ريح على ماءه لترميها على (حلانة تمر)، ففرزوها ولم يأكلوا منها، لكن متاعهم قد نضب بعد أيام، فعادوا للحلانه يفرزوا منها ما مسه البول (النكسان) من غيره ليأكلوه، ثم عادوا بعد أن نضب أكلهم أن أكلوا (النكسان) وهذا أضعف الإيمان. وهكذا الحال معنا فقد بدأنا نفرز (المقاومة الشريفة) عن (المقاومة العاهر) وهي تحصد أرواح العراقيين يوميا، ثم اليوم، و على لسان طالباني، حينما فرق بين البعثي الجيد عن السيء والسوري عن العفلقي، ثم سيأتي اليوم الذي نستسيغهم جميعا (مثل خلالات العبد)، ونضمهم إلى قلوبنا (كلوب سمج) بعد كل مافعلوه بنا، بعد أن يهبهم طالباني صكا للبراءه ويزكيهم بأنهم من جماعة سوريا، حتى لتجد كل المجرمين السابقين كانوا مع سوريا، ولا غرابة في الأمر.
كنت أشكو حالي كما ديدننا العراقيين قبل عام وأنا أزور لبنان المترف، وكان المستمعون منبهرون من صدمة ما أقوله عن جرائم البعث، ولمحت في ثنايا القول بعضهم يرسم ملامح شك بمبالغة أو كذب أسوقه إلى مسامعهم، لكن الحمد لله أنبرى أحدهم أسمه (هزار الخطيب) ليؤزرني ويثنى على قولي ثم سألني: كم بعثي كان لديكم في العراق؟، فأخبرته: ملايين والله أعلم، فاسترسل الحديث وذّكر الجالسين بحاجز أو نقطة تفتيش للمخابرات السورية كانت تقف على الطريق السريع(الأوتوستراد) بين بيروت والجنوب، عند الجسر المؤدي لأقليم الخروب وبلدة شحيم ومزبود، حيث كان فيها أربعة عناصر بعثية سورية، كان جميع من يسكن لبنان يبكي ويشكي حاله منهم، بسبب المعاملة الفجة والإهانات والمصادرات و(التوريق - البخشيش) الذي كان يمارسه هؤلاء مع اللبنانين، "أخوتهم في العروبة". وكان اللبنانيون المساكين عاثري الحظ لا يتورعون بنبس كلمة ضد لإعتراض هؤلاء، كون ذلك يعني وصولهم إلى المقابر الجماعية على أسرع مركبة إلى داخل سوريا بحجة سبهم لخالدهم (الأسد). واليوم طالباني يترحم على الأسد و يريد أن نهبهم الفرصة بأن نعيد تأهيلهم (بعثهم من جديد)، كي ينقضوا على السلطة بدبابة ويغتصبوا العراق أربعين عاما أخرى، وها نحن مازلنا لم نفق بعد حتى اليوم من حلم خلاصنا الجميل منهم، ولم تعود لي كوابيس الليالي الخوالي حينما كنت أفزع من حلم فحواه سفرة للعراق وإلقاء قبض على يد جلاوزة البعث.
كتبت مرة عبدالرزاق عبدالواحد (عن طريق أحد المقربين صادقي النية، ممن مازال يتواصل معه، بسبب دين وعرفان في رقبته)، وطلبت منه الاعتذار أمام الشعب العراقي، كي نتجند جميعا وننبري للدفاع عنه، ونكرس مقولة المرحوم الزعيم عبدالكريم: عفى الله عما سلف. لكن الرجل لم يفهم هذا الرجاء، ولم يستثمر تلك الفرصة بالرغم من كونه صابئي مندائي سليل (المانويين)، وذو خلفية شيوعية متحلية بالروح الحضارية، فأن سنين خضوعه للبعث ذيلا وذليلا وتابعا ممسوخا قد أفقده حتى هذه الصفة الحضارية. و تماديت دون فائدة، و قارنت له بين أصله العراقي الصابئي المتسامح المهادن "المانوي" الذي لايقبل ذبح الدجاجه، وأصل صدام الأعرابي الجلف، سليل قطاع الطرق، والحرامية، المتوج بشرف (صبحه)، وما يحاكي العباسيين البداة حينما أجبروا أجداه العراقيين على ذبح دجاجة أمام الملأ كي يتبرءوا من (ملة ماني). وهنا أتسائل كيف يعتذر عبد الواحد، وقد تربى في (منزول) البعث، وكيف يعتذر وقد تمرغ بالعهر وعاشر القوم المئات من (أربعينات الأيام)، فكيف لايصير مثلهم، وكيف يعتذر وقد تقمصته روح طلفاح وعارف وصدام الأعراب الذين جعلوا الشيخ ضاري حرامي الفلوجة بطلا. وكيف يعتذر البعثي الموارب المخادع المضلل، سليل عفلق ابن المهاجر الروماني اليهودي، الذي أمسى مدافعا عن العروبة والإسلام، ورفيق مسيلمه الصحاف الذي كان يدجل (علوجيا) والدبابات الأمريكية على جسر الجمهورية. كل تلك الصفات المتناقضة يمارسها البعثي و يذبح الناس دون وازع للجورة والدين والإنسانية، فكيف نريده أن يعتذر.
ولو عدنا الى كتب المرحوم الدكتور علي الوردي، وكيف أسهب بوصف البدوي والعقلية البدوية في العراق، حتى كتموا صوته حينما شخص العطب العراقي في شخوصهم. كتب الوردي أن البدوي لا يعرف الاعتذار والصفح والتسامح أو يطلب الرحمة، كونه يعتبرها إهانة له، مثلما أمست المهانة لديه (مهنة) وأمست السرقة لديه كار ينتفخ زهوا بها، على مبدأ (نهاب وهاب).
البعثي حامل الدرن الأعرابي يعشق سفك الدماء كي تستقيم الدنيا له، فهو القادم من جدب الصحراء، وبيئتها المحدودة الموارد، بما يجعل من تصفيته للناس ولعبه دور عزرائيل، شيمة، وتحقيق لغرائز مستبطنة في سجاياه، كونه قد أزاح عن طريقه أحد المنافسين في تلك البيئة التي لاتقبل المنافسة على الموارد، وتزدري روح المعاشرة والقبول بالآخر. وهذا ما حدث في المدائن قبل أيام، حينما قتل البعثي جاره القاطن جنبه منذ سنين.
أتسائل هنا: هل يؤتمن البعثيون اليوم، وهل نقبل ماتفوه به طالباني، الذي نعرف دوافعه ومغازيه. فهو يريد أن يرد دينا في رقبته للسوريين ويمارس عرفانا لصدام وبعثيي العراق الذين عجنوه سوية، ليقف في حينها ضد حركة برزاني (مثلما حدث حينما أسست حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين لضرب فتح ). لهذا أولى الرجل أهمية استثنائية، وجعلها باكورة إجتهاداته الرئاسية، وقرر بعدها زيارة سوريا تأدية لطقوس الطاعة والعرفان، وأمست مداهنتة لاتليق برئيس دولة تعاني من جور سوريا الجارة البعثية العاهر، وتصديرها المكشوف للإرهاب. وهكذا كان لتفوهاته وقع الخناجر على الجسد العراق المسجى عليلا، وعلى نفوس العراقيين المكسورة من قسوة مايحدث لهم ويتربص بهم. وهكذا فأن من عين (تحاصصيا) طالباني في منصبه (القائمة 169)، هم الأكثر من أجرم بحقهم صدام والبعث، ويشكل أخوتهم ورفاقهم أكثر نزلاء المقابر الجماعية نوعا وكما. فمن نعاتب ياناس طالباني أم منكوبي العراق (المازوكيين)؟.
نعلم جيدا أن الحركة القومية الكردية هي من صنعت وأعانت وحضرت البعث العراقي في الوثوب إلى السلطة حينما تأمروا على الزعيم المرحوم عبدالكريم قاسم، بتنسيق مشترك مع جمال عبدالناصر. وقد كان مصطفى برزاني ومحسن طباطبائي الحكيم، أول المهنئين لسلطة البعث بعد إنقلابهم في 8 شباط1963. والقوميين عموما والبعثيين تحديدا هم أكثر من قدم خدمة جليلة لهم، كونهم صنعوا سلطة قومية عنصرية، أعطتهم الحجة والذريعة في الدعوة عينها. ونلمس تلك الروحية لدى الجهتين التي تتميز بالكراهية للجميع والتربص والمواربة والمخادعة والدجل على طول الخط. وبذلك فان إعادة (تبعيث البعث) من قبل طالباني هو في فحواه دعم لديمومة مسوغات الفكر القومي وترويج لبضاعته البائرة في العالم، بعدما أقتلعه الله "عربيا" وبقى أن يقتلعه كرديا وهلم جرا لكل دعاة القومية، و يقطع سنته ويوئد سيرته، كونه كان ويبقى رجس لايليق بنا كشعب فسيفسائي متسامح وقابل بالآخر ولايقبل بالترهات العنصرية القومية أو الطائفية.
لقد مارس الاعتذار كل من أساء التصرف وأجرم بحق شعبه، فها هو نظام الفصل العنصري(الأبرتايد) في جنوب أفريقيا، قد خصص أياما طوال، تخللتها طقوس اعتذار حضارية، قدمتها كل عناصر السلطة العنصرية السابقة. لقد حدث ذلك أمام الملئ ورأيناهم يصعدون المنصة ويعترفوا جهرا بجرمهم، ويعتذروا للشعب عما حصل ويهبطوا أحرار من الجهة الأخرى. لقد مارس هؤلاء "الأفارقة" طقسا في الإعتذار والتسامح والصفح، فتبدلت الأمور وأسترسلت الأحوال صحيا، وهاهي جنوب أفريقيا تشهد صعودا حضاريا وترفل بالأمان.
وحدث في رومانيا الحال نفسه، وأعتذر جل الشيوعيين عن جرمهم، ولم يتورعوا حتى عن تأسيس حزب شيوعي حتى اليوم بسبب ما أصابهم من خزي. وأتذكر عندما كنت أراقب برنامجا تلفزيونيا (على الهواء) حدث بعيد سقوط الطاغية جاوجيسكو في 22 كانون الأول 1989 أن ظهر مجموعة من الشعراء والمثقفين اللاعقين لجاوجيسكو (مثل عبدالواحد) وأحدهم يدعى (أدريان باونيسكو) يلقون أشعارهم من المنصة بضروب عن الثورة والشعب والبطولة، فأنبرى من وراء المسرح الذي يتحدثون من على منصته رجل غريب الأطوار، وأعتذر بأدب، و بأنه لم يلتحق بهم مبكرا و يحضر منذ بداية البرنامج، وكان يحمل معه حقيبة، على السجية الرومانية أيام الشيوعية(للإحتياط بشراء بضاعة مختفية يجدوها قد ظهرت بالصدفة). وعندما مكث الرجل الغريب في مكانه ووضع مكبر الصوت أمامه قال: أرجو من الأخوة الأدباء والشعراء الحاضرون أن يتقبلوا مني هدية متواضعة. ففتح حقيبته وأخرج لفات من الورق الصحي (المخصص للمراحيض) ووضع أمام كل أديب لفه، ثم قال تفضلوا ياسادة ياكرام، كل من "حاشاكم" (أكل خره) وأمتدح الطاغية جاوجيسكو، فليمسح فاه أمام الملئ، كي نقبل إعتذاره، فأنطلق تصفيق حار له في القاعة، وحتى أنا الذي ليس لي ناقة ولا جمل صفقت على شجاعته.
أتسائل هنا: متى نضع أمام أدبائنا ومثقفينا وشعرائنا والأهم جل سياسيينا (لفة كلينكس) كي يعتذروا لنا جميعا عما أقترفوه من كفر بعثي. وهنا أجزم بأن ثقافة الإعتذار هي خاصية أهل المدن والحضر، والشعوب الراقية، وهي لاتمس البته الأعراب والبعثيين، فمن لم يعتذر عن ملايين الضحايا وعن سرقة ستمائة مليار دولار من خزينة العراق، فأي عتب عليه، وتنطبق عليهم مطلع أغنية ستينية تقول (ولك لو تسوه العتب جا عاتبيتك)، والبعثيين لاعتاب يستاهلوه، سوى قصاص قسطاسي منا في الدنيا و من الله في الآخرة، وليفهم طالباني الحاذق بأن لو كان برقبته دين للبعثيين يريد الإفتكاك من وقعه على ضميره المرهف فليفعله بعيدا عنا، فأننا عليه وعليهم دين حتى يوم الدين، والأيام بيننا سجال.

د. علي ثويني
معمار وباحث-السويد

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف