أصداء

نبيل شرف الدين يبكى معنا...

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

عـائـد لـتـوى من القاهرة الى الصين بعد إجازة قصيرة ضاعفت ركام المرارة بداخلى وفاقمت أوجاعى. عائد الى الصين المشتعلة عملا وحيوية تبعث على الذهول. عائد من وطنى.. وأحر قلباه.. خمسة عشر يوما تركت فيها زوجتى وطفلتى التوأم "خمس سنوات" ببكين بعدما رفضن مشاركتى الإجازة. زوجتى وبناتى مصريات ويعشقن مصر بالمناسبة. خمسة عشر يوما كانت كافية لتنشيط ذاكرتى بأوجاع مزمنة علمنا الوطن منذ خمسينيات القرن الماضى أنها أمر طبيعى ينبغى أن نتعايش معه ونرضى به من قبيل الوطنية. أحسست بمصر منذ اللحظة التى بدأ فيها ضابط الجوازات الصينى ليو نانج يحدق خلال صفحات جواز سفرى الفولكلورى وهويبحث عن رقمه الذى إعتاد فى كل جوازات السفر ذات الحجم الواحد الستاندرد لكل بلاد الدنيا أن يلمحه بنظرة واحدة، لم يدر بخلده يوما أنه سيطالع جواز السفر الأخضر الكبير المكتوب بخط اليد الردىء، جواز سفر تعلن أولى صفحاته أن حامله أدى الخدمة العسكرية وليس مطلوبا من قبل أمن الدولة وأنه الفقير إبن الفقراء الذين مإنفكوا يقبعون بقرية من قرى المنصورة يدعون له كل صباح أن " يحبب الله فيه خلقه ويوسع فى رزقه "، ولأنى بخبرة السفر أعرف أين تكمن المشكلة،أنقذت ضابط الجوازات من حيرته وأشرت له بإصبعى على رقم الجواز الموجود بصفحة أخرى غير صفحة الصورة التى يبحث فيها، ولمزيد من الغموض فإن عبارة" رقم الجواز" مكتوبة باللغة الفرنسية وليس الإنجليزية،إتسعت دهشة الضابط الباسم وهو يعقب باللغة الصينية : أوه.. أى جى !! والكلمة تعنى : ياللعجب... مصر !! فالرجل كانت بلاده حتى الخمسينيات ترى مصر نموذجا تسعى الصين الى إستلهامه ولم يتخيل أن يكون جواز سفر رعاياها بهذا الشكل المتدنى. تبادلنا ضحكات سريعة وهو يحاول بإنجليزية ركيكة أن يشرح لى كيف أنه شاهد فى التلفزيون الصينى وهو صغير مسلسلا عن حياة مفكر مصرى كفيف، كان يقصد مسلسل الأيام للنجم أحمد زكى عن حياة العظيم طه حسين. هو المسلسل المصرى الوحيد الذى عرضه التلفزيون الصينى ويتذكره الصينيون دائما عندما يتحدثون عن مصر.

خمسة عشر يوما كانت كافية لشحن بطارية الهوان والخضوع بداخلى بداية من موظف الجمارك الذى هالة كونى قادما من الصين فقام بعمل " فرش متاع " لحقائبى بحثا عن خبيئة ربما تكون جهاز dvd أو كاميرا ديجتال أو أى من "الممنوعات" الشهيرة التى يحملها غالبا العاملون والمدرسون بالخارج لأولادهم بعد سنوات العرق تحت سوط الكفيل الخليجى. لم يعثر مفتش الجمارك الهمام إلا على هدايا بسيطة لبسطاء يلهج لسانهم بالدعاء ليل نهار للغائب فى أخر بلاد المسلمين والبوذيين. أخلى موظف الجمارك سبيلى وتركنى أجمع أشلاء الحقيبة وأحاول إغلاقها بلا فائدة. قبلها تجاوزت ضابط الجوازات المتجهم، وفى الممر لاحقنى صغار درجات الشرطة والعمال وعاملات النظافة المنتفخات بعبارة واحدة : " حمدالله عا السلامه ياباشا " والترجمة المهذبة لها " أين البقشيش ؟"

أصل الى شقتى بمدينة العبور بضواحى القاهرة لأجد ورقة ملصقة على بابها تفيد بأنه سيتم مصادرة الشقة...! نعم مصادرة، لأن الشقة تتمتع بقرض حكومى وهى غير مسكونة، أزعم أن الحكومة لم تجروء على التفوه بلفظ مصادره فى وجه لصوص قروض المليارات المهربة للخارج وهى تسترضيهم وتحاول التصالح معهم.أدخل شقتى المائة متر لأجد الكهرباء مقطوعة وكذلك الماء، ألقى بحقائبى وأهرع بملابس السفر الى جهاز المدينة ( الجهة الحكومية المشرفة على المدينة ) حاملا معى مايثبت ملكيتى وسدادى للأقساط فى موعدها بل ولعام مقدما وكذلك جواز سفرى الذى يثبت وجودى وأسرتى خارج البلاد، عبثا أحاول إقناع الموظف وأنا أقف مذعورا أمامه وهو يضع كاسيت على مكتبه يترامى منه صوت عمرو خالد وهو يبكى ويدعو وخلف المكتب عشرات الملصقات لأيات قرأنية وأحاديث وأوراد الصباح والمساء. أرسلنى الى مكتب رئيس الجهاز بمبنى أخر عرفته من السيارة الشيروكى التى تقف أمامه قالت سكرتارية مكتبه أنه فى إجتماع عدت الى جيش الموظفين بعدما أسعفتنى ذاكرتى بأدبيات التعامل مع مثل هذه النوعية من البشر بدءا من " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته " مرورا " ببارك الله فيك يا أخى وجعلها فى ميزان حسناتك " مع عدم نسيان إضافة لاحقه الى كل جمله أقولها مثل " بمشيئة الرحمن سبحانه وتعالى " أو الدعاء للموظف أو التعبير عن السماحة والإيمان الذين يشعان من وجهه ومن زبيبة الصلاة. أفلحت محاولاتى وطلب منى أن أكتب تعهدا جامعا مانعا بأنى فلان الفلانى القاطن بالعقار رقم... أقسم أننى متواجد خارج البلاد وأننى أسكن بالشقه محل البحث، سألنى عن العنوان فقلت حى الشباب بشارع مدرسة القديس يوسف، إنتفض من مكانه وقال: لقد أسمينا جميع شوارع المدينة بالإرقام ؛ شارع 7..شاع 17 وهكذا عدا هذا الشارع هو الوحيد الذى أسميناه شارع عمر بن الخطاب بعدما لاحظنا أن كثيرا من الأخوه يسمونه شارع مدرسة القديس يوسف مثلك. هللت لملاحظته الثمينة وغيرته على الإسلام وقلت الله أكبر.. أكثر الله من أمثالك اللهم أعز الإسلام يارب !!.أفلح النفاق الرخيص، ختم على ورقة وناولها لى وأنا أتنفس الصعداء لإستعادة شقة أولادى ووعدنى بإعادة الكهرباء والماء خلال يوم او يومين وكأن الأمر يحتاج هو الأخر الى بحث. بعد أسبوع من إستعارة الكهرباء من جارى المسيحى بسلك وفيشة، جاء مندوب الجهاز وعامل الكهرباء، شاهدوا الشقة وأثاثها المترب، شاهدوا ملابس أولادى ملقاة على أريكة منذ أخر مرة خلعوها قبل السفر، شاهدوا نتيجة الحائط وهى متوقفة على اليوم الذى غادرت فية وطنى، شاهدوا إنهزامى وغربتى فى بيتى وهم يباركون لى عودة الكهرباء وينتظرون منى أن أكافئهم ماديا وأدعو لهم.

فى الطريق الى المنصورة فى الحافلة المكيفة كما هى العادة تصدعت رأسى بشريط تغييبى فرضه السائق على الجميع لداعية من الدعاة الجدد صب من خلاله كل أمراضه النفسية وعقده الجنسية فى أذاننا على مدار ساعة ونصف الساعة ثم أتبعة بشريط قديم لكشك يشتم فية عبد الحليم حافظ وعفاف راضى.

فى مصلحة الشهر العقارى بإدارة مرور المنصورة ذاق أبى المسن - المتماثل للشفاء من متاعب العمود الفقرى - العذاب صنوفا ونحن نتنقل بين المكاتب الضيقة وننتظر ساعات فى مكان ضيق حار حشرنا فية، كل هذا كى أحرر له توكيلا ببيع سيارتى الصغيرة أثناء غيابى. تعاقب علينا الموظفون بساديتهم حتى إنتهى بنا الأمر الى رئيسة مكتب الشهر العقارى بمرور المنصورة التى لم نرى منها سوى عينين خلف سواد كامل، لم تحتمل تبرمى من كل هذا الإذلال وعقبت فى حدة بصوت عال " إحنا مش ناقصين فلسفة فارغة "

فى الصباح ذبح الباشكاتب رئيس تحرير الصحيفة الحكومية بسكينه المسموم الفنان والمثقف المبدع عبد العزيز مخيون. كان الباشكاتب يعرض بتشف وخسة لدقائق الحادث الذى تعرض له الفنان عبد العزيز مخيون والذى قد يتعرض له أى إنسان، مارس رئيس التحرير- الذى يزعم أنه "بالحق يقول" فى جريدة دينية من مطبوعات مؤسسته- كل أحقاده وغله فى شخص مثقف كعبد العزيز مخيون لمجرد أنه عضو بحركة "كفاية "نسى الكاتب كل تراث الإسلام الذى تتغنى به مطبوعته الدينية عن الستر وستر المؤمن ومداراة عورات المسلمين أحسبه يظن أن عبد العزيز مخيون هندوسيا أو بوذيا.

خمسة عشر يوما كانت كافية كى يبكى الواحد لأجل الملايين المسحوقة بالوعود منذ عام 1952، حين كانت كوريا تأكل ورق الشجر وتتحارب، حين كانت ماليزيا مستنقعات يعشش فيها التخلف، حين كانت الصين ترتدى البزات الزرقاء الكاكى وتوزع الطعام على مواطنيها بالكوبون، حين كانت أسبانيا تعيش حربا أهلية ويجثم على صدرها الديكتاتور فرانكو، حين كانت اليونان متدهورة ويسافر مواطنوها ليعملوا فى مقاهى مصر ومحلات بقالتها. أين هذه الدول الأن وأين نحن..!!!؟. خمسة عشر يوما كانت كافية لأن يبكى الواحد على نفسه وهو ينهزم يوميا أمام سوط الحكومة والإهانة والإذلال والقهر. خمسة عشر يوما كانت كافية لأن ترى مصر الغاضبة المتعصبة المنقبة المغيبة المتراجعة. لن ترى مصر الجميلة التى كنا نراها فى الأفلام الأبيض والأسود، لن ترى مصر الناهضة التى حلم بها الأوربى محمد على أو الخديو إسماعيل، لن ترى مصر التى صرخ فيها طه حسين ضد الخرافة والتغييب وعندما حاصره الرجعيون فوجد قضاءا متحضرا ينصفه وليس قضاءا تتسنمه الأصولية بارك قتل المفكر فرج فوده ودفع بنصر حامد أبو زيد الى الفرار بعقله الى هولندا. لن ترى مصر المتسامحة التى رسم بنوها الهلال والصليب على علم واحد حتى كتبوا دستورا لم ترى دولة ناهضة مثيلا له فى شموله وهو دستور 1923. لن ترى مصر المنفتحة الفتية التى إتسعت لكل الثقافات وإستمعت الى كل الألحان.

لن ترى مصر التى رأها الأستاذ الكاتب الكبير عبد الرحمن الراشد فى مقاله الخميس 16يونيو (حزيران ) بجريدة الشرق الأوسط. الكاتب المبدع نبيل شرف الدين أحد المرضى بحب مصر لم يطق صبرا وعلق على مقال عبد الرحمن الراشد، نزف نبيل شرف الدين أوجاعنا جميعا وهو يعقب على مقال الأستاذ عبد الرحمن، نبيل شرف الدين كان يحترق وهو يرد على المقال. نبيل شرف الدين كان جريحا ينزف يصر الأستاذ الراشد على أنه بخير وجاهز لمباراة فى المصارعة غدا. تحدث أستاذنا الراشد عن قاهرة غريبة لانعرفها نحن الصراصير المذعورة التى تلاحقنا " شباشب " الحكومة أنى رحنا حتى نعود الى بلاعاتنا الوثيرة بسلام. تحدث الراشد عن قاهرة تحتفى به وتستقبله فى فنادقها الفاخرة وتريه ليلها النيلى الساحر، تحدث عن طبقة متوسطة لاوجود لها وإن وجدت فهى مغيبة ومسحوقة بسيف القهر والفساد والتغييب الدينى والأخلاق القشرية والإعلام السطحى التافه. الطبقة المتوسطة التى كانت تجلس فى الصفوف الأولى لحفلات أم كلثوم فى وقار يعبر عن خلفياتها الثقافية إندثرت وحل محلها أغنياء الحرب وأثرياء الفساد.

كنت أهتف خلف نبيل شرف الدين وأتمنى لو كتب الأستاذ الراشد عن المسحوقين الذين يقفون فى طوابير غسيل الكلى التى أفسدتها مياه الحكومة فى دلتا مصرالقابعة بين فرعين للنيل السعيد، كنت أتمنى أن يكتب الأستاذ الراشد عن أقسام الشرطة ومايحدث فيها عندما تدخلها مواطنا شريفا وتخرج منها إرهابيا تحت التمرين، كنت أتمنى أن يكتب الأستاذ الراشد عن بلطجية الشوارع والمواصلات الذين يتحرشون بكل جميل وطيب فى هذا البلد، أجهزة الشرطة قد تطارد ولدا وبنتا يجلسان على كورنيش النيل فى النور أمام المجتمع وتأخذهما الى قسم الشرطة حيث يتحرشون بالبنت ويتركون ألف بلطجى يمرحون فى شارع من الشوارع، حدث هذا ويحدث كل يوم. كنت أتمنى أن يكتب الأستاذ الراشد عن إهانة المواطن وإذلال كرامته كلما كانت له حاجة فى مصلحة حكومية أو دائره سنية، عبد الرحمن الراشد لم يرى القاهرة الحقيقية وعذاباتها، لم يشاهد بعينه التحرش بغير المحجبات مسلمات ومسيحيات، لم يسمع عن دروس المنقبات فى عربة السيدات بمترو الأنفاق وسب وإهانة غير المحجبات والدعاء الجماعى عليهن، لم يستسلم صاغرا لميكرفون ألف وات معلق فى شرفة منزله ضمن ستة ميكروفونات أخرى فى شرفات مجاورة بأمر واعظ غاضب من كل شىء ناقم على كل شىء يريد أن يتجرع الجميع ترهاته وصوته الأجش صباح مساء بمسجد حى الشباب بمدينة العبور المصرية، لم يقف فى طوابير الخبز لأجل أطفاله، لم يجرب أن يكون أبا لأربعة شباب أنفق عليهم عمره ليتخرجوا من كليات القمة ويجلسون لسنوات على المقاهى أو تتخطفهم الدروشة والتطرف والكراهية لأنه لايملك واسطة. لم يرى شبابا يبتلعهم الموج فى البحر الأبيض المتوسط فى رحلة الهروب الى أوربا، لم يسمع عن شاب متفوق بإمتياز إنتحر لان موظفة كانت تتناول إفطارها فى جهاز التمثيل الدبلوماسى التجارى قالت له طلبك مرفوض لأن والدك مجرد عامل بالمصانع الحربية والتمثيل التجارى لايقبل إلا" أولاد الناس" أستاذنا عبد الرحمن لايعرف أنه فى مصر المذيعة لابد أن تكون بنت مذيعة والطبيب إبن طبيب والقاضى من سلسال قضاة وضابط الشرطة إبن ضابط، وأستاذ الجامعة أبنه بالضرورة أستاذ بعد سنوات معدودة، ووفق نفس النظرية فالبسطاء يورثون الأبناء فقرهم وإنسحاقهم.

نبيل شرف الدين لم يكن يرد على مقال الراشد، كان يصرخ فى مرارة مثلنا جميعا، صديقى الذى لم أقابله قط وأعرفه منذ كان يكتب فى مطبوعه من مطبوعات الأهرام أظنها الأهرام العربى فى باب عن الكومبيوتر صرخ نيابة عنا وصحح المانيفست السياحى الممهور بتوقيع الراشد فى جريدة الشرق الأوسط.

أستاذى المبدع عبد الرحمن الراشد أدعوك الى رحلة الى وطنى ووجعى وجرحى حتى ألقى الله مصر.أسبوع واحد ياسيدى تأكل فية طعامنا وتشرب ماءنا وتذهب معى فى رحلة بسيطة لإستخراج شهادات ميلاد لإبنتى أو تجديد رخصة قيادة أو العلاج فى مستشفى حكومى.. بشرط أن أكون أنا مرشدك السياحى أو الأستاذ نبيل شرف الدين.

دعوة للبكاء:

نكته قاله زميل دراستى يحمل ليسانس الأدب الإنجليزى ويعمل ماسح سيارات بمحطة خدمة السيارات موبيل بطريق القاهرة الدائرى، عندما باغته وجهى من سيارتى المتواضعة أسأله أن يمون سيارتى. تبادلنا تظرات طويلة صامتة قبل أن يندفع كلانا فى عناق طويل ونحن نبكى، أقسم بالله العظيم، أقسم بوطنى الذى أعشق حتى حتى طيوره أننى حتى هذه اللحظة لاأعرف مالذى دعانا الى التشارك فى هذا البكاء المرير، أما النكته فهى:

" من كثرة الذين يبرزون لى من سياراتهم المكيفة ويبادروننى قبل السلام بعبارة " إنت ماتعرفش أنا مين " أو عبارة مباحث أمن الدولة" أخاف أن أموت وأحاسب وأدخل الجنة فيبرز لى أحدهم شاهرا بطاقته فى وجهى : قف مباحث أمن الجنة.. إنت ماتعرفش أنا مين "

نداء هام من نجيب محفوظ فى ثرثرته النيلية :

" يـا أى شىء : إفعل شيئا فقد طحننا اللا شىء "

كاتب ومواطن من مصر aymanalsimery@yahoo.com


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف