أصداء

الاسلام والكرد

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك


هل من هوية ثقافية للكرد اسلامياً؟

لا يمكن لأي متتبع لمصير الاسلام كدين وكمنظومة ثقافية متشكلة تاريخياً، في حضوره الكردي، أن يعطي إجابة قطعية عن أي سؤال، يخص علاقة الكرد بالاسلام أو علاقة الاسلام كممارسة وتاريخ بالكرد، طالما أن التحرك في أي اتجاه يواجه القارىء بالمرجعيات التاريخية وكيفية تدوينها وامضاءاتها ومدى تداولها سلباً أو إيجاباً!
ذلك من خلال الرجوع إلى الأدبيات العر بية في هذا المجال ورموزها من كتاب ومن يكونون في أصولهم الاجتماعية والأثنية، وحضور الكرد المتقطع تاريخياً، وما في ذلك من تساؤلات ومسوغات مختلفة.
بوسع أحدهم أن يقول: إن الاسلام لعب طوال عهد الكرد به دوراً سلبياً، لا بل وتخريبياً ويستعمل نعوتاً أقسى من ذلك، من خلال محاولة استئصال كل ما له علاقة بثقافتهم التي تميزوا بها سابقاً، كما يتم التشديد عليها( نستحضر الزرادشتية على الأقل هنا)، أي أن الاسلام، وبوصفه ديانة، العرب يكونون حملة رايتها وأولي أمرها، وهم مُخاطبون ومعنيون بها وبلغتهم بدايةً، كان سبباً - ومازال- في تشويه هوية الكرد، ومحاولة نفيها بطرق شتى، وكأن الكردي غير ممكن التعريف به والتعرُّف عليه خارج دائرة الانتماء الاسلامية هذه، كأن الأديان الأخرى ليس للكرد حضور فيها، كما هم الشعوب التي عاشوا معها أو فيما بينها، أو تعايشوا فيما بينهم بطرق مختلفة.
وبوسع سواه أن يقول: لم يسع الاسلام، ومن خلال ممثليه، من العرب بداية، وعيرهم فيما بعد، إلى محو كل ما له صلة بالكرد كهوية، طالما أن الكرد استمروا تاريخياً، ولو بشكل متقطع، ولازالوا مستمرين، ومن خلال الاسلام نفسه بمعان شتى، والاسلام ليس خارج الهوية الثقافية للكرد‍.
واقعاً، يمكن أن نجد انقساماً كردياً كردياً، حيث لكل فريق حججه ومسوّغاته الثقافية بالذات، حتى في إبراز الهوية، من خلال علامات فارقة، ليكون الاسلام مرغوباً فيه، أو عنه، للسبب السالف الذكر.
على الصعيد التاريخي، تكون الحقيقة كتنوع مفاهيمي، خارج التصنيف الطرفي المذكور، إذ يمكن إيجاد الاسلام السلبي والاسلام الإيجابي، كما يوصف هنا وهناك، فالأمثلة كثيرة، والتاريخ مديد وحافل بالأمثلة هذه، أو بالوسع ملاحظة التعارض داخل كل اعتبار، من خلال التحصن بأمثلة، وكأنها الوحيدة، وثمة ما يخالفها بجوارها.
بالنسبة للاسلام، وما مثَّله من خطر قادم من الخارج،أو ما جسَّده من تهديد للكرد هوية ًوانتماء ثقافياً ومكانة، يمكن القول توضيحاً، أن هذا لا ينطبق على الكرد وحدهم، وإن كان هناك تأثير مضاعف بخصوص العلاقة تلك، ولم يكن الاسلام كدين فقط هو العامل الوحيد الأوحد، إنما ثمة عوامل أخرى داخلية وخارجية، لا مجال لذكرها الآن، فالفرس بالمقابل والترك كذلك، وحتى المغول الذين جاؤوا( وثنيين) كما يقال، صاروا أو صيروا مسلمين في الكثير منهم، وهذا ينطبق على كل دين، لحظة ظهوره، وعلى مختلف الشعوب، وموقفها منه تاريخياً، مثلما ينطبق على المسيحية كديانة كونية بدورها، وانتشارها بطرق مختلفة، كانت ممارسة القوة سبيلاً داعماً لها.
الفرس ينافسون العرب بوصفهم( جيش الاسلام) في دينهم، ويقدمون أنفسهم باعتبارهم لأكثر تمثيلاً للاسلام، دون إغفال البعد الثقافي الخاص بهم، والمنحى السياسي في الممارسة اليومية، ويبدو الاسلام العلامة الفارقة ثقافياً لهم، ومن خلالها تتعزز هويتهم، كما لو أن الهوية الفارسية تساوي الاسلام الذي يتصورونه، والترك، بدورهم هم هكذا، رغم كل مظاهر الحداثة الممدينة، والمعلمنة راهناً، لا يخفون اسلامهم، وللسياسة دور لافت في العلاقة تلك، إنما المهم هنا، هو خطورة النظر إلى الدين، والاسلام كنموذج هنا، كما لو أنه أحادي القيمة والمعيار.
من حق الكرد، ودون استثناء، وبسبب معاناتهم ممَّن مثلوا الاسلام، واستعبدوهم طويلاً، وسعوا كذلك، إلى احتوائهم وتبديد قواهم وشملهم والتفريق فيما بينهم اجتماعياً وسياسياً وجغرافياً وثقافياً هنا وباسم الدين، وهم يعيشون بين ظهرانيهم، أن يصرّحوا بطبيعة معاناتهم هذه، ويحتدُّوا لهذا السبب، غير أن الموضوع أوسع وأعقد مما تقدم، فالاسلام كمفهوم ثقافي، يتجاوز ما هو مؤطَّر فيه، كما هو مطروح كردياً الآن خصوصاً.
لدي مثالان بسيطان، وإن شئتم ثلاثة، وعند الضرورة أكثر من ثلاثة:
في هولير( أربيل)، ووفق أحدث إحصائية، خاصة بالتعليم، تبيَّن أن الكثير من طلاب المدارس والجامعات فيها، لم يعودوا يهتمون بالعربية، إنهم يفضلون الانكليزية عليها، والموقف تاريخي وثقافي، وله علاقة مباشرة بالدين أيضاً كممارسة وثمة من أفصح عن مخاوفه من توجهات كهذه، وتأثيرها على المحيط الاجتماعي لاحقاً ( كما جاء ذلك في موقع عفرين. نت، يوم 27/ 5/2005)، ولكن الذين أفصحوا عن مواقفهم بالطريقة تلك، هل تخلوا فعلاً عن الاسلام كسلوك وكثقافة ضمنية، وهل بإمكانهم زعم ذلك بسهولة، وذلك في إطار العلاقات الاجتماعية ( في الزواج والأعراف الأخرى، ومشهديات الموت)، والثقافة كتصور لما هو كوني وكينوني ولو لاشعورياً؟ الاسلام ليس لغة فقط، ليتم تناسيه أو غض النظر عنه، بالسهولة المتصورة‍.
لكن بالمقابل، يمكن تصور البعد الكارثي لتراكم المؤثرالاسلامي القاعدي والسلطوي تاريخياً، والذي أدى إلى مواقف رد فعلية، كالتي نحن بصددها، ومغزى تقبل ثقافة أخرى بلغة، هم حديثو العهد بها، ليست حيادية أيضاً.
إن الهبّة الشعورية في مجملها، لا تشكل لسان حال أهبة الاستعداد الثقافية العامة، في المجالات كافة.
وفي كردستان الشمالية، لازال الاسلام المتشدد: التعبدي، والطقوسي، والتصوفي، بكامل أهليته الشعبوية خاصة، لدى نسبة كبيرة من الكرد. وماعلاقتهم بممثلي الأحزاب ذات الطابع الديني في تركياً وبالمشايخ خارجاً، إلا تأكيداً، على أن الموضوع متجاوز لكل تأطير معتقدي أو ايديولوجي.
إن الرهان على اللغة وحدها، تزييف لحقيقة اللغة، وللموقف منها، كون اللغة عندما تُطرد بالطريقة هذه، من الباب، سرعان ما تدخل من الشباك، اعتماداً على تاريخ تجسدته في لاشعور جمعي كما ذكرنا، ولأن المشاهد اليومية تؤكد ذلك، كما في عشرات الجوامع المنتشرة في المدن الكردية، كهولير وغيرها.
في مثال ثالث، أكثر طرافة ومأسوية، وعلى خلفية اختطاف الشيخ محمد معشوق الخزنوي وتصفيته الجسدية في 1حزيران، 2005، برز الشارع السياسي والحزبي الكردي، في مظهر جلي من مظاهره، مأخوذاً بحميّا الدين، من خلال تدفق أو مسيرة آلاف الكرد في قامشلو، في 5 من الشهر نفسه، وهم يطالبون السلطة السورية، ومن يمثلهافعلياً، بضرورة محاسبةخاطفيه وقتلته. ومهما يُتردد عن الشيخ من انفتاح وتنوير، إلا أنه يظل رجل دين، كما يقال، والذين تظاهروا سلمياً لأجله، وكتبوا الكثير دفاعاً عنه، يكون الكثير منهم على طرفي نقيض له واقعاً، في تفكيره في سلوكهم الفكري، أو طبيعة تفكيرهم، بخصوص الموقف من الاسلام بالذات، وهذا يعني بالتالي، أن الاسلام هو أوسع مما يقال أو يشاع عنه.
في الحالة هذه، يمكننا طرح السؤال التالي، وهو : هل من هوية ثقافية اسلامياً؟ ويمكن صياغة السؤال بطريقة أخرى: هل يمكن للكرد أن يتخلوا عن الاسلام، وبأي معنى، وبصورة خاصة في ضوء مستجدات العولمة وتحدياتها السافرة والمخفية؟
لأتحدث لاحقاً، بضمير المتكلم المفرد، بوصفي باحثاً، معنياً بالتاريخ العربي الاسلامي، ومن منظور انتروبولوجي، وألَّفت العديد من الكتب في هذا المنحى، إضافة إلى كتب تتعلق بالقضية الكردية، ولأفصح عن كرديتي منذ البداية، لتكون المسؤولية أكثر تمايزاً، خصوصاً وأن الموضوع ينبني على قاعدة حوارية إشكالية في الصميم، هي : الهوية الثقافية الاسلامية، بمفهومها المركب كردياً.
كيف يتم طرح الهوية الثقافية كردياً؟
مما يؤسف له، هو أن لعبة الثنائيات تقود غالبية الحوارات، أو السجالات المعتبرة فكرية، تلك التي تخص كيفية فهم الكردي لهويته، وتعدد أبعادها بتأثيرمن العولمة بالذات، وضمناً لتاريخه، ولثقافته التي بها يتلمس كينونته، لكأن الهوية هي أن تقرر، وتقر بما يُعتبر حقيقة، وهذه تكون الحقيقة ذاتها. الهوية أبعد من كونها مجموعة بيانات، علامات فارقة، ثمة تاريخ حافل بالتناقضات، بالصراع بين مفهوم وآخر، داخل الهوية نفسها، والثقافة تشير إليها، فالكردي الذي يرفض الاسلام ديناً اعتبارياً له، وهو يعيش بعيداً عن ( دياره)، حيث يتقن لغة أجنبية أو أكثر، وربما يكتسب سلوكات مختلفة بالمقابل، تبقى هناك تصورات وأنماط تفكير وعادات، إضافة إلى ذاكرة تاريخية، تشده إليها، أعني تبقي الاسلام داخله، بوصفه( أي الاسلام) أكثر من كونه : اللغة العربية، وفرائض الاسلام، ولحظة دراسته لتاريخه، حيث يجد نفسه عدمياً بالمعنى السلبي، إن حاول دراسة تاريخه المحدَّد به، أي أن الاسلام، بنيان ثقافي متجذر في ذاكرته التاريخية، أو الدائرة الثقافية التي يتحرك داخلها تاريخياً.
إن كل تحديد مفهومي للاسلام، بوصفه: هذا أو ذاك، وكأنه ممثَّل به، يفصح عن شخصيته، وفي بعض جوانبها، فما أن يتم التعرض للهوية وكيفية تشكلها ثقافياً، وبوصفه كردياً، حتى يجد نفسه إزاء تناقضات جمة.
فلنتحدث في هذا الحيّز المرسوم، وعلي هنا، أن أسمي التناقضات تلك، وهل هي تناقضات حقاً أم ماذا؟

عقدة الكردي التاريخية: من جهة النسب
أغلب الكرد لهم موقف سلبي من تاريخهم، من أولئك الذين لعبوا أدواراً تاريخية متعددة في النيل منهم بطرق متعددة، حيث انعكس ذلك على نظرتهم إلى أنفسهم، وإلى التاريخ ذاته، وكيف يتم تدوينه، وهذا جلي من خلال استمرارهم في التاريخ، بوصفهم الشعب الأبرز المنزوع التاريخ، أو على الأقل: الشعب الذي لم يكتب تاريخه، وإنما الآخرون ممن تحكموا به هم الذين كتبوا تاريخه، وقد توارى داخل تاريخ سواهم.
هذه النظرة ثقافية تخص الذي يعاني من عقدة حضوره المستديم في التاريخ، بعيداً عن تاريخ خاص به، وبالتالي، تكون هويته في طابعها الثقافي أكثر ما تكون، منقسمة على نفسها.
فمن جهة يعطي الاستمرار في التاريخ طابعاً من البقاء والقدرة على تحدي الذات، وحتى التمايز، وذلك من خلال إبراز مقوّمات سلوكية وذاتية واجتماعية وثقافية جامعة، تكون سبباً لاستمرارهم المذكور، وهوية معينة.
ومن جهة ثانية، يعطي الاستمرار ذاك، دون وجود دولة ضامنة للهوية بمفهومها القومي المحض، انقساماً في الداخل، حيث غياب سقف تاريخي، يعني التعرض لشتات أقوامي ولأنواء التاريخ، والتذرر التاريخي جغرافياً.
إنها عقدة ثقافية في المقام الأول، تتوضع في مكان وزمان معلومين، متماسكين متداخلين، ثقافة مشفوعة بحراك سياسي، أمني، ووقائي، يتكفل لصاحبها بضمان حرية التعبير عن الذات، بوجود لغة، وسلطة قاعدية لها حدودها المحروسة، وبالتالي، بروز تاريخ متعدد الأبعاد ثقافياً: في الأدب والفن والفكر والعلوم المختلفة، عدا عن الفولكلور المفصح عن مجمل نتاجاته أو مخلفاته أو موروثاته الشعبية: من أمثال وأزياء ورقصات وطقوس وشعائر مستعادة دورياً.
العرب حاضرون بقوة في هذا المنحى، بوصفهم مميَّزين أكثر، بتاريخ وثقافة أو هوية حفظها تاريخ طويل ارتبط بالدين( الاسلام نموذجاً) ولغة لها دور فاعل في بروزهم تاريخياً، وبالقوة المشرّعة لهم في الكثير من النصوص الدينية، والقرآن هو الكتاب المرجع في ذلك، ثم تأتي السنة من حيث الأهمية، وجاءت الأنساب على خلفية دينية ومعتقدية وثقافية، لتجذّر العرب تاريخياً، وفق روايات متعددة، تمثلت في النسابين والمؤرخين، ويمكن للمعني مراجعة ( المسعودي: ت 336ه)، وكيفية تناوله لهذا الجانب.
فالكرد تشكلوا وفق منظور ثقافي خاص، من قبل المسعودي المرجع الرئيس هنا، حيث عرّف بهم : من أرومة عربية، أو إنسية- جنية هجينة، أو ميثولوجية خرافية، يقف وراءها الشيطان والحية.. الخ.
ثمة موقف سلبي مركب في هذا المنحى، فمن جهة يرد الكتاب الكرد، أو المعنيون بتاريخهم على هذه الوقائع المدوَّنة، كما لو أنها تاريخية بالفعل، فتكون ردود أفعالهم قوية، لا تخلوا من تشنج، ومن جهة ثانية، بدلاً من معرفة البنية الذهنية الموجِدة لتوليفات كالتي ذكرناها، يبدأون بالمساجلة، أي نفي ما يقال فيهم، وتثبيت ما يقال في من يساجلونهم، حيث التاريخ من منظور ثقافي، هو في حقيقة أمره لا تكافؤ وجوهه، بوصفه حقائق متعارضة، أو وجوه الحقيقة الواحدة وقد تداخلت، وها هم يسعون إلى إثبات أقدميتهم التاريخية وغنى ثقافتهم تاريخياً من خلال الرجوع إلى زرادشت على الأقل، كدين معتَّق أو مخضرم تاريخياً، كرد فعل مضاعف بدوره، على الاسلام، بوصف الاسلام الدين اللاحق، وعلى العرب كمثال، باعتبارهم أخذوا الكثير من مقومات دينهم ومعتقداتهم من الآخرين: الزرادشتية، وعبر المجوس بالذات، كون المجوس ذوي الصيت السيء اسلامياً، كانوا ممثلي ثقافة تنويرية في يوم ما، الزرادشتية تشكل هنا الحنين الأسطوري إلى ما هو متخيَّل أكثر عن الأمة الواحدة، والشعب الهانىء بما يميزه.
ومن ناحية آخرى، نجد أن العرب أنفسهم، حتى الآن، يراهنون على تاريخ أو على منظومة قيمية نَسَبية وحتى ثقافية، انطلاقاً من التوراة بالذات، كما نقرأ ذلك عند ( الطبري، المسعودي، ابن الأثير...الخ) وحتى في نصوص حديثة( جواد علي مثلاَ) ومعاصرة( فاضل الربيعي، في كتابه الضخم عن الأنساب)، ما يهم هنا، هو كيفية دعم الهوية الذاتية على مستوى شعب بكامله، عبر تنوع ثقافي، حيث لا شعب بمنأى عن التعددية الثقافية، وتنوعه أثنياً في الصميم، في عصور التاريخ المختلفة، كنتاج تجاوري وعزواتي وخطفي ضمناً.. الخ.
ثمة محاولات لوعي الهوية الثقافية كردياً، ولكن بنوع من الهجانة، والتأثر بمردود اسلامي قيمياً:
أشير هنا بداية إلى شرف خان البدليسي: المؤرخ الحاكم أو الحاكم المؤرخ( صاحب إمارة بدليس)، وقبل أربعة قرون، حيث شدد على الكرد بوصفهم متميزين بالشجاعة والتنافر والتناحرمعاً، ومن جهة النسب حاول ربطهم بشخصية ملفقة تاريخياً، عرّف الكرد بها منذ بدايات ظهور الاسلام، أعني( بغدوز) القبيح الشكل، أو ربطهم بأصول أنصاف بشرية ومن خارج الكرد، بتأثير من الاسلام وثقافته المتداولة في طابعها السلطوي.
وثمة كاتب آخر كردي سنندجي( في الجوار الفارسي راهناً)، هو ( علي أكبر وقائع نكار ت 1317ه)، الذي يلتقي من ناحية بالبدليسي، في الموقف من الكرد، ويشدد بدوره على ربط الكرد بأصول عربية يمانية نسابياً، ولا ينسى من ناحية أخرى أن يعزز موقفه السلبي منهم، بوصفهم مقابلين للجن، فكما أن هؤلاء استثناء من البشر عنده، كذلك الكردهم استثناء من الأمم.
وحديثاً لدينا المؤرخ محمد أمين زكي بك، في كتابه( خلاصة الكرد وكردستان)، في الثلث الأول من القرن العشريني الفارط، حيث يفصح عن افتخاره بالاسلام، رغم سرده الطويل عن الصراعات الدموية التي كان الكرد وقوداً لها،وعلى أرضهم.
هؤلاء يشكلون أمثلة حية على كيفية التفكير من منظور اسلامي، أو كرد فعل اسلامي المنشأ، أعني إبراز الكرد من منظور ثقافي اسلامي، كون الاسلام دخل كمؤثر قيمي في النسيج الاجتماعي والمعتقدي والعرفي الكردي على صعد مختلفة، كان اعتماد القوة مدخلاً بدايةً، ولم يعد بالامكان تجاوزه كما لو أن الإعلان عن ضرورة التجاوزله، نهاية لكل علاقة به.
لملمة التناقضات الكردية
ثمة توجُّه كردي أكثر بروزاً، عند الحديث عن الاسلام، وما يمثله من أفكار وتصورات ومعتقدات، وهو الذي يكشف في العمق عن مزيد من التناقضات التي تعرب عن سلوكية الكردي من الداخل حتى الآن، في الوقت الذي الذي تفرض عليه العولمة أكثر من قراءة سابرة وحذرة خشية الوقوع في فخ الهوية المموَّه، عبر البحث عن مسار مختلف كرد فعل على تاريخ مُعانى منه، ونشداناً لتاريخ غير مخطَّط له، كما يجب.
من ذلك، تأكيد الكردي على أنه كثيف الحضور في التاريخ العربي الاسلامي، سواء على الصعيد العملي ( الجهادي) أو على الصعيد الرمزي البطولي والكتابي، فمن ناحية ثمة فخار وافتخار كرديان، كلما تم التذكير بالاسلام، وكيف أن الكرد كانوا الجنود المجهولين في جيشه، أشير هنا إلى ( صلاح الدين الأيوبي ودولته)، وأنوّه بمغزى كتاب من نوع ( الأكراد يتامي المسلمين) لفهمي الشناوي، يضاف إلى ذلك: ابن كثير، وابن خلكان، والرصافي، والزهاوي، ومحمد كرد علي، وأحمد شوقي،... الخ، فهولاء عُرفوا بالبعد الاسلامي الجلي في تكوينهم التاريخي الثقافي، ولا يمكن للكردي أن يتجاهلهم، وهو يريد تأكيد وجوده تاريخياً، ومن ناحية ثانية، يمتعض الكثير من الكرد من الاسلام، وكل ما يتجسده ثقافياً، لأن ما يصبون إليه لم يتحقق، إلا أن ذلك لا يعدم نوعية العلاقة القوية، تلك التي تشدهم إلى الاسلام بالذات.
فالتخلي عن أربعة عشر قرناً على الأقل، كما لو أن ذلك ممكن، والافتخار بماكان عليه الكرد قبل ذلك، فعل انتحاري ليس إلا، وكأن محاولة ذلك قادرة على تأكيد خصوصية الهوية الثقافية للكرد أكثر.
وحتى في حال علم أدبي، ورمز ثقافي كردي كبير، هو أحمد خاني، قبل أكثر من ثلاثة قرون، وهو الذي يفتخر الكرد به كثيراً، تجسدت محاولته في الربط بين البعد الثقافي الديني الاسلامي، والكردي كشخصية اعتبارية، أي أن ملحمته الشعبية( مم وزين) ترفل بما هو اسلامي، والافصاح عن الكردية يأتي ضمناً.
وهذا يشمل علاقة الكرد بكل من السنة والشيعة، حيث أن ارتباط الكرد بالسنة( بالشافعية كنموذج)، وبالشيعة( في التقدير الكبير لعلي رمزاً وتاريخاً)، لا يمكن تجاهل الحمولة المعرفية، وجلاء القيمة الذاتية فيهما.
إذ بوسع الكرد أن ينافسوا بقية المسلمين في رمز من رموزهم التاريخية والاسلامية الطابع( صلاح الدين الأيوبي)، ويتباهوا به، وهم يرفضونه لأنه لم يحقق لهم ما تحقق لغيرهم عبر قادتهم في الجوار، وأن يؤكدوا حرصهم على الدين من منظور تمذهبي كما هم السنة، وكذلك، بوسعهم أن يؤكدوا سعة متخيلهم التاريخية، والبعد الوجداني، والمتمثلين في شخصية تاريخية مؤسطرة، هي شخصية( علي بن أبي طالب)، ليبرزوا تحركهم بين ماهو تاريخي متمترس تمذهبياً، وما هو حُلمي منشود، عبر الرهان على ( علي)، وهذا يمتد إلى المتغيّر المكاني والزماني والمجسّد في الجانب التصوفي الكردي الخاص اسلامياً، كما في كل من القادرية والنقشبندية، والمنحى المعتقدي والوظيفي لكل منهما في كرستان العراق بالذات.
فالحدود بين ما هو ديني اسلامي، وأثني:قومي محض، ممارسة إجرائية تصورية، تفنّدها وقائع التاريخ ذاتياً.
إن الحديث عن الاسلام كثقافة في الوسط الكردي، متشعب، لا يمكن لأي كردي مهما كان وزنه وموقفه من الاسلام كدين، حتى لو كان في أقصى أقاصي الأرض إنكار فعلها، لأن ثمة تاريخاً طويلاً من العلاقات، والتراكم القيمي للعلاقات تلك في متغيراتها، كون الكردي الرافض الكلي للاسلام، يلتقي بالكردي المراهن كلياً عليه.
لأن الرفض لا يعني شهادة حسن سلوك للكردي، وما يؤكد ذلك، هو تواجد آلاف الكرد في بقاع أوربا وغيرها، يحاولون تأكيد طلاقهم الشامل للاسلام، بوصفه العلامة الكبرى على إعاقتهم في بناء شخصيتهم التاريخية، ومنذ عشرات السنين، ورغم ذلك، فإن صراعاتهم الجانبية وتكتلاتهم السياساتية والتكتلية، وحتى على الصعيد الثقافي الدنيوي، في اضطراد، وبالمقابل، فإن الذين يراهنون على الاسلام، بوصفه الحل لمشاكلهم، ينطلقون من إرثه التاريخي المؤمثَل، مغيّبين مستجدات الواقع ومتحولاته.
صحيح أن الاسلام كثقافة تلبَّس الطابع الكردي، بما في ذلك من تجليات مشيخية وتصوفية ودروشية زهدية المصدر، تجاوباً مع المستجدات التي عرفها التاريخ الكردي، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال طريقة التفكير، والتعامل مع الأحداث، وفي مواجهة التحديات الخارجية وتلك اليومية الطارئة، وعلاقة كل ذلك بنوعية الحكم والمماسات السلطوية والتربية السياسية والاجتماعية للمرء، وتأكيد على الدور المركزي لرجل السلطة، السلطة كممارسة حُكمية نافذة، والسلطة كتجسيد حُكمي تربوي وعائلي مركزي.. الخ، ولكن الصحيح أيضاً هو أن التفكير هكذا، يكون برد فعل اسلامي بالمقابل، إن مارسنا التفكير إلى النهاية، فأن يحكم الكردي على الاسلام كسياسة، وكنمط تفكير، وكقيمة حياتية، أو كمنظومة ثقافية، وبوصفه الكردي، يكون هو ذاته النقيض لما يتفكره.
هذا يعني أن الهوية الثقافية للكردي في تنوع أبعادها، متعددة المصائر، بما أنها متعددة الأبعاد، وبالتالي، فإن الاسلام في الحد الأقصى هو مصير من المصائر التاريخية الفاعلة في الهوية الثقافية للكردي.
الكرد لا يكونون في عمومهم مسلمين، ولا يساوون الاسلام، كما لو أن مقاييس دقيقة تحسم العلاقة التقابلية هذه، مثلما أن الاسلام لايساوي الكرد كثقافة مفكَّر فيها ومعمول بها، الاسلام تنوع برموزه، والكرد تنوع في انتماءاتهم الاجتماعية والطائفية والدينية، ورغم ذلك ثمة تشابه فيما بينهم: في المعيشة والتفكير، وحتى الانتاج الأدبي أو المعرفي المحدود التأثير الثقافي والمتقارب نسبياً، سواء داخل الحدود الكردستانية أو خارجها.
وليست المظاهر المرئية للذين عبروا عن غضبهم لما آل إليه مصير الخزنوي حتى الآن، إلا أحد هذه الوجوه/ المصائر، فالذين شاركوا في مظاهر الغضب تلك، ضموا أطيافاً سياسية واجتماعياً وثقافية على غاية من التنوع، ولكن الخزنوي في الحالات جميعاً مهما كان تقييمه إيجابياً أو سلبياً، وفق مفهوم ( الخلاص) الرمزي كردياً، يكون من الداخل الاسلامي أيضاً،وربما تمت تصفيته لأنه حاول إضفاء كردي خاص على الاسلام، أي ينزع عنه المركزة المتداولة ايديولوجياً في المنطقة ذات الحضور الاسلامي التحشدي. أيعني أنه من الخطل بمكان النظر في الاسلام بوصفه ثقافة أحادية الجانب.
ويمكن المد بهذا المثال، أكثر من ذلك، أعني من جهة الحراك السياسي والاجتماعي المشيخي بالمعنى الضيق للكلمة لمجمل الأحزاب الكردية، وحتى الذين يعرّفون بأنفسهم علمانيين أو راديكاليين، خارج الدارة الدينية، بالوسع ملاحظة تلك( الرئة) الدينية: الاسلامية المصدر التي يتنفسون بهم، في تأكيد ذواتهم شفاهة وكتابة.
وأن يكون شعور الكردي بالغبن كلما تم التذكير بالتاريخ، والثقافة المتداولة اسلامياً، وطبيعة الأنظمة المتعاقبة في مجموعها، تلك التي حكمت كردستان، ولا زالت تبعثرها جغرافياً، وتبدد قوى الكردي سياسياً، وتجليه كائناً محتقناً بكل المقاييس، وتشخيص ما يسمى بالداء الوحيد الأوحد، بقوله: هذا هو السبب : الاسلام، كما هو مألوف لدى الكثيرين من رموزه والمعنيين به، وحتى العاديين أو العاميين غير المطلعين على الحراك الثقافي للاسلام ماضياً وحاضراً، وكأن تسميته بـ( العدو) كافية، لاستنهاض قواه، والدخول في العصر، لهو المظهر الأكثر مأسوية في سلوكه وتفكيره، والعائق الكبير الحائل دون وعي ما يتعرض له من عنف داخلاً وخارجاً.
وكأن الاسلام هو هو نفسه في أحادية زمنه، لتتم الإطاحة بحكمة التاريخ في تنوع وقائعه وحقائقه، وكأن الكرد في تمزقهم وشتاتهم استحداث اسلامي سياسي بالمقابل، وإن كان له دور تاريخي في ذلك، إنما يكون في جانب منه فقط.
إن اللحظة الأيوبية، إن جاز التعبير، علامة تغير اختلافية فارقة هنا، ويمكن للكردي أن يغيّر نمط حياته بتغيير نمط تفكيره، وهذا لا يحدث قط بجعل الاسلام العدو الأول، أو الرئيس الذي ينبغي التخلص منه، طالما أن ثمة ثقافة تمتد مئات السنين تتجذر في ذاكرته، وهي ثقافة يمكن تنويرها بالانفتاح على الثقافات الأخرى، ثقافة، يكون الكردي طرفاً في صنعها، مثلما كان طرفاً في إنشائها تاريخياً، وأن الاسلام، ليس هو الآخر، المطلوب نبذه، إنما هو بُعد من أبعاد شخصية الكردي، حتى لو ادعى التحلل منها كلياً، ولا بد من الاعتراف بالثقافة التي يدّعي محاربتها، وهي تتحرك داخله. ومن هنا، كما أرى يمكن البدء، أعني بدء التاريخ الفعلي للكردي ككائن تاريخي قديم ويريد الدخول في عالم الحداثة بامتياز، أعني عالم العولمة الرحب الأبعاد من جهة، والتيهي إن لم يتم اتقان فراءة متغيراتها المتسارعة من جهة أخرى.

ملاحظة: النص المنشور كان عبارة عن محاضرة ألقيت في كل من جامعة برلين الحرة( قسم الدراسات الشرقية) في 28/6-2005، وفي التشيك في المتحف الوطني في كل من براغ بتاريخ28/ وبلزن بتاريخ 30/6- 2005.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف