أصداء

أمريكـا في العراق.. الى أين؟

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك


حينما تسلم (فلاديمير لينين ) زمام الأمور في روسيا وأسس السلطة السوفيتية هناك بعد العام 1917، كان يحذر حزبه الشيوعي دائما مما كان يطلق عليه (نهايات السلطة-السائبة- والتي هي على تماس مع أفراد الشعب العاديين) وكان يقول بأنه لا يكفي بأن يكون الآلاف من الثوريين على قمة السلطة حتى يصلح المجتمع ويبرأ من أمراضه وإنما المهم كيف تتعامل نهايات هذه السلطة الهرمية في تماسها اليومي مع أفراد الشعب العاديين هنا يكمن معيار نجاح أو فشل هذه السلطة داخل المجتمع..
ونهايات السلطة في كل مجتمع هم يتمثلون برجل الشرطة العادية أو رجل المرور في الشارع أو غيرهم من أفراد القوات المسلحة والعاملين في الحكومة وعلى تماس مع مصالح المواطنين اليومية، وقد ألتفت الدول في الأحوال الاعتيادية الى ما تعتبره (المرآة) للبلد حيث أولت عناية خاصة لسائقي سيارات الأجرة المشتغلين على خطوط المطار وطريقة تعاملهم مع القادمين والزوار،حيث يترك ذلك التعامل بإيجابياته وسلبياته الأثر في نفس الزائر أو العائد للبلد والمغادر له كذلك..في العراق اليوم،ليس هناك من (الثوريين ) المتربعين على سدة الحكم بالتعريف اللينيني!! لهم امتدادتهم داخل المجتمع بشكل هرمي حتى تصل الى القاعدة المماسة والمواجهة للمواطن العراقي العادي، وإنما هناك وجود فاعل ومؤثر لأناس غرباء عن العراق ألا وهم المحتلون الأمريكان والبريطانيين ومن معهم ممن يطلقون عليهم بالقوات المتعددة الجنسيات،أما الذين نصبهم الأمريكان من (العراقيين) فهم يعيشون بحمايتهم وتحت حراستهم بما يسمونه بالمنطقة الخضراء حيث السفارتين الأمريكية والبريطانية ودور كبار (المسؤولين العراقيين)،ومن يخرج من هؤلاء صباحا للدوام في أية وزارة أو دائرة ينقل إليها تحت الحراسة الأمريكية ويعيدوه لمكانه بعد الدوام الرسمي ليبقى هناك ممنوعا من الخروج أو الدخول حتى اليوم التالي وهكذا..ومن واقع هذا الحال الشاذ والمرير يكون حديثنا مع الأمريكان وتصرفاتهم في محله..
لقد نبهت في مقالة سابقة نشرت في الصحيفة الإلكترونية (إيلاف) بعددها الرقم 1498 ليوم 28/6/2005،حول زيارة الدكتور الجعفري لواشنطن وقلت في فقرة منها بالنص ((..كان من المتوقع بأن يحمل الدكتور الجعفري الى واشنطن الهموم الحقيقية للشعب العراقي وما يعانيه هذا الشعب من ويلات حياتية يومية ساحقة يأتي في مقدمتها وعلى رأسها فقدان كامل للأمن سببه الأعمال الإرهابية من قبل جهات خارجية وافدة ومن قبل جهات داخلية عراقية يتلفع بعضا منها بالزي الحكومي الرسمي!! يتزامن مع هذا رعونة وطيش قوات الاحتلال التي تجبر المواطن العادي من خلال ممارساتها الوحشية على أن ينهض لمقاومتها ومقاتلتها حتى يسترد آدميته وكرامته كمواطن عراقي مما جعل دوائر العداء لقوات الاحتلال تزداد مساحتها يوميا..))..
ولم تمض أيام حتى تناقلت الأخبار بما تنقله يوميا عن سقوط العشرات من العراقيين ضحايا للسيارات المفخخة أو القصف الأمريكي العشوائي أو من أفعال عصابات الجريمة المنظمة،نقلت تلك الأنباء عملية قتل جبانة تعرض لها أحد العراقيين المعروفين في بغداد وأقصد هنا المرحوم المهندس المعماري المتقاعد (بسام البير) فقد كان المغدور أحد طلبة القسم المعماري في كلية الهندسة حينما كنت في بداية الستينات طالبا في قسم الكهرباء هناك، وقد توقفت مليا عما نقل من تفاصيل حول عملية الإغتيال تلك والتي نفذتها القوات الأمريكية بدم بارد ومن دون أي ضمير أو خجل، وتقول الرواية بأن المرحوم بسام البير كان يقود سيارته من طراز(بي أم دبليو) في طريقه لحلاقة شعره وتصادف أن أصبح بموازاة عربة عسكرية أمريكية كانت تسير بنفس الإتجاه وهنا بادر (النشامى الأمريكان المحررين!!) الى فتح النار عليه ومن دون سابق إنذار!!، وأصيب على الفور وأختل بطبيعة الحال مقود السيارة وتوقفت المركبة الأمريكية بعيدا وبادر أحد العراقيين الغيورين إليه ليفتح باب السيارة وليسمع من المرحوم بعض الكلمات التي تعرف بشخصه وليفارق الحياة بعدها، هنا ينزل أحد القتلة الأمريكان ويتقدم نحو السيارة ليخاطب هذا العراقي ويعبر له عن (أسفه!!) ويسلمه ورقة رسمية كي يذهب ذوو الضحية الى الدائرة الأمريكية المختصة ليستلموا مبلغ 2500 (ألفان وخمسمائة دولار لاغير) ثمن دم بسام البير!!، فما أرخص العراقي عندهم وهم الذين أجبروا حاكم ليبيا معمر القذافي على دفع مبلغ عشرة ملايين دولار لكل فرد من ضحايا الطائرة الأمريكية التي سقطت في (لوكربي) في أسكتلنده..
وهؤلاء المحتلون الغرباء لا يردعهم أي رادع في إيذاء البلد وأهله، فمن يجول في شوارع المدن العراقية وبهذا الجو الحار الجهنمي ويشعر بأن كل ما هو محيط به معاد له يأخذه الخوف والرعب الذي ينعكس على ما هو متوفر بيده من سلاح قاتل ينطلق على المقابل العراقي سواء كان شيخا أو امرأة أم شابا وطفلا،هذا المشهد الدموي جسده الأديب الفرنسي الجزائري المولد (ألبير كامو) في قصته المعروفة (الغريب) والتي حازت على جائزة (نوبل) للأدب العام 1957، إبان فترة الإحتلال الفرنسي للجزائر وإستعار الثورة التحررية الجزائرية،وخلاصتها أن جنديا من المستعمرين الفرنسيين كان يمر بالقرب من شجرة في يوم شديد الحر،رأى جزائريا نائما تحت الشجرة فما كان منه إلا أن تناول حجرا كبيرا ضرب فيه رأس الجزائري النائم وسحقه!!،وحينما مثل أمام القضاء برر جريمته الشنيعة تلك بأن الجو كان حارا وكان هو متضايق من تلك الحرارة وعندها تنتهي القصة!!،على هذه اللقطة والموقف فازت القصة على الجائزة العالمية،لأنها بينت بأن هذا المستعمر الغريب عن البلد والناس لا يربطه أي رابط إنساني أو تاريخي مع من يحيطون به من المواطنين لذلك غدوا في نظره وبالتالي بممارساته مشاريع قتل منها فوري ومنها ما هو مؤجل الى حين!!.وما يحدث في العراق اليوم ليس ببعيد عن (غريب) ألبير كامو ذاك!!.
وأنقل عن التلفزيون العراقي مشهدين عرضا يومي 15و16 تموز الجاري، يسرد التلفزيون بوقائع مصورة حملة دهم أمريكية لغرفة تجارة الموصل وهي دائرة حكومية،وتنتقل الكاميرا لنشاهد أية همجية تفعل فعلها من قبل هؤلاء الغرباء الذين يشكلون النهايات السائبة لأقوى جيش في عالم اليوم وقد قدم الى العراق ليفتح أبواب الحرية للعراقيين !!ويساعدهم على بناء الديمقراطية !!، ونرى كيف كسرت الأبواب لهذه الدائرة الخارجية منها والداخلية وجرى قلب الآثاث وتكسير الدواليب المحتوية على الأوراق الرسمية للتجار والعاملين وجرى العبث والتلف لها بما يضيع حقوق الناس ويدمر ما تبقى من مصالحهم بعد أن دمرت كل مفردات حياتهم كبشر أحرار..والمشهد الثاني كان يوم السادس عشر من تموز فقد رأينا دبابة أمريكية وقد صدمت بيتا في أحد الأحياء البغدادية وهدمت الحائط لتهرس رأس شاب كان نائما في البيت وقد ظهرت جثته في المنظر البشع ذلك وغابت عنه ملامح الوجه الآدمي !!.
والقارئ الكريم يستطيع أن يسرد العشرات من القصص والمآسي اليومية التي تحدث في العراق،سواء من خلال المتابعة على القنوات الفضائية أو وسائل النشر الأخرى،لكن المهم هو الى أين يمكن أن تصل الأمور أمريكيا في العراق؟؟!.
من دون تفاؤل غير مبرر أو تشاؤم تتشكل له (البنية التحتية) بين أوساط الشعب العراقي كله،فإن المصير الأمريكي في العراق سيأخذ أحد متجهين هما..
أولا: هو ما حدث في كوبا إبان حكم الديكتاتور (باتيستا) والذي كان مدعوم أمريكيا للحد الذي حولت فيه أمريكا كوبا الى (ماخور) وكازينو للقمار، ودربت له جيشا قوامه خمسون ألف رجل مجهزين بأحدث الأسلحة الأمريكية إضافة للقاعدة الأمريكية الضخمة في (غوانتنامو) على الجزيرة،حيث ذاب ذلك الجيش بعد سنوات من القتال، أمام مجموعة الثوريين الذين نزلوا على الشاطئ الكوبي وهم بحدود التسعين رجلا!!،يقودهم الكوبي (فيديل كاسترو) والأرجنتيني (أرنستو تشي غيفارا) معلنين في بيانهم الأول بأنهم قادمون لتحقيق الثورة على (باتسيتا ) والفساد الذي يمثله وأن هدفهم هو حل الجيش الكوبي !! وتحقيق الإصلاح الزراعي،وهرب باتيستا الى الخارج ليلة رأس السنة للعام 1959 ودخل كاسترو المنتصر مع جيشه الثوري الذي ألتحق به عشرات الآلاف من الفلاحين الكوبيين خلال سنوات الثورة ولتتقلص أمريكا في كوبا وتنحشر في (غوانتنامو)،المعتقل العالمي السيء الصيت والسمعة هذه الأيام..
ثانيا:أن يعاد المسلسل الأمريكي الذي حدث في فيتنام (الجنوبية )، حينما تخلصت أمريكا من (نغودين دييم) بقتله عبر انقلاب عسكري نفذه الجيش الفيتنامي المؤتمر بأمرها في العاصمة (سايغون) العام 1963، وتتالت الإنقلابات العسكرية بما مجموعه خمسة انقلابات انتهت بإنتصار الشعب الفيتنامي ودخول الثوار الفيتكونغ الى سايغون العام 1975،وليتحقق شعار الزعيم الفيتنامي(هوشي منه) المتلخص بتحرير وتوحيد الفيتنام، وتهرب أمريكا مولية الأدبار تاركة على أرض الفيتنام ما قدر بخمسة بلايين من الدولارات أسلحة جديدة غير مستعملة !! وتأخذ من استطاع اللحاق بها من عملائها الفيتناميين الى الولايات المتحدة، وقد بقيت عقدة الهزيمة في فيتنام تفعل فعلها أمريكيا الى أن انتصرت في حرب استعادة الكويت من صدام حسين العام 1991 فيما يعرف بحرب الخليج الثانية..
حينما يظهر الجنرال الأمريكي (ريتشارد مايرز) رئيس هيئة الأركان المشتركة بأناقته المتميزة وبدلته العسكرية ونجومه ونياشينه وأنواط شجاعته، يعطي إنطباعا للمشاهد التلفزيوني بأن كل شيء على ما يرام وان الجيش الذي قائده بصورة هذا (الجنتلمان ) الأنيق هو الحامل بحق لرسالة التحضر والمدنية ليس فقط للعراق وأفغانستان وإنما لبقية شعوب الأرض !!،لكن تلك الصورة تبقى مزيفة وغير حقيقية فمن يتعامل مع جيش الغزاة في العراق وتصرفات جنوده يدرك يوما بعد آخر وساعة بعد أخرى مشروعية وجدوى مقاومة هذا الاحتلال والإصرار على إنهائه وإلا سينتهي العراق شعبا ووطنا، إنها مسألة حياة العراقيين وتحررهم مقابل دحر الاحتلال وعملائه ورحيلهم جميعا الى غير رجعة!!..


لنــدن في 25/7/2005
اسماعيل القادري

E-mail:ikadiri@blueyonder.co.uk

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف