الواقع السياسي للفيدرالية في العراق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
توطئة تاريخية:
نشأ العراق الحديث على أنقاض الدولة العثمانية التي كانت تدير ولاياتها بطريقة أقرب إلى اللامركزية، وإن كانت ولاية بغداد تشكل محوراً تتمركز حوله بشكلٍ أو آخر الولايات الثلاث التي شكلت العراق فيما بعد. ثم تأسست الدولة العراقية على أساس مركزي مطلق حيث لم تكن تمتلك مقومات الدولة الحديث بعد وكانت تقسيماتها الإدارية أضعف من أن تتولى شؤونها ولو بأضعف صورة من اللامركزية، ثم إن نظام الأقلية الذي تأسّس على أُسسٍ من الإضطهاد الطائفي والقومي لم يكن ليسمح بأيّ درجة من درجات الإنفتاح السياسي الذي يصاحبه قدر من الحرية السياسية، لذا أخذت الدولة العراقية وعبر عهودها المختلفة تتجه نحو المركزية المفرطة كلما تعاظمت دكتاتورية السلطة واستبداديتها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من "حكومة القرية" و "جمهورية الرعب" حيث تحولت الجمهورية إلى نظام البعث ثم إلى نظام صدام حسين.
المشكلة الكردية:
بدات الدولة العثمانية ( الاتراك و اليونان و الارمن اولا ثم العرب و من بعدهم الاكراد ) بالتاثر بالفكرة الدينية التي كانت تحكم الامبراطورية بعد " مرضها " و تفسخها و اخذت الدولة الاوروبية تشيع و تبثّ هذه الروح فيهم لتدمير الدولة العثمانية بتدمير الفكرة الدينية التي تقوم على أساسها، غير إنها - الدول الاوروبية- و بعد انهيار الدولة العثمانية تقاسمتها على اساس دول وطنية مجزئين بذلك القوميات التي وعدوها بالدولة القومية وفي مقدمتهم و العرب و الاكراد. و هكذا رُسِمَت "الدول" العربية و تلاشت أصلاً "الدولة الكردية" من على خرائط المشاريع السياسية التي كانت من نتائجها تشكيل الدولة العراقية الحديثة التي استلمها الضباط الشريفيون على أُسس الايديولوجية القومية العربية. و مع إن الكثير منهم كان من أصل كردي و مع ان تمثيل الاكراد في الحكومات المتعاقبة كان مقبولا إلا أن الدولة العراقية تأسست على اساس نفي الهوية الكردية و إلغائها بالكامل ضمن الاساس القومي العربي المتطرف الذي قامت عليه. ومن هنا بدأت المشكلة الكردية مع بداية الدولة العراقية و اندلعت ثورات تثبيت الهوية و تثبيت المصير من ايام البريطانيين و حتى انهيار هذه الدولة، و كانت ضراوة الاضطهاد القومي تشتدّ باطراد ليقابلها تشدّد و عَنَت في المطالب كلما جاء نظام جديد.
المشكلة الشيعية :
تأسست الدولة العراقية على أساس طائفي بحت بالصيغة التي وضعها الانكليز لحكم الاقلية حيث لم يحكم اي ملك او رئيس شيعي، و تدنت نسبتهم في رئاسة الوزراء الى اقل من 5%، و في الوزارات إلى أقل من 25%، و حرموا تماماً من الوزارات السيادية، و تشكّلت وزارات كاملة لم يُشرَك بها وزير شيعي واحد، و تشكلت وزارات كانت نسبة الطائفة اليهودية أعلى من نسبة مشاركتهم. و إمعاناً في اضطهادهم تمّت محاربة الهوية الشيعية أصلاً و لم يُعترَف بوجودهم كأكثرية و بدأت محاربتهم على أسسٍ طائفية بتشويه انتمائهم الوطني و نفي عروبتهم و الطعن في اصولهم ثم الغاء عراقيتهم مع إلغاء وجودهم الثقافي العريق الذي تشتدّ الحملة عليه و عليهم مع تعاقب الانظمة التي تزايد طغيانها و استبدادها. و استمرت مظاهر الاضطهاد من الطرد السياسي التام الى عدم الاعتراف بالاكثرية الى محاولات نفي العراقية الى الاهمال المتعمد لكافة مرافق الحياة و العمران في المناطق الشيعية الى تجاهلهم بل و محاربتهم في الاوقاف و القضاء و التعليم و الاعلام الى مصادرة حرياتهم السياسية ثم مصادرة حرياتهم الثقافية ثم محاربة شعائرهم الدينية و اغتيال شخصياتهم وقاداتهم وصولاً الى محاولة ابادتهم عام 1991.
و اذا كان الحكم قد قام على عدم الاعتراف بالهوية السياسية للاكراد و هم اقلية فانه قد قام على عدم الاعتراف بالوجود السياسي و الوجود الحضاري للشيعة و هم اكثرية، و اذا كانت الدولة قد صبّت بعض جهودها لاخماد الثورات الكردية فان الدولة قذ توجهت بكل ثقلها لنفي اي مظهر من مظاهر الوجود الشيعي فيها.
الفيدرالية الكردية :
مع تعاقب الانظمة المختلفة على الدولة العراقية تركّزت أهداف الاكراد بين الاستقلال الآني او الاستقلال المستقبلي مع إيجاد صيغة مباشرة شبه مستقلة للتعايش ضمن الدولة العراقية و تجسّد هذا الواقع في اتفاقية آذار 1970 للحكم الذاتي التي أوجدت كياناً كردياً ذي هوية مستقلة ضمن الهوية العراقية و كانت صيغة عجيبة قسّمت الدولة الى كيان مركزي و آخر لا مركزي قومي فلم يصدق عليها أنها لامركزية و لا أنها فيدرالية. ومع انقلاب الآية عام 1975 و اشتداد النظام القمعي بدأ الأكراد يطرحون الصيغة الفيدرالية إيماناً منهم بعدم مقدرتهم على الاستقلال لا داخلياً و لا خارجياً ووجدوا فيها الخطوة الاساسية لتثبيت كيان مستقل مع إرجاء الاعلان عنه كدولة مستقلة الى حين ملائمة الظروف الخارجية. وأصبحت الفدرالية مشروعهم الوحيد في مؤتمرات المعارضة العراقية واصبحوا في موقف الاقوى بعد إستقلالهم عن نفوذ نظام بغداد عام 1991 فعليا، ثم أصبحت خيارهم الوحيد بعد سقوط النظام عام 2003. وأصبحت مراهنتهم على الفدرالية او التهديد بالاستقلال المبطن. فما نتائج الفدرالية الكردية لو اقرت؟
أولاً إذا طُرِحَت الفدرالية القومية فإنها ستخلق مشاكل لا أول لها و لا آخر حول ترسيم الحدود و النزاع بين القوميات في المناطق المختلطة و المتداخلة مع خلق دولة كردية قومية كاملة داخل الدولة العراقية التي ستُقَسَّم لا محالة، ناهيك عن المشاكل مع دول الجوار. أما لو طُرِحَت الفدرالية على أساسٍ جغرافي فهذا سيحُدّ من بعض هذه المشاكل و لكنه لن ينفي الهوية القومية للاقليم الكردي و لن ينفي الواقع السياسي بكونه مقدمة للدولة الكردية المستقلة.
و هكذا نجد أن الخيارين يُفضِيان الى انفصال دولة كردية عن طريق تكريس الهوية القومية داخل الهوية الوطنية و زعزعة وإرباك تشكيل الدولة العراقية الحديثة التي ستنهار فور انفصال الاقليم الكردي لإن الأكراد هم ضمان التوازن في العراق وبدونهم سيتفتّت العراق عبر حروب اهلية صَمَدَ امامها الشعب العراقي بما فيه الكفاية.
الفيدرالية الشيعية:
تناغماً مع الطرح الكردي من جهة واستنشاقاً لمناخ الحرية السياسية شبه الفوضوية من جهة أخرى أخذت الدعوة الى الفيدرالية الشيعية تتبلور عند بعض الاطراف السياسية وقد طُرِحَت بصيغتين هي الأخرى: فيدرالية الأقاليم و فيدرالية الإقليم وهي في الأولى علمانية و في الثانية مذهبية ولكن كلتيهما تستخدمان الدعاية الشيعية. ففي فيدرالية الأقاليم يجري التركيز على سنوات الاضطهاد الطائفي الذي مارسته السلطة المركزية و الذي كان من جملة آثاره الحرمان من الثروات الطبيعية وسوء التوزيع المتعمد، وفي هذا الجانب يجري التغافل عن حقيقة انهيار النظام الطائفي وبدء تشكيل نظام جديد يساهم الجميع -ومنهم اصحاب الطرح انفسهم- في خلق ملامحه كما يجري التغافل عن مدى أهلّية الأقاليم الصغيرة هذه لأن تكون فيدراليات ذات شخصيات مستقلة و بالصلاحيات التي يتمّ طرحها و مستوى نضجها الإداري و السياسي في الوقت الذي يعاني البلد كله -لا الإقليم- من معضلة عدم تبلور مؤسسة الدولة و نقص المؤهلات السياسية و البشرية اللازمة و هل ستكون هذه الفيدراليات قادرة على الاستقلال بقرارها و إدارتها بمعزلٍ عن الدول الخارجية المجاورة التي بدأت بالتلويح بمساعدتها المشروطة؟ و هل ستكون هذه الفيدراليات بمنأى عن واقع التجزئة التي ستسهِم بانهيار الدولة من جديد من خلاله. إن العراق ليس بالتاكيد مثل الولايات المتحدة ذا أقاليم متكاملة الموارد البشرية و الطبيعية المؤهلة لأن تكون لها شخصياتها السياسية المتميزة. ثم إن فيدرالية الأقاليم ستخلق هوية جزئية داخل الهوية الشيعية -الإطار الذي تقوم حوله هذه الفيدرالية- و ستضعف الولاء الشيعي بخلق انتماءات سياسية قد تتصارع فيما بينها.
أما فيدرالية الإقليم الشيعي فهي تقسيم صريح للعراق الى دولة شيعية و دولة كردية مع إشعال حرب أهلية واسعة تمتدّ من الموصل و كركوك الى بغداد و بعقوبة بين الاقاليم من جهة و داخل المدن نفسها من جهة اخرى. مع التنازل الكامل عن بغداد التي يقطنها ثلث الشيعة في العراق و فقدان شيعة بعقوبة و كركوك و الموصل و سامراء و في هذا جنايةٌ عظيمةٌ على الشيعة و خسارةٌ سياسيةٌ لا يعوّضها حتى قيام الدولة الشيعية المستقلة وإلا فكيف سيكون العراق دولة مستقرة متوازنة وهو يتوزّع سياسياً إلى هويات طائفية و هويات عرقية و كم سيستمر هذا الاستقرار قبل ان تتوزع اشلاؤه و ينهار دولةً ومجتمعاً؟
الخاتمة:
إن ضرورة تشكيل نظام لا مركزي يعتمد على محافظات بصلاحيات واسعة تناسب تطورها الاداري يتجاوز سلبيات النظم المركزية المتطرفة السابقة ويمنع ظهور أنظمة اضطهاد طائفي و قومي ويضمن توزيعاً عادلاً للثروات و يمنح حريات ثقافية و سياسية واسعة و يمنع تكريس أي واقع انفصالي أو تجزيئي للهوية الوطنية و يحافظ على العراق عبر نظام سياسي متوازن و يضمن استقرار الدولة و تماسك بنيتها السياسية و الاجتماعية.
31/7/2005