سياسات دمقرطة الشرق الإسلامي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
طروحات الولايات المتحدة حول (الفوضى البنّاءة)
النزوع القديم في الغرب نحو تفسير انهيار الإمبراطوريات العظمى التي شغلت اكبر مساحة من الجغرافيا والتاريخ والسكان وقوة دوي الانهيار تذكرنا بدراسة غوبون Gobon حول سقوط الإمبراطورية الرومانية وسقوط الإمبراطورية المقدسة، وكتاب (أزولد شبنغلر) الشهير حول (سقوط الحضارة الغربية) أو ( سقوط الغرب ) فضلا عن كتابات المستشرق (أرنولد توينبي) المطلع الكبير على أعظم وثائق العالم في مكتبة المتحف البريطاني وفي نبؤته الخطيرة في سيادة الفوضى في العالم.. وليتبع كلّ هذا الرهط المحموم بالسقوط المدوي المفكر والأديب البريطاني كولن ولسون في كتابه المهم ( سقوط الحضارة) حيث كانت له زاوية أخرى جديدة في دراسة السقوط الحضاري. وكان (الجيل السبعيني) في العراق والعالم العربي قد (تتلمذ) بهذا القدر أو ذاك على رؤى ولسون الخاصة ونظرته للحضارة الإنسانية عموما بسبب كثرة الترجمات لكتبه وغرابة طروحات أفكاره عما عرف بالإنسان اللامنتمي، وما يعتور من فوضى فكرية وروحية في داخله. ويبدو أن المفكرين الاميركان البرغماتيين قد تلقفوا تلك (الأفكار) من جديد في محاولة سريعة وغير جادة غالبا في إعادة إنتاج (عملية الفوضى)التي تسبق غالبا معظم الانهيارات الكبرى في التاريخ.
وليس هناك ما هو أكثر (مظلومية) و(عدم دقّة) من مفهوم الفوضى في التاريخ الإنساني، فقد كانت معظم الثورات الكبرى توصف غالبا من أعدائها بالفوضى أو الخروج على القوانين النافذة. ثمّ ارتبط أسم الثورة بالفوضى دائما حتى بات من الصعب الفصل بينهما طوال حقب كثيرة من التاريخ الطويل ؛ ويعود سبب ذلك إلى أن مؤرخي الدول والملوك كانوا يعكسون وجهة نظر الحكومات غالبا، وأن من يكتب التاريخ هم موظفي البلاطات والمرتبطين بعجلة الدولة. كما أن الملوك على اختلاف أماكنهم الجغرافية ومشاربهم الحكمية، كانوا يصفون كلّ من يخرج على نظامهم بالفوضوي وقاطع الطريق، والخارج عن القانون، والشرير المتنطّع، والمطلوب حيا أو ميتا من أجل التاج.. ثمّ انسحبت ببساطة تلك التهمة الفوضوية إلى الأنظمة الجمهورية الحديثة، وكذلك إلى الأنظمة الملكية الدستورية، حيث اصبح كلّ من يخرج على الملك الدستوري و الرئيس الحاكم أو الحزب الحاكم فوضويا يحكم في محاكم خاصة، وكذلك من يخرج مطالبا بحقوقه الفردية أو العامة فوضويا متمردا يستحق المحاكمة ونيل الجزاء وفقا للدستور النافذ في البلاد. وهكذا اصبح كلّ مخالف فوضوي وإن لم يقصد ذلك.. وكلّ ذي وجهة نظر مغايرة (يساريا) يستحقّ السجن في الصحراء أو في سجون حجرية عالية أو الإعدام..
ولكننا لم نسمع بالفوضى البناءة ـ كمصطلح سياسي متداول ـ إلى وقت قريب. وكان علماء الفكر السياسي قد حسبوا أن هذا المصطلح الفريد في صفته، والغريب في نحته، لن يعود إلى السطح السياسي للتداول من جديد بعد موت ( الفوضوية) كمذهب سياسي ظهر في القرن التاسع عشر، وله رواده ومعجبوه، وفلاسفته أيضا. فمن أيقظ تلك الأفكار القديمة من سباتها التاريخي؟ ومن بعث فيها الحياة ثانية لتتبوأ مكانا مهما في عالمي السياسة والفكر؟
كان (بومارشيه) قد قدّم نصيحة ثمينة على لسان بطله (فيغارو) في رائعته (حلاق أشبيليه) تتعلق بكيفية التخلص من (الآخرين) المناوئين بقوله : " إذا أردت ردع الآخرين عن التدخل في شؤونك، فما عليك إلا أن تجعلهم ينشغلون في شؤونهم الخاصة " ولا شكّ بأن تلك النصيحة البسيطة والصعبة في آن قد قدّمت على طاولة الآداب الأخلاقية (العتيقة) ووجدت ـ من حيث لم يقصد الساسة الكوسموبوليتيون الجدد ـ طريقها بسهولة خارقة إلى ساحات العمل السياسي في العلاقات الدولية. وكأن علم السياسة في عالم ما بعد الحرب الباردة قد نضبت جعبته، وخلت أدواته فطفق يستعير من الأدب ما يقوّي أزمته الحالية ويعضّد من فراغاته الفكرية. هكذا يسهم الأدب في حمل العالم الجديد على التفكير بحلول بعض المعضلات الدولية دون أن يكون لـه ثمة مخططات معينة مسبقة. حسنا أنها محاولات أخر.
وكيف يمكن جعل (الآخرين) يدورون في حلقات مفرغة من المشكلات والأعباء والكوارث الدائمة حتى يمكن (نسيان) أعدائهم الحقيقيين وهم يرونهم على شاشات التلفاز كلّ صباح، وعندما يفتحون نوافذ منازلهم يجدون عجلاتهم ودباباتهم وهي تكسّر ما تبقى من أرصفة الشوارع المحطمة سلفا. إن تلك هي مهمة (الأذكياء الحسّابين المناورين) الباحثين عن كلّ مؤشر مفيد يمكن من خلاله إبقاء ( الآخر ) مشغولا عما يجري من حوله ؛ ووحدهم أولئك ممن يجلسون ليل نهار ـ الآن وفي أي وقت قادم ـ وراء كومبيوتراتهم الخاصة لتحليل وجمع وتخزين وتبويب وترتيب أكبر ما يمكن من المعلومات الشعيرية عن أولئك (الآخرين) المزعجين لهم في العالم كلّه ؛ والذين لا يستحقون من الساسة الجدد غير تصميمات مسبقة ومحسوبة بعناية من أجل وضعهم في فوضى مبرمجة ومفيدة ؛ لكنها فوضى جديدة على العالم ؛ إنها (الفوضى البناءة) مرة أخرى التي يكمن من خلالها ـ فقط ـ الخروج من قمقم 11 سبتمبر المزعج جدا، والذي لم يحسب له حسابا صحيحا!
ومن الصعب أن نجد ـ في هذه المدّة بالذات ـ ثمة رؤية أميركية واضحة بازاء قضايا عالمية مهمة وساخنة تتحول إلى (بعبع) دائم على مستوى الإعلام العالمي. ولا تعدو تلك الأفكار الفوضوية السريعة والمعلّبة ـ غالبا ـ عن أن تكون مجرد (آراء) لأشخاص من تيار المحافظين الجدد يعملون في الإدارة الأميركية حاليا، أو من أكاديميين مولعين بوضع نماذج مبسّطة تقترب من التسطيح الفكري غالبا لتفسير حركة العالم الرأسمالي الجديد ما بعد الحرب الباردة، وهم دأبون على الترويج لمنطلقات فكرية غير دقيقة تتناسب تماما وتوجّهات الساسة في البيت الأبيض بالدرجة الأساس أولا، وكبار أصحاب الشركات المهتمة بالتصنيع العسكري. ثم يتحول بعد ذلك كلّ ما هو كائن إلى محض خطط على (دسكات سرّية) ثمّ إلى أرض الواقع حيث تقوم (الكارثة) بعيدا عن (دوائر) السادة المخططين لها.
يحاول الساسة المحافظون الجدد ( صقور البيت الأبيض) أن يستعيروا ـ على الأقل الآن ـ بعض تراث الراديكاليين الميتين في أواخر القرن التاسع عشر من أجل تغيير العالم. لكن تغيير العالم أصعب بكثير من تهديمه كما هو معروف ؛ وهذا ما يثبته أنموذج العراق بشدة. إنه المأزق الفكري نفسه الذي أحاط النظام الرأسمالي منذ ظهوره في أعقاب (الانقلاب الصناعي) في أواسط القرن الثامن عشر وإلى يومنا هذا. كما انه المأزق نفسه تقريبا في عصر التوجّه العولمي الحاضر. وإذا كان الفوضويون القدماء من فلاسفة القرن التاسع عشر، الراديكاليين الحالمين بالثورة الكبرى المفاجئة والدائمة حتى انهيار آخر معقل للرأسمالية في العالم قد رأوا أن العالم يمكن أن يتحول في ليلة واحدة من الرأسمالية إلى الاشتراكية! وفي هبّة واحدة صاخبة من الإضرابات العامة والتمردات الكبرى على مستوى العالم كلّه، وفي هيئة اعتصامات فوضوية عارمة وغير منظمة غالبا تجتاح أوربا الرأسمالية من أولها إلى آخرها ـ الأوربه دائما هي التي تحمل كلّ ما هو جديد! ـ فإنهم الفوضويون المتقدمون بقوة هذه الايام لكنهم يرتدون زي اليمين هذه المرة ؛ فلنتأمل طرائف ومفارقات الزمن. ومن اجل (الحقيقة الطبقية العالمية وحدها) كانوا يرون أن العالم : هو محض أوربا آنذاك، ومن اجل الحقيقة العولمية وحدها ايضا هو ما يزال كذلك!؛ وما زال المحافظون الجدد الأميركيين و بعض الغربيين يرون الرؤية نفسها على الرغم من تبادل المواقع بين اليمين واليسار.
لكن ما حدث في الأصل هو مجرد تحول في المواقع الجغرافية وهو انتقال القطب المركزي من أوربا العجوز إلى الولايات المتحدة. ولذلك فإن المحاولات الأوربية في استعادة الموقع القديم لن تهدأ بدءا بالاتحاد الأوربي وانتهاء بدستوره الذي لم يتفق عليه. وهذا المرض (الأورَبَي) الأصل هو الذي حدا بفيلسوف (دكتاتورية البروليتاريا) كارل ماركس أن يقدم في أواخر عمره مبحثا (خجولا) ومقتضبا عن طريقة الإنتاج الآسيوي.. ولكن جاءت فكرة (الفوضى البناءة) هذه المرة من القطب الآخر عبر الأطلسي ؛ أو ليس للولايات المتحدة قصب السبق في كلّ شيء منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية إلى يومنا هذا؟ إذن فإن مركزة الفكر تتبع القوى العسكرية، ولا حاجة بنا إلى التدقيق مليا في هذا الفرض القسري مادام الفكر قوة في ذاته فمن المنطقي أن يلحق بمصدر القوة الوحيد في العالم ـ الولايات المتحدة ـ واي محاولة اخرى للحيلولة دون بقاء هذا القطب وحيدا هي طعن في ظهر الإمبراطورية!
وتعدّ منطقة الشرق الأوسط، والعراق على وجه الخصوص، هي المحور الأساس في طروحات ( الفوضى البناءة ) حيث أن هذه المنطقة كانت ومازالت مصدر قلق محوري للولايات المتحدة، وليس اعتباطا أن حدد الرئيس الأميركي جورج بوش في خطابه الأخير إبان زيارة رئيس الوزراء العراقي في يونيو / حزيران 2005 بان العراق هو الجبهة المحورية لمواجهة الإرهاب العالمي وكجبهة عالمية. ولذلك فإن تغيير منطقة الشرق الأوسط ـ على وفق النموذج العراقي ـ هي مسألة في غاية الأهمية، فضلا عن أن فشل السياسة الأميركية في إنتاج هذا النموذج سوف لا يعرض وجودها العالمي إلى الخطر ؛ بل ربما يقود العالم ـ من وجهة نظرهم طبعا ـ إلى الدخول في برزخ مظلم لا يقل أهمية عن ضرب هيروشيما وناغازاكي أو خانق خليج الخنازير عام 1961 إن لم يكن أشدّ خطورة منه بدرجات عديدة. ومن هنا فإن الإدارة الأميركية تصرّ إصرارا دائما على أن انسحابها من العراق مرهون باكتمال (المهمة) ولو نظرنا على الإعلانات الرئيسة للإدارة الأميركية قبيل إعلان الحرب على العراق عام 2003 فإنها كانت محصورة في اتجاهين أساسيين :
1 ـ القضاء على أسلحة الدمار الشامل العراقية.
2 ـ الحيلولة دون اعتداء العراق على جيرانه.
ولو نظرنا ببساطة إلى كلا الهدفين فإنهما قد تحققا تماما لأول وهلة من سقوط النظام الصدامي حيث أثبتت التحقيقات الدولية والأميركية خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل، وتمّ حل الجيش العراقي ( الحرس الجمهوري، والجيش التقليدي ) باعتبارهما نقطة الانطلاق في العدوان على الجيران ؛ في وقت كانت الولايات المتحدة من أكثر البلدان دعما لهذا الجيش منذ عام 1986 وفي إثر فضيحة إيران كيت وما رافقها من صراع ـ في العلن تقريبا ـ بين مجلس الامن القومي ووزارة الخارجية.. بيد أن الولايات المتحدة عادت هذه المرة إلى وضع (أهداف جديدة) أكبر وزنا وأبعد ستراتيجية ولم يسبق لها أن أعلنتها من قبل على نطاق رسمي، وهي :
1 ـ وضع خطة كبرى لما يعرف بالشرق الأوسط الكبير وما رافق ذلك من الدعوة إلى إصلاح الأنظمة السياسية في منطقة الشرق الأوسط بخاصة، وضرورة الالتزام بحقوق الإنسان ( دمقرطة الشرق الإسلامي ).
2 ـ انتهاج مفهوم (الحرب الاستباقية ) وتحويل تلك الستراتيجية إلى ميدان السياسة الخارجية على وفق رؤية كوندا ليزا رايس، حيث تكون ثمة (تطابقية) غير معلنة بين العسكر والسياسيين وصناعيي الأسلحة في آن ؛ ولتذهب تلك المصادمات التقليدية (الريغانية) في أفضل صورها بين مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية إلى سلّة مهملات طويلة الأمد نسبيا، فهي لم تعد تتناسب والتحديات في عصر الحرب العالمية الثالثة ( الحرب على الإرهاب العالمي) ومادامت تلك الحرب شبه الدائمة وغير التقليدية والتي يمكن أن تستمر أكثر من عقد من الزمن في اقل تقدير لخبراء البنتاغون الجدد و حيث لا يمكن رؤية العدو على شاشات طائرات U2)) فائقة التخفي، فإن على السادة في البيت الأبيض أن يعدوا العدة المناسبة لهكذا حرب مفروضة وغير واضحة المعالم وليست لها جغرافية ثابتة ومن أطراف قليلة العدد شديدة التدريب، ثمّ مفعمة بالكراهية الدينية.هذه الحرب هي الأطول في زمنها من كلا الحربين العالميتين السابقتين حيث لم تكن التكنولوجيا عاملا حاسما في تقصير أمدها كما حدث في عمليتي هيروشيما وناغازاكي. فالإرهاب يكون ( حربا عالمية ثالثة ) في مفهوم صقور البيت الأبيض بلا شك هو يسعى في المدّة القادمة إلى امتلاك أسلحة دمار شامل، تماما، كما هو سعي صدام إلى امتلاك تلك الأسلحة المزعومة ؛ أولم يهدد صدام بتلك الحرب قبل سقوطه محذرا الولايات المتحدة منها؟!
وهذه الحرب ـ من وجهة نظر المحللين الأميركيان ـ تحتاج إلى عدة عقود ولا بدّ للولايات المتحدة من أن تنتصر فيها؛ فليس أمامها إلا النصر وحده، لأن هزيمتها سوف تكون هزيمة لأوربا أولا، وللعالم المتحضر أيضا كما أنها سوف تضع العالم الغربي كلّه على شفير هاوية وربما تشبه الهاوية الغريبة التي وضعها لـه الفيلسوف الألماني شبنغلر في كتابه الشهير " "سقوط الحضارة الغربية ". ومن هنا فإن الرئيس بوش يؤكد في خطاباته إلى الأمة الأميركية : بان الإرهاب العالمي يرغب في خططه إلى تغيير مثلهم وقيمهم الاجتماعية أولا وليس سياساتهم الخارجية وحدها. وهكذا فإن هجمة شرسة على المسلمين في أوربا والولايات المتحدة لن تتوقف منذ أحداث 11 سسبتمبر ويبدو أنها سوف تتصاعد كلما أشتدّ أوار الحرب الجديدة وكثرت العمليات في عقر دار الأميركان والغربيين حيث تتخذ الفوضى منحى آخر من الكراهية والنبذ.
لم تستطع أفكار الفوضى البناءة أن تقدّم حلولا مقنعة وعملية للعالم، ويبدو أنها ستبقى مجرد طروحات للإعلام العالمي ولتسيير ماكنة الفضائيات التي درجت (كوندي) على الظهور فيها من حين لآخر دون أن تضيف شيئا جديدا عما درجت عليها خطابات الرئيس بوش الأسبوعية أو تلك الخطابات الفصلية الموجّهة إلى الأمة الأميركية من حين لآخر في ظل أزمات عامية متتالية قد تؤدي بالعالم إلى الانهيار فعلا.