الانتخابات المصرية:عندما يبكى القضاة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
قبل عشر سنوات و تحديدا في 29 نوفمبر 1995 وقّع رئيس اللجنة الانتخابية على بطاقتي وردية اللون دلالة على قيامي بالتصويت في انتخابات مجلس الشعب التي كنت أراقبها آنذاك ضمن لجنة حقوقية مصرية، من ضمن ما سجلته وقتها أثناء تواجدي بمقر اللجنة - مندوبةً لأحد المرشحين كحيلة للمراقبة اللصيقة لعمل اللجنة- محاولة موظف إداري أكثر من مرة إخراج رزمتين من البطاقات الانتخابية من جيوب سترته للتصويت بها نيابة عن أصحابها، أشهر كاميرتي لتسجيل هذه اللحظة فيعود مؤجلا خطوة تزويره أصوات المئات لحين انتهاء موعد التوقيت الرسمي و طردنا من مقر اللجنة، ساعتها أغلقوا الصندوق على 21 ورقة فقط هم عدد من جاء من بين 512 من المقيدين كناخبين في هذه اللجنة،أي أقل من 4.1 من المائة %،أغلقوا بالشمع الأحمر الثقب الموجود في غطاء صندوق الاقتراع بينما ترك الغطاء و مفتاحه بلا إغلاق أو تشميع!، فيما بعد كانت نتيجة التصويت في هذه اللجنة من أعلى المعدلات!
و في استفتاء 1999 على رئيس البلاد التي غطيتها كمراسلة لإحدى الوكالات أدليت بصوتي و رفض رئيس اللجنة التوقيع على بطاقتي الانتخابية،و من هنا نفهم كيف يكون بوسع أي مواطن الانتقال من لجنة لأخرى و التصويت حتى دون تثبيت اسمه و دون أن يوقع المشرف على بطاقتك الانتخابية و دونها أحياناً،في الحالتين كان على رأس اللجان اداريون من خارج سلك القضاء.
و في يوم الاستفتاء على تعديل المادة76 من الدستور المصري 25 آيار2005 (المعروف إعلاميا بالأربعاء الأسود بسبب ما حدث فيه من انتهاك لأعراض النساء على الملء) بصورة تسمح – جزئيا و بقيود – بوجود منافسين للمرشح الذي يحكم منذ ربع قرن إلا عاما، ودون النص على تقييد مدة البقاء على عرش مصر بدورتين،و بجوار الاعتداءات على المتظاهرين ضد التعديل و التي قام بغالبها محسوبون على الحزب الحاكم بمصر و سُجلت صوتا و صورة و شهادات، فقد جرى فصل من أبشع ما يمكن ضد القضاء المصري المعروف بنزاهته و حيدته، حيث تم إرغام أو ترهيب أو إغراء بعض القضاة للصمت على وقائع مخالفات تمت لتظهر النتيجة بأن الغالبية-53%- قامت بالتصويت في حين أعلن القضاة أن نسبة المشاركة3% فقط.
و حسب تقرير لجنة تقصي الحقائق عن إشراف القضاء على يوم الاستفتاء و التي شكلها نادي القضاة - أشبه بجمعية عمومية تضم القضاة ووكلاء النيابة و رؤساء المحاكم -فإن اللجنة أبدت تأسفها و "حزنها" لأن ضغوطا مورست فأدت لاخفاء بعض القضاة اسمه خوفاً من ملاحقة السلطات التنفيذية و الأمنية،و البعض رفض الإدلاء بشهادته، و البعض قدمها ثم سحبها في ظل لتهديدهم بالتحقيق من قبل التفتيش القضائي التابع لوزارة العدل التابع للسلطة التنفيذية، و مما أورده التقرير النهائي للجنة أن أحد الضباط هدد قاضيا بالاعتقال و البهدلة (و تعني التعذيب و الإهانة) لأن لديه لحية، و طلب ضباط من قضاة أن يصل التصويت إلى نسبة معينة مرضية للقائمين على أمر البلاد، و أقر قاض آخر أنه لاحظ إبطال عدد كبير من أوراق التصويت و عندما راجع رئيس اللجنة قال ببراءة" أنها تخص هؤلاء الذين رفضوا الاستفتاء" و أنها أوامر السلطات التنفيذية، و وصل الأمر إلى وجود عديد من البطاقات غير المطوية داخل الصناديق بمعنى أنها أضيفت و الصندوق مفتوح بعد انتهاء عملية التصويت ناهيك عن عديد من الانتهاكات للضمانات الإجرائية لسرية الاقتراع،و سُئل بعض القضاة عن وصول نسبة التصويت في أحد اللجان إلى 100% "ألم يتوف أو يسافر أحد الناخبين في هذا اليوم؟" و كانت ردود البعض تتراوح بين التهرب و الفرار من مقر اللجنة خجلاً، أو الإطراق إلى الأرض أو "البكاء"!.
و عندما يبكي القاضي، هذا الذي يحمل اسما من أسماء الله الحسنى: الحكم العدل، فإن خللا جوهريا يستوجب التدخل لوقف سطوة السلطات التنفيذية على القضاء، فعندما تتغول سلطة و تنكل بكل معارضيها بطرق شتى،لن تجد من يواجهها حتى الرمق الأخير بقدر القضاة كونهم الأحرص على روح العدالة و الحريات.
وفي الانتخابات الرئاسية الأخيرة بمصر استبعدت – ثم عادت بعد ضغوط- 1700 قاض ٍ من عملية الإشراف علي الانتخابات لاصرارهم على الحياد التام في عملهم،كما فوجيء القضاة بأن اللجنة حددت صباح يوم الانتخابات لتسليمهم عبوات الحبر الفوسفوري الذي يستخدم لضمان عدم تكرار الناخب للتصويت، خلافا للملعن بحيازتها قبل الانتخابات بثلاثة أيام للتأكد من صعوبة إزالته، صحيح لم يكن من السهل أن تتكرر كل مهازل الانتخابات و الاستفتاءات السابقة بمصر بحذافيرها، و أن الصورة تغيرت نسبيا فلم يتدخل رجال الأمن مباشرة لكن ذلك لم يكن ليفهم إلا في إطار ضغوط دولية و أخرى من، لحد أن أصدر القضاء الإداري واحدا من أذكى أحكامه- و لست أعلم هل يليق وصف الأحكام القضائية بالذكاء – لكنه كذلك إذ قال من بين مسوغات الحكم بأحقية المنظمات الأهلية في مراقبة الانتخابات" الحراك السياسي الذي تشهده البلاد رهن رغبة صادقة من السلطة القائمة..ووجود نظام حزبي و مجتمع مدني يهدف لإرساء الديموقراطية..والتي هي سبيل للرخاء الاقتصادي و الاستقرار الأمني" كأنه يضع الكرة في ملعب النظام طالبا منه اثبات صدقية تحوله من نظام التعددية المقيدة للتعدية الحقيقية،و كأنه أيضا يشير للقمع السياسي كأحد مسببات العنف و الإرهاب.
و بالطبع رفضت لجنة الانتخابات الرئاسية -المشكلة من النظام الحاكم والمحصنة قراراتها من الطعن- المراقبة ثم عادت كيمافا اتفق في اللحظة الاخيرة و قبل الانتخابات بساعات فأعلنت قبولها، و بالطبع لم يُعمم قرار القبول على أحد و بالتالي لم يسمح عملياً بتواجد المراقبين داخل مقار اللجان و لا في مرحلة الفرز بصفاتهم، و شعرت بحزن حقيقي و أنا أرى النسوة الفقيرات يحملن بطاقات الانتماء للحزب الحاكم للتصويت للحصول على إعانات مالية و عينيةو كانت صدمتي الكبرى برؤية أم تدفع ابنها المعاق ذهنياً للتصويت،و في نحو الساعة الحادية عشر صباحا كان ترتيب اسمي لا يتعدي العشرين في كشوف الوافدين بلجنة اقتراع،رغم حشد مئات العمال من قبل أصحاب الشركات صوتوا بالفعل لكن لم تُسجل أسماء معظمهم لينتقلوا للتصويت بلجان أخرى، شاهدت أنصار و دعاية مرشح الحزب الحاكم حتى داخل اللجان و صم أذني مكبرات الصوت تزعق بأغاني المبايعة و التغزل في نفس المرشح، و قد تناقلت وسائل الإعلام كثيرا من المضايقات التي تعرض لها القضاة في هذه الانتخابات أيضا،وليس المحك هل سجل تعد واحد عليهم أم مائة تعد، فالعبرة بحدوث انتهاك ضد سلطة نتعشم أن تواصل دورها في دفع التحول الديموقراطي بمصر، و بينما كان البعض واهما ينتظر نتائج مهزلة الانتخابات الرئاسية التي انتهت بفوز الحاكم 24 عاما بنصف دستة أخرى من السنوات بنسبة88%،فإننا بانتظار لجنة الاستماع التي شكلها القضاة للمشاركين منهم في مراقبة الانتخابات لنعرف النتيجة الصحيحة ونعرف أيضاً من الذي يهين القضاء ومن الذي يدفع خيرة رجال مصر للبكاء.
amiraaltahawi@hotmail.com