الكتابة في بغداد المنفى تجربة لا تنسى
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الحديث عن الكتابة في صحيفة معارضة لنظام ديكتاتوري كنظام صدام السابق وفي صحيفة كبغداد الغراء هو حديث طويل ومشوق، لسببين الأول، أن النظام السابق لا يمزح مع معارضيه أو مع من يتجرأ أن يقول كلمة حق، والثاني أن جريدة بغداد كانت من أكثر الجرائد العراقية في المنفى مناوئة لنظام صدام كما أن الدكتور أياد علاوي صاحبها المسؤول لم يكن يناور النظام ألصدامي ولم يكن يتوانى عن عقد التالفات يمينا ويسارا لإسقاط النظام الدكتاتوري في العراق دون أي بادرة تهاون إزاء ما يحدث في وطننا في ذلك الوقت، وكانت الجريدة في سباق مع الإحداث
وقد كانت مواردها شحيحة ولم تقم على تقاليد صحفية متينة كون بلدنا يخلو من صحف معارضة يتدرب فيها صحفيون محترفون وبفعل طول المدة ترسخ قيم ومفاهيم صحفية لبناء خبر صحافي معارض يمكن أن يحرك الشارع أو يشحذ الهمم لعملية تغيير ثورية من الداخل، وأتذكر أن المعاناة كانت عامة من هذا الجانب في كل صحف المعارضة العراقية في نهاية التسعينات كصحيفة المؤتمر وصحيفة الملكية الدستورية وصحيفة حزب الدعوة والوفاق وغيرها من الصحف التي كانت تصدر في لندن وترسل في البريد للمثقفين العراقيين لمختلف أصقاع العالم وبجهود شخصية من رؤساء تحريرها وقد كان يرسل لي الدكتور صلاح الشيخلي رئيس تحريرها السابق أسبوعيا العدد الجديد من جريدة بغداد ويكتب العنوان بخط قلمه الجاف المرتعش أوتجيىء بخط قلم سكرتير تحريرها الأخ الأستاذ جمال حيدر الأنيق من لندن وبصفحات قليلة وحجم صغير وأتذكر أني كتبت عن صديق فنان تشكيلي في الجريدة في احد إعدادها وحالما علم بالخبر جاء ني معاتبا لأني لم أحسب حساب عائلته التي تركها في بغداد وما سيكون مصيرها إذا كانت خطوطه وألوانه ثورية كما وصفتها في مقالي وصديقي الفنان كان مستقلا وقد غادر العراق وفي قلبه غصة ولكن بقيت عيناه تعبران المسافات كل يوم لمعانقة دجلة والفرات ويعبر عن ذلك بألوانه الساخنة وفرشاته... فطيبت خاطره وأخبرته أنهم لا يعاقبون المكتوب عنه بل الكاتب عينه !
لقد بدأت علاقتي الحقيقة بجريدة بغداد نهاية عام 1996 وكنت قبلها في منتصف 1996 في عمان اعمل محررا في إذاعة بغداد السرية التي كانت تبث إلى العراق من الأردن وكان الأخ الأستاذ أياد علاوي مشرفا على هذه الإذاعة وكان من المفروض أن التقيه في حزيران ولكن محاولة قلب نظام صدام ا لفاشلة في ذلك الوقت والتي استشهد فيها أكثر من مئة شهيد واجتياح جيش السلطة لأرض الشمال الحبيب أجلت اللقاء فالتقيت بمديرها المساعد الأخ معاذ عبد الرحيم.. وكان يسعدني أن أسمع مقالاتي الملتهبة التي كانت تبثها الإذاعة إلى أهلنا في العراق وكانت الحقائق التي أكتب عنها مبكية إلى حد الضحك، أتذكر أني صغت مقالا عن جثث مقبرة النجف التي بدأ النظام يخرجها من القبور ويرميها في مبازل النجف التي هي في الأغلب مملوءة بمياه المجاري كما هي العادة في أي منخفض قريب من المدينة، فاخترت عنوانا للمقال :
قبور الشهداء والمجاهدين لم تسلم من العبث
إخراج السلطة لجثث الموتى في النجف ورميها في المجاري للتشفي من أعدائها !!!
وقد جاء في المقال:
أن الجانب الروحي في العقاب الذي توجهه السلطة لمعارضيها من خلال الاعتداء على حرمة الأموات، وهو التهديد الضمني بإفناء ذكرى الميت من خلال محو قبره من الوجود وقبل هذا نفيه من الوطن، وهو حي، ومحو أسمه من ذاكرة أهله بالضغط عليهم بإعلان براءتهم منه.
والوجه الأخر من العقاب تذكير المعارض الحي، بإ نه معرض للعقاب حيا وميتا، فكما استطاع عملاؤها من الوصول إلى قبر الميت فإنهم سيصلون إلى مسكن الحي ! وفي كل حال فأنه لن ينجو من انتقامها.
أما الوجه البشع للعملية فتكرر الانتقام من أهل النجف بتكرار عمليات التخريب في مقبرتها لأعوام (1991، 1993، 1995، 1996) وما حصل في آب 1996 لا يمكن إلا وصفه بأنه بشع وفي غاية البشاعة، حيث شمل التخريب القسم الحديث من المقبرة باتجاه منطقة الرزازة وبذات الدعوى السابقة (منع رجال المعارضة من إقامة قواعد فيها) حيث أخرجت جثث لم تتآكل بعد وهياكل عظمية وجماجم من شهداء ثورة العشرين الذين دفنوا في هذا القسم من المقبرة وحملتهم القلابيات ورمتهم في المبازل المملوءة بماء المجاري والمزا بل لغرض شق طرق وإقامة أبراج في المقبرة لمراقبة المعارضين... وقد أعدت نشر المقال المذكور سنة 2002 في العدد 302 من جريدة المؤتمر التي كان رئيس تحريرها الأخ الأستاذ حسن العلوي بعد إضافة حادثة الاعتداء على قبر الشهيد المرحوم كاظم الريسان في دمشق عام 2002 والريسان أحد أبطال انتفاضة 1991 وقد مات مغتربا ودفن في دمشق... وقدمت من خلال إذاعة بغداد العديد من التمثيليات التي تدين النظام السابق وطبعا كل الذي إذاعته إذاعة بغداد وصل إلى أهلنا في العراق وجاءتني تعليقات من الأصدقاء في الداخل ما يشير أنهم أنصتوا لما أذيع وأنهم في بعض الأحيان خمنوا أسم كاتب السطور التي سمعوها..
الحقيقة أن تجربة النشر في صحيفة معارضة كبغداد في ظل نظام قمعي كنظام صدام وبالاسم الصريح مغامرة محفوفة بالمخاطر، خصوصا إذا كنت في دولة عربية وليست أوربية، فالمعروف أن المخابرات العراقية تصول وتجول في عواصم ومدن دول عربية كثيرة، وتحت يافطات رسمية كثيرة، مثل السفارات والقنصليات ومقرات الخطوط الجوية العراقية والملاحق الثقافية وغيرها من الجهات العراقية الرسمية خارج القطر، وكنت كلما نشرت مقالا فيها شعرت أنني انتحر ولا أكتفي بذلك بل أقود زوجتي وأبنائي إلى مصير مماثل، ولم تخفنا طرائق الانتقام العنيفة التي يمارسها النظام ضد معارضيه في الخارج كالقتل بإطلاق الرصاص أو الدهس بالسيارات المسرعة فقد كانت تخيفنا طرقه باغتيال معارضيه بالسموم أو بالتخدير لغرض نقله كجثة محنطة إلى العراق وبعد ذلك ممارسة التعذيب عليه حتى الموت... وفي كل عطفة شارع كنت أنتظر مجهولا وعند استلام أي طرد من البريد كنت اقرأ الفاتحة، ولا أجلس في مقهى أكثر من مرتين بعدها أغير المقهى لئلا يدس لي سم في فنجان القهوة التي أشربها كنا نعيش رعبا حقيقيا لأن عدونا كان بلا أخلاق ولا أعراف ولا إنسانية... من مقالاتي الأخيرة التي نشرتها في جريدة بغداد عام 2002 قبل سقوط الصنم مقال يقول عنوانه (الأستاذية في كل شيء أخر مراحل الدكتاتورية) كتبت فيه عن روايات صدام وكيف أن الدكتاتور يريد إن يقول انه أستاذ في كل شيء ويفهم كل شيء حتى في الفن الروائي واعتبرت ذلك هو المرض الأخير الذي يصيب الدكتاتور قبل نهايته المفجعة وصدق توقعي، إما آخر القصص التي نشرتها في بغداد قبل سقوط الصنم فهي قصة : ظهيرة الكلبة... التي تحدثت فيها عن معاناة أهلنا في الجنوب من خلال كلبة نال منها الحصار الظالم الذي فرض على شعبنا بسبب السلطة الدكتاتورية..
تجربة الكتابة في بغداد حين كانت في المنفى تجربة لا تنسى...
وستدرس في الجامعات العراقية كنوع متميز من أنواع النضال الإعلامي ضد الدكتاتورية والقهر ومن أجل غد أفضل لشعب عراقي كريم رفض الظلم وحاربه وقدم ألاف الشهداء من خيرة أبنائه في سبيل نيل حريته.
· كاتب عراقي مقيم في المغرب