مَنْ ذا الذي يمثل الثقافة العراقية؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
صحيح أن الخراب أصبح كبيراً، وصحيح أن العراق يسبح بدماء أبنائه، وما من شك بأن الإحباط والمرارة التي يشعر بها العراقي في الداخل والخارج على حدٍ سواء، أصبحت تلجم جماح الإبداع أحياناً، وتذهب بالمبدع بعيداً عن الشاشات والأوراق المكتوبة أحياناً أخرى لما فيها من زيف وابتعاد عن الحقيقة والواقع المر الذي أصبح شديد الوضوح كالشمس في كبد السماء، ولكن حين يستغل البعض هذا الواقع المأساوي، لتمرير بعض المغالطات وإعتماد قلب الحقائق، حتى تصل يد التخريب والتشويه حصن الثقافة العراقية وتاريخ نجومها، فأن الأمر لا يمكن أن يمر مرور الكرام.
كثيراً ما تستفزني بعض المقالات، ولكنها في أغلب الأحيان تكون خاوية المعنى والهدف، فتكون سهلة النسيان، ولكن الذي دعاني إلى الكتابة في هذه المرة، هو ذلك التجني الكبير على الثقافة العراقية، وذلك الهدف الغير مشروع الذي أبدته مقالة الأستاذ فيصل عبد الحسن المنشورة في موقع إيلاف بتاريخ 22. سبتمبر. 2005.
مقالة مختصرة، كل ما احتوته من حيث المعنى أو الدلالة، لا يتعدى حدود الشعارات، وكل ما بحثتُ بين سطورها عن هدف، لا أجد سوى المجاملة والتودد. هذا هو الشكل العام الذي ظهرت به المقالة، وهذا والله شانه وشأن الناشر، ولا دخل لنا في ذلك، ولا ضير منه. ولكن الذي استفزني من تلك المقالة، عبارة خطرة جداً، عبارة اختصرت الثقافة العراقية بشخص رجل واحد لم تعرفه الثقافة العراقية إلا لكونه صحفي أو رجل يمتهن الإعلام، وهذا الحيز البسيط من عالم الثقافة العراقية الواسع، لايمكن له أن يختصر كل مجالات الثقافة ليصبح هو الدالة الوحيدة إليها، بل، ليس هناك مجال ثقافي بعينه يمكن أن يكون تلك الدالة الوحيدة على الثقافة بأكملها.
العبارة التي كُتبتْ في المقالة تقول " (هو) قامة عراقية من القامات التي نفخر بها والرجل صاحب فضل كبير على الثقافة والمثقفين العراقيين. " وهنا أضع كلمة " هو " بين قوسين كوني استعضت بها عوضاً عن اسم الشخص المعني، كونه ليس المعني بكتابتي هذه، ربما لم يكن على علم بما كتبه السيد صاحب المقال، وهنا أسأل " هل هناك شخصية عراقية أو قامة أدبية كانت أو فنية، لها ذلك الكم الكبير من الفضل على الثقافة والمثقفين العراقيين؟ ". والجواب البديهي على هذا السؤال سيكون النفي، وربما يصل إلى حد الإستحالة، والسبب بسيط، كون أن الثقافة عالم واسع يجمع كل أبواب وزوايا الإبداع. الثقافة التي تميز بلد كالعراق، سماء واسعة تسبح في فلكها نجوم إبداعية لا تعد ولا تحصى، وبأشكال وألوان وأحجام يختلف بعضها عن بعض الآخر، وكل نجم يأخذ حيز بسيط من ذلك الفضاء الكوني الرحب - سماء الثقافة -، ومن هنا يستحيل علينا أن نختصر السماء بنجمة واحدة مهما بلغ حجمها، فما بالك بتلك التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة؟، لا أحد يختلف معي إذا قلت أن نجوم الثقافة العراقية، والتي أصبحت دليل كل باحث في عوالم الإبداع العراقي، كنجم السياب والجواهري وغائب طعمة فرمان وحقي الشبلي وصالح الكويتي والحاج زاير وعزيز علي والملا عبود الكرخي وجواد سليم، والأغاني والأهازيج الشعبية، وجميل بشير وجبوري النجار وحضيري أبو عزيز وغيرهم الكثير ممن كان لهم التأير الواضح في جوانب الثقافة العراقية المتعددة الوجوه والمشارب، هم نجوم لها تأثيرها المهم في تكوين سماء الثقافة العراقية – هنا أتحدث عن حقبة زمنية قصيرة من تاريخ الثقافة العراقية لا تتعدى النصف قرن -، ولكني متأكد من أن لا أحد سيقف بجانبي إذا أردت القول، بأن أحد تلك النجوم كان له الفضل الكبير على الثقافة والمثقفين العراقيين، لأني بذلك سوف أبخس دور النجوم الأخرى.
هنا أتذكر قول ذلك الشاعر الجليل الذي قال لي ونحن نقرأ بعض أبيات شعرية ركيكة كتبها شخص توهَّم بأنه شاعر، قال لي صديقي الشاعر حينها " أتعجب من إنسان يكتب بشكل هزيل يثير السخرية ويفضح الجهل الذي يعتريه، ثم يضع إسمه على ما كتب وينشره، إن مثل هذا التصرف يوحي لي بأن الأسم الذي يحمله ذلك الإنسان، لا قيمة له، ولا يحضى بإحترام الإنسان نفسه، فكيف يطلب منا أن نحترمه كشاعر؟.
تلك المقولة التي طبعها في ذهني ذلك الشاعر الجليل، أصبحت تستحضر نفسها أمامي كل ما شرعت بالقراءة، ولا أدري هل هذا من حسن حظي أم من تعاسته؟
أعود مرة أخرى إلى ما كتبه السيد عبد الحسن في سطور الإطراء والتودد التي نشرها ووقعها باسمه الصريح، فيقول " كان رجل وحيد منفيا في لندن لا يملك من المال إلا القليل ولكنه يملك القلم الشريف والرأي الحر ومحبة العراق وأستطاع هذا الرجل أن يجمع حوله من رجال المال العرب ومن الكتاب العراقيين ما أعاد بناء الثقافة العراقية من ركامها وخرابها. "، وهنا أسأل، متى كانت الثقافة العراقية ركاماً وخراباً؟ كيف حدث هذا والمئات من المبدعين العراقيين يناظلون بكل قدراتهم لخدمتها ورفدها بكل مستجدات الساحة الإبداعية العالمية كي تبقى شامخة إلى الأبد، من داخل العراق، أو بعيداً عن يد الدكتاتور الغادرة، ؟ وإذا إتفقت جدلاً مع ذلك القول، فهل لمثل الشخص المعني بمقالة الأستاذ، أن يعيد ثقافة بلد تاريخه يمتد إلى بداية الخليقة؟.
لم يكتفي الأستاذ في مقالته بالتجني على الثقافة العراقية التي لم ولن يمثلها شخص واحد بعينه مهما كانت قامته الإبداعية، بل ذهب إلى مجال السياسة، فجعل من الشخص المعني بطلاً اسطورياً، عمل على توحيد كلمة المعارضة العراقية التي لم تتوحد في يوم ما، فيقول، " وله الفضل الأكبر في جمع المعارضة العراقية وتوحيد كلماتها ضد نظام الطاغية صدام حسين " ترى هل يوجد حقاً شخص فعل هذا؟، وأين كانت الصحافة والإعلام حين حدث ذلك الحدث العراقي المهم، لماذا لم نسمع عنه من قبل؟، أم أنه حدث لا يعلم به إلاّ الله وكاتب المقال؟.
ربما كان المقصود من ذكر ذلك الفضل الكبير الذي ذكره صاحب المقال بحق تلك الشخصية التي تودد إليها كثيراً في مقالته، هي تلك الأوراق المالية التي كان يدسها في جيوب البعض، أو الموائد الفاخرة التي كان يقيمها لهم ولغيرهم، وهذا شانه، وليس لنا دخل فيه، فالأمر شخصي جداً. ولكن أن تكون تلك الأوراق وتلك الموائد فضلاً كبيراً على الثقافة العراقية والمثقفين، فهذا أمر لا يقبل به الجاهل قبل العاقل.
ثم يذهب صاحب المقال إلى نقطة غاية في الحساسية من حيث التناول المفضوح لبعض الصفقات والإتفاقات، فيقول " وأنا وغيري نقول عنه أن المناصب قصيرة على قامة هذا المبدع والإنسان الذي له الفضل على كثيرين من مثقفينا وثقافتنا وتأريخنا العراقي الحديث بما أبدعه وما عقده من تحالفات فكرية ومالية هيأت له هذه الإمبراطورية من الإعلام التي تزيد في طول العراقيين وتمنحهم فرصة تقديم قضاياهم إلى العالم عبر أحدث وسائل الأعلام الفضائي " ولا أدري ما الذي يقصده بالتحالفات الفكرية والمالية، وما دخل تلك التحالفات في عالم الثقافة والمثقفين العراقيين؟. وهنا أود من الأستاذ كاتب المقال، أن يذهب إلى العراق، حيث الواقع، ويستطلع آراء الناس، البسطاء حول تلك الوسيلة الإعلامية الفضائية، ليسمع الحقيقة من أهلها، وأن يحصي عدد المناطق والمحافظات التي قررت إلغاء ومقاطعة المكاتب الخاصة بتلك الوسيلة الإعلامية، وعليه أن لا يسنى سؤال مهم يجب عليه أن يطرحه على الناس، هو، لماذا هذا القرار بالمقاطعة؟.
وأخيراً أود الإشارة إلى أن بعضاً من المثقفين العراقيين هم أصحاب الفضل الكبير على ذلك الشخص الإعلامي الذي تودد له صاحب المقال، فهو يمتلك صحيفة يومية ينشر من خلالها بعض المثقفين العراقيين مقالاتهم دون مقابل مادي، والمعروف عن تلك الصحيفة أن النشر من خلالها بالمجان، على الرغم من أنها تباع بثمن معلوم.
حسين السكاف
halsagaaf@hotmail.com