أصداء

أيـّها النملُ الذي (ستأكلنا )!

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

بعد كل الذي (حدا) وذلك الذي ( بدا ).. ويبدو للعيان، وبعد ما آلت اليه أوضاع الوطن الموجعة التي تضرب في صميم وحياة الناس المعدمين والمسحوقين منذ عقود طويلة ومريرة عاشوها، دون أن يجنوا منها ثماراً ملموسة.. في شارع نظيف.. أو مدرسة نظيفة زاهية.. أو مشفى نظيف يعافي علل العراقيين المزمنة.. أو ماء نظيف يشربون منه و يرتوون، أو متنزهات عامرة بالورود والرياحين تسر ناظرهم وتلهي أطفالهم.. أو ضمان إجتماعي لمستقبل يحترم شيخوختهم و سنين تعبهم، أو بعد ما آلت اليه الأحوال التي يقاسي منها رأسماليو وتجار الحروب وهم يتطلعون الى أن يستوطن البلاد وربوعها ( السلام ) المنتظر، لكي تزدهر أموالهم ( المشروعة ) وينتصروا لخيالهم وأحلامهم الغير محدودة! وبعد كل ذلك الهلع والخيبة الذي أصاب المنتظرين والحالمين والمخدوعين بــ ( قادة ) الأوطان الذين أفصحوا عن بعض من شهواتهم المسكونة في دواخلهم وأخفوا تلك التي لم يفصح عنها، بأردية من الوطنية والصلاح والتقويم الإجتماعي والديني...!
بعد ذلك كله، لابد للإنسان العراقي، وكل حسب طاقته، أن يتضرع للخالق العظيم الذي أوجده على وجه البسيطة، في أن يبقي جسده ومحيـــــّاه سليماً ومعافيـــــاً لاغير، حتى تحين المنية ومشيئة الخالق، لكي يوارى الثرى و( يأكله ) النمــــــل الوديع والمسالم و الدؤوب بكل هدوء، خيراً من أن تتقطع أوصاله حرقاً أو تمزيقاً أو هرساً بنيران الإرهابيين وجنونهم، أو تتحطم روحه وأحلامه وتطلعاته وتتلاشى شيئاً فشيئاً بالوعود المعسولة! فحياة النمل وعلمه وفطرته ورحمته وأحلامه التي أوجدتها وخلقتها الطبيعة.. أرحم كثيراً كما يبدو من أحلام الإرهابيين القتلة.. أو أحلام ( القادة ) المتصارعين على كراسي الحكم الزائلة.. ومن ثم على موائد الوطن المنهوب على مسمع ومرأى منهم و دون أن يجدوا بلســـماً للجراح المتعددة الأشكال والأعماق التي تمزق الوطن يوماً بعد يوم، ودون أن يبدوا قدرة على وقف ذلك النهب وذلك الحلب المستمر ليل نهار!
ولكي نذهب الى العلم والطبيعة وهي تتحدث عن النمــــــل الرحوم وحياته و مملكته، فالأجدر والأمتع هنا أن نستعرض هذه السطور المثيرة ونهديها لأبناء شعبنا و( لقـــــادته ) الأشاوس المياميــــن.. لعلهم يصحوا على الغفلة والمصيبة التي بها نعيش!
تقول العلوم لنـــا، أن النمـــلَ حشرة صغيرة جداً، بعضها لا يزيد طوله عن الملليمتر، ومع ذلك، فإن تلك الحشرة الدؤوبة الحركة تعتبر مهندسة معمارية رائعة و عظيمة، تبني القلاع والحصون والدهاليز والمخازن، و تهندس سراديباً كاملة ومحمية تحت الأرض بهمة متناهية وعجيبة تستخدمها لشتى الأغراض لكي تحيا وتعيش!
ومن مظاهر مجتمع النمل قيامه بمشروعات جماعية مشتركة.. مثل اقامة الطرق الطويلة في مثابرة وأناة ودون ضجيج أو دعايات. وتحرص مجموعاته المختلفة على الالتقاء في صعيد واحد من آن لآخر للتشاور والتحاور بما تم إنجازه ولتقديم الجديد والمزيد المتطور! ولا تكتفي هذه المجموعات بالعمل نهاراً، بل تواصله ليلاً في الليالي القمرية، ولكنها تلزم مستعمراتها في الليالي المظلمة، فمن نور القمر الذي تعشقه وتغازله، تستمد العزم والخيال المبدع وتحاكي بعضها البعض!
وهناك نوع من النمل يمارس الزراعة المنظمة والفلاحة، فيزرع نباتات يختارها بنفسه ويجلب لها السماد من الأوراق المتعفنة، ثم يحصدها عند نضجها ويخزنها في مخازنه ويحرسها بكل عناية و بروح وطنية صادقة.. يستمدها من ظلم و جور الآخرين الذي يعلون فوقه بأقدامهم ويشبعونه دوساً و تحفيراً!
وهناك نوع آخر من النمل، كيميـــــائي متخصص، لا يستخدم إفرازاته الكيمياوية لقتل أفراد مجموعاته، لكنه وببراعة متناهية، يمضغ قطع الخشب الصغيرة والمتناثرة التي يحصل عليها هنا وهناك.. ويحولها الى نوع من الكارتون، ثم يبني من هذا الكارتون طــُرزاً هندسية معمارية عجيبة يتجول فيها ويلهو ويمرح مع صغاره ويؤدي الرقصات بخصره الرفيع المعهود به، دون حسيب أو رقيب أو.. هراوات!
وهناك نوع ثالث من النمل الذي يعيش في أفريقيا يبني بيوتاً تشبه المسلات، ثم يحقق لها نوعاً من تكييف الهواء بفتح نوافذ سفـلية لإدخال الهواء البارد.. ونوافذ علوية لإخراج الهواء الساخن لكي تبقى تلك البيوت منعشة لساكنيها والمرتادين اليها، دون ضيق في التنفس أو إختناقاً من حرارة الأرض وفاءً منه لأبناء جلدته ولكدحهم وشقاءهم! ويعيش هذا النوع من النمل حياة طبقية عجيبة، فنجد فيه الملكة والأميرات والضباط، ولكل منها مساكنه الخاصة، أما باقي الخلية من العمال البروليتاريــــا فهي تشتغل بلقمتها وتؤدي دوراً مهماً وحيوياً في بناء الخلية وتكافئ لمجهودها الكبير الذي تبذله!
وهناك نوع من النمل المحارب المقاتل الذي ما أن أحس بأن حقوقه قد هُضمت، فإنه يهجم في جيوش جبارة على القصور ( الملكية ) فينقضُ عليها ويقتل الجيش والحرس، ويستولي في طريقه على مخازن الطعام والتموين وينقل بيوض النمل التي لم تفقس بعد، ويتعهدها في بيوته و يرعاها، فيخرج منها النمـــــل الصغير، فيجعل منه جيشاً عاملاً في مملكته الجديدة التي يبنيها كما يريد!
وهناك نوع آخر من النمــــل يعيش على الرعـــــي المنظــــم، فيرعى قطعانــــاً من حشرة المن ويحلبهـــا، ويعيش على إفرازاتها السكرية لكي يقوى على العيش والإخصاب والبنــــــاء!
وللنمل أيضاً لغة يتخاطب بها بكل تواضع ودون عنف مقيت، وبدون هذا التخاطب والهمس والتشاور والتعايش السلمي، ما كان بإمكانه أن يوزع الوظائف بعدالة ويقيم نظاماً إجتماعياً تتباين فيه الإختصاصات والوظائف و كلّ حسب طاقته وقدرته وكفاءته و نزاهته!
ويقول علماء البيولوجيا أن النمـــل ليس بعيداً عن مشاعر الحب والرومانسية، فهو يتخاطب عن طريق القبلات الصادقة، ودون مجاملات فارغة.. وبلغة كيميائية خاصة يفرزها مع اللعاب. وبدل الحروف المنطوقة.. هناك درجات وأنواع مختلفة من المذاق العذب اللذيذ!!
كما اثبتت احدث الدراسات العلمية أن لكل نوع من انواع الحشرات هذه رائحة خاصة به، وداخل النوع الواحد هناك روائح اضافية تعمل بمثابة بطاقة شخصية او جواز سفر للتعريف بشخصية كل حيوان او العائلات المختلفة او افراد المستعمرات المختلفة. وعندما تلتقي نملتان فانهما تستخدمان قرون الاستشعار، وهي الاعضاء الخاصة بالشم لتتعرف الواحدة عن الأخرى، وقد وجد انه اذا دخلت نملة غريبة مستعمرة لا تنتمي اليها، فأن النمل في هذه المستعمرة يتعرفون عليها عن طريق رائحتها ويعتبرونها عدواً،ثم يبدأ الهجوم عليها.
وللنمـــل عقل فاحص يدبـــّر به حياته وميزانية يخطط لها بعناية لمجتمع كبير لا يمكن إحصاء أعداده، فهو يجمع قوته في الصيف.. ويدخّره في الشتاء لمواجهة ظروف البرد والجفاف بالغة الصعوبة لكي يديم وجوده وحياة مجموعاته!
وأعجب ما في عالم النمـــل، أن هناك نوعاً يرفض الحياة المشروطة والمفروضة قسرياً في مجتمع ونظام و خلايا.. ويختار أن يضرب في الآفاق.. و يهيــــم بعيداً عن الآخرين، معبرا عن حريته الشخصية ومستعيناً بالظروف الديمقراطية والحريات المتاحة له دون تنغيص أو أوامر من أحد..! كل حشرة تهيــــم لوحدها..! تسكن كل ليلة داخل ورقة ذابلة، فإذا طلع النهار هجرت مسكنها و رحلت الى مسكن آخر! وهكذا تقضي حياتها تنتقل كل ليلة من مكان الى آخر، كما يهوى مزاجها!
فيــــــا أيهـــــا النمـــــل الذي ( ستأكلنــــــا ) يوماً ما.. رحمة بالجائعين الذين يجوبون أرض بلادي وقد خوَت بطونهم وأجسادهم من لقمة وعافية.. وجفـّت أرواحهم من متعة أو رقصة فرح! فإنك و رب العباد الذي خلقك وخلقنـــــا لن تجد فينا نحن المحرومين من خيرات أوطاننا.. ما يشبعك ويغنيـــك، وما عليك وانت العالـِم ببواطن الأرض ودهاليزهـــا، إلا أن تبحث عن خشب الكراسي الزائلة و من عليها يجلسون، فهم وحدهم.. الصيد الثمين!

عبد الجبـار السعودي

بصرة - أهـوار في كانون الثاني 2006
basrahahwar@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف