ظاهرة التديّن الشكلي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
أصبحنا نرى ظاهرة اكتساح التدين الشكلي في مجتمعاتنا حتى باتت واحدة من أكثر الأشياء دلالة ً على انتشار مفهوم الدين المظهري والذي أصبح السمة الغالبة عند عامة الناس واتخذ وجها ً شعبويا ً..
وأصبح الناس يصنفون المجتمعات حسب درجة تمسكهم بالتدين الظاهري فإذا كان المجتمع مصبوغا ً بالصبغة الدينية في كل مناحي حياته فأنه مجتمع متدين وهكذا كلما كانت درجة التمسك بالدين الشكلي كبيرا ً أصبح هذا المجتمع في عرف بعض الناس مجتمعا ً متدينا ً..
بداية ً حتى لا يتهمني أحدٌ بالانحراف والكفريات والزندقة فأني هنا لا أطالبُ بأن ينسلخ المجتمع من الدين ويصبح لا دينيا ً فالدين في معظم الأحيان قد يكون مطلوبا ً عندما يحقق التوازن الروحي ويهدف إلى خلق منظومة متناسقة من التمسك بالأخلاقيات والسلوكيات القويمة..
ولكن حديثي هنا يرتكز على التدين الشكلي في المشهد الديني المتداول بصورة شعبوية في مجتمعاتنا والذي تحول إلى مظهرية تتسم بالسطحية ومنزوعة المعاني العميقة ذات المضامين الروحانية..
وعندما يتمسك المجتمع أي مجتمع بالدين الشكلي المظهري ويتفاخر بأنه مجتمع متدين فأنه يسعى بذلك إلى الارتكاز على مفهوم أن الآخرين الذين لا ينتهجون مسلك التمسك الشكلي بالدين أناسٌ منحرفون ويسيرون إلى الهاوية ومعدومي الأخلاق..
لذلك كان النفور يصاحب أولئك الذين يتشبثون بالمظاهر الدينية من الذين لا يعنيهم التدين الشكلي شيئا ً في حياتهم ومسلكهم العام في الحياة حتى وصل الوضع بالبعض منهم إلى السؤال عن الشخص إن كان يؤدي الصلاة في المسجد شرطا ً لقبوله زوجا ً لابنتهم..
وليس هناكَ أقسى من أن يسعى المجتمع الغارق بثقافة التدين الشكلي إلى أن يضع الفرد تحت المراقبة الدينية الدائمة وأصبح الفرد في هذه المجتمعات يحمل هاجس التدين المظهري في كل تصرفاته ومسلكياته ويحسب حسابا ً لمراقبة المجتمع الدينية له طوال الوقت وأصبح يرى أن يلتزم مثلا ً بالذهاب إلى المسجد خمس مرات في اليوم لأنه إذا تخلف عن ذلك فأنه يصبح في عرفهم فردا ً ( منحرفا ً ) وعليهِ بالتالي أن يجتاز هذا الامتحان بتفوق مسرحي خمس مرات في اليوم..!!
وعليهِ أيضا ً ربما في كثير من الأحيان أن يتمظهر بالهيئة الدينية خوفا ً من نظرة المجتمع له وليس شرطا ً مدى اقتناعه بتلك المسلكيات الشكلية المهم لديه أن يكون المجتمع راضيا ً عنه دينيا ً..
وأعتقدُ شخصيا ً أن المجتمع الذي يؤدي طقوسه الدينية المظهرية الشكلية الخالية من القيم الروحية والمعاني العميقة يؤسس لمفاهيم مغلوطة ويرى إنها صحيحة ولا يشوبها الخطأ أو الشك فمثلا عندما تقول الآية القرآنية ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) يجدون أن الصلاة بحد ذاتها كشكل متعارف عليه من حركات تعبدية تحقق النهي عن المنكر والفحشاء بمجرد أن يؤديها الفرد ولذلك ما يقترفه الفرد بعد أدائه للصلاة من منكر لا يعتبر منكرا ً لأنه قد أدى الصلاة التي أصبحت في ثقافته مجرد تأديتها بشكلها العادي المظهري قد حصنته من المنكر والفحشاء..!!
ولذلك عادة ً ما نسمع من أولئك الذين يحرصون على التدين الشكلي أن مَن يؤدي صلاته ويصوم وغير ذلك ويتفنن باظهارها شكليا ً وبالشكل الصارخ فأنه شخص متدين وليس مهما ً ما يقترفه في حياته من كذب أو نفاق أو غش أو تعدي سافر على خصوصيات الآخرين..
وحينما يتطرف المجتمع في التمسك بالدين الشكلي تظهر واحدة من أكثر الثقافات سوءا ً وهي ثقافة ابراز ( الهوية ) الدينية في اطارها المقدس والأفضل والأنقى ويصبح تحديدها ( الهوية ) تعني عداوة لثقافة الآخرين وكما يقول المفكر ( نصر حامد ابو زيد ) في هذا المعنى تحديدا ً :
( ومع ضعف الإيمان قويَ التطرف وصار التدين شكليا ازدحام المساجد مع كثرتها، إطالة اللحى وتقصير الجلابيب وارتداء الفتيات الحجاب فالنقاب، حين يصير الدين شكليا يصبح هو المحدد الوحيد للهوية، وهنا يتبلور مفهومٌ للآخر فضفاض يساوي بين الأجنبي (الغربي) وابن الوطن المسيحي والعلماني فيضع الكل في خانة الأعداء الذين يصبح قتالهم واجبا (سيد قطب قسم العالم كله مسلمين وجاهليين فقط)..
ولذلك نجد أن المجتمع الغارق بالتدين الشكلي يثور سريعا ً من انتشار أية ثقافة أخرى تختلف عن ثقافته الدينية ويسارع بقمعها والتطاول عليها والانتقاص من معانيها ويصفها بالخروج عن الدين والأخلاق وما نقرأه ونشاهده ونتابعه من أقوال الاسلاميين المتزمتين وتصرفاتهم دليل على استغلالهم للدين وضرب الآخرين به وفرض مفاهيمهم عليهم من خلال تحريم الحفلات الغنائية وتحريم الاحتفال برأس السنة وتحريم تهنئة أخواننا المسيحيين بعيدهم وقائمة طويلة من الممنوعات بحجة إنها ضد الدين وضد ثوابت المجتمع الدينية وذهبوا بعيدا ً في رفضهم لحق الآخرين في اعتناق ما يشاؤون من طريقة في حياتهم ورفض التعددية الفكرية والدينية ومَن يجد أن حياته تنسجم مع فكرة عدم ( التدين ) كان عليهم أن يعلنوا عليه الحرب والاقصاء والنبذ والطعن في أخلاقياته وضميره..!!
وليس هناكَ أخطر من فرض المفاهيم الدينية بالشكل الظاهري الصرف وتشجيع المجتمع عليها والتمسك بها على إنها من الدين ومن أساسيات التدين الحق فمثلا ً راجت في الفترة الأخيرة عندنا في الكويت اعلانات كبيرة تنتشر في الشوارع وفي الزوايا تحث الشباب على التمسك بالصلاة وكأن مجتمعنا ناكر للصلاة ولا عهد له بها من قبل وكأن مجتمعنا من الهشاشة بمكان إلى درجة أن هذه الاعلانات الدينية سترجع له توازنه ولا أعتقد أن الدين بحاجة إلى مثل هذه الدعايات الجدارية الشوارعية بقدر ما يحتاج المجتمع إلى استيعاب القيم الروحية في الأديان عموما ً والابتعاد بها عن التعصب الأعمى وثقافة التدين المظهري والشكلي ومن خلال هذا الاعتقاد السطحي بالتمسك المظهري والشكلي بالدين تأسست في مجتماعتنا ثقافة الاهتمام بالتدين الشكلي البعيد عن الروحانية واختفت النفحة الروحية في العبادات الدينية ليتسيّد الدين الشكلي في تصرفات الناس ومسلكياتهم ويكون هو الأساس في التعامل مع الآخرين وبدلا ً من أن تكون العلاقة بين الإنسان وخالقه علاقة روحانية مباشرة خالصة لا يحق لأحد التدخل فيها أصبحت العلاقة تتخذ الشكل المظهري والدعائي والفارغ من المحتوى العميق للقيم الروحانية السامية..
وحينما نريد أن نفهم لماذا أصبحت مجتماعتنا الإسلامية مهووسة بالنماذج الأصولية الدينية المتزمتة وتجد فيها الدين الحقيقي وأصبح الفهم الأصولي المتزمت للدين هو السائد والشائع في مجتمعاتنا فلأنها آمنت بغباء وعدم وعي أن المظهرية والشكلية الدينية هي الأساس وهي المعيار للتمسك بالدين..!!
ومما ساعد على انتشار ظاهرة التدين الشكلي في المسلكيات العامة لمجتمعاتنا الإسلامية هو تمكن الخطاب الديني المتزمت والمتشدد وتغلغله في المناهج التعليمية وخطب الجمعة والإعلام المرئي والمسموع فإلى الآن ما زال يردد الخطاب الديني الذي يروج للدين الشكلي التظاهري على أن اللحية والثوب القصير من أبجديات التمسك بالدين القويم وما زال الخطاب ذاته يردد أن النساء المسلمات السافرات سيعلقن من شعورهن في يوم القيامة ومَن يستمع للغناء أو الموسيقى فمصيره العذاب في الآخرة والاسراف في اطلاق أوصاف القردة والخنازير على الذين ينعتونهم بالتبعية للغرب ( الكافر )..
في الحقيقة نحن أمام أزمة كبيرة تتمثل في فرض التدين المشبع بالفكر الأحادي التوجه والاعتقاد به قسرا ً وفرضه كشكلية مظهرية وشعبوية بينما الأصل هو أن الدين يجب أن يبقى خيار الفرد الحر في الحياة وبعيدا ً عن مسرحية التظاهرة الشكلية المسلوبة المعاني الروحانية العميقة ذات العلاقة الوجدانية الخالصة بين الإنسان وربه..
محمود كرم
كاتب كويتي