ما بعد دولة صدام حسين
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
من محاسن النشر في المواقع الألكترونية أن الكاتب يتلقى العديد من الرسائل التي تعقبعلى مقاله،مما يخلق حالة من التفاعل والتواصل بين الكاتب والقاريء بغض النظر عن نوعية الرسائل ومضامينها، المادحة والشاتمة فإني أعتبر تلك الرسائل زادا يستزيد به الكاتب لسعة ثقافته ومداركه، فالكاتب مهما امتلك من ثقافة وسعة الإطلاع لا بد أن ينقصه شيء أو قل أشياء،و تفوته معلومة أو إشارة هنا أو هناك من مقاله، وليس بالضرورة أن يرضي الكاتب بمقاله جميع الناس،فقد قيل قديما( رضا الناس غاية لا تدرك)، وأنا عندما كتبت سلسلة مقالاتي تحت عنوان (دولة صدام حسين) كنت أعرف سلفا أنني قد أغضب البعض ممن ما زالوا يعيشون أوهام الماضي ويحلمون بالمجد الضائع، رغم بشاعة النظام الذي حكم العراق بالحديد والنار لأكثر من خمس وثلاثين سنة، فقتل الملايين من العراقيين في مغامرات طائشة ومجنونة لا يقدم عليها من يمتلك ذرة من العقل أو الشعور بالمسؤولية الوطنية، ومع ذلك فأنا أقبل حتى النقد الذي يوجهه لي الحالمون بـ(أمجاد ) صدام، ولكن يحز في نفسي ملاحظات بعض الأخوة والزملاء الذين يفترض أن يكون عصر العولمة والأنترنيت قد فتح عيونهم ووسع من مداركهم وأغنى عقلهم بكل هذه المتغيرات التي نراها متسارعة كل يوم أمامنا عين اليقين،وأن يعيشوا واقعهم كما هو وليس في الخيال الذي لا يجيب ولا يودي كما يقول المثل المصري.فمشكلة البعض من هؤلاء هي أن كل ما يكتبه كاتب كردي يأتي من منطلق عنصري قومي، حتى الحديث عن جرائم صدام أصبح من الممنوعات على الكاتب الكردي، وهي جرائم للأسف تدخل بمعظمها في خانة الجرائم الكبرى ضد البشرية، أي جرائم إبادة شاملة رأى الكثيرون في هذا العالم المترامي آثارها وتكشفت لكل ذي بصر أو بصيرة حقائقها على الأرض من خلال عشرات المقابر الجماعية التي كشفت وتكتشف في شتى مناطق العراق.
لقد قيل في صدام حسين أثناء حكمه ما لم يقله مالك في الخمر،فقد شحن الشعراء والكتاب والمثقفون العراقيون وبعض العرب المتزلفين كل ما لديهم من طاقات فكرية لإسباغ شتى النعوت والأوصاف على هذا القائد العظيم وصل الى حد 99 لقبا في محاكاة واضحة لأسماء الله الحسنى، ولو بقي صدام في الحكم بعد الحرب الأخيرة، لكان بالتأكيد سنجده يعلن على الملأ قائلا( أنا ربكم الأعلى)، فقد كان هؤلاء يمجدون صدام كونه بانيا لمجد الأمة العربية، والقائد الضرورة،و صاحب الفكر المتنور الذي أعدت في قراءة أفكاره الديمقراطية ورؤاه الثاقبة للمجتمع الحضاري عشرات الأطروحات لنيل شهادات الدكتوراه والماجستير في عهده، وأصبح صدام بزعم أحد الأخوة المعقبين بريئا من التهم الموجهة اليه لأنه لم يرتكب تلك الجرائم عن سابق إصرار وتعمد، بل أنه إنخدع من البعض الذين لم يسميهم!
وكذا كان يفعل محامي المجرم الذي قتل ( عنايات أبو سنة) في مسرحية شاهد ما شفش حاجة، فقد بالغ المحامي في وصف موكله بالحمل الوديع والملاك الطاهر. ويبدو أن الأخ المعقب يريد أن يرتش الوجه الكالح لصدام مخرب مجد الأمة ببعض الأدعاءات التي لا تتناسب مع مستواه الثقافي كما لمسناه من مضمون رسالته.فيقول في رسالة تعقيبية أرسلها على الأيميل ما نصه(عندما يتحدث شيخاني عن مفاوضات الزعامات الكردية مع صدام و نظامه يقول: وكالعادة إنتشلت القيادة الكردية نظام صدام من أزمة خانقة كادت أن تودي به لولا دخولها الى مفاوضات سياسية معه، وإنخدع الأكراد مرة أخرى بوعود صدام وخرجوا من تلك المفاوضات بخفي حنين،فكرر التاريخ نفسه للمرة الألف بين الأكراد ودولة صدام حسين. نهاية الاقتباس، هنا نجد من "المعقول" تماما أن ينخدع "السياسي" و هو المحنك الخبير لمجرد أنه ((كــردي))!! لكن صدام المجرم و هو ((عربي)) لا يمكن أن ينخدع لأنه ((عربي)) و يرتكب الجريمة عن سبق إصرار و ترصد، إن العقلية "القومية" التي يخضع الإنسان الكردي لمنطقها، تجعله ينظر إلى المواضيع بعيدا عن الموضوعية و الواقعية و أحيانا بعاطفة تفقد العقل)"..وتعقيبا على تعقيب الأخ، أقول وأشهد الله على ما أقول أنني لم أكن في يوم من الأيام متعصبا قوميا، ولا خاضعا حتى لهذا المنطق الذي أعتبره معوجا، لأنني أعتز بانتمائي الأنساني قبل انتمائي القومي رغم أنني أعرف سلفا بانزعاج بعض أبناء جلدتي من هذا القول، وثانيا لأنني أعشق (أم كلثوم) منذ أكثر من أربعين سنة، فلم أكن قد بلغت الحلم حتى عشقتها بكل جوارحي وما زلت لا فخر، وكان من الغريب على مقاتل من البيشمركة الكردية وهو داخل خندق القتال ضد من حكموا العراق بأسم العرب، أن يستمع الى أم كلثوم بين رفاق لا يكادون يفرقون بين طه حسين وطه الجزراوي، أو بين عزيزة جلال وعزت إبراهيم الدوري.ثم إن مجرد ثقافتي العربية وكتابة مقالاتي باللغة العربية كانت تعتبر نقيصة لي من بعض رفاقي الأكراد لأنني لا أكتب كثيرا بلغة الأم رغم أجادتي الكتابة بالكردية كما العربية، بل إنني أمعنت في التحدي مرارا حتى ملئت الصحف الثورية في بعض الأحيان عن ذكرياتي ومشاهداتي لبغداد الرشيد وشوقي للقيا دجلة وسمكه المسكوف، وكان هذا كافيا للإستهزاء مني إن لم أقل تحقيرا لشأني وكتاباتي عند البعض من رفاقي وأقراني.
وفي شطر آخر من الرسالة يتهمني الأخ المعقب بعدم تعليل المفاوضات بين القيادة الكردية ودولة صدام حفاظا على الكرامة القومية، ويقول بهذا الصدد" ونظرا لتفاعله العاطفي مع النظرية القومية "الكردية"، فهو يرى جزءا صغيرا من الحقيقة الموضوعية، فهو لم يعلل تفاوض الزعامات الكردية مع صدام تعليلا علميا و واقعيا كأن يقول " أن المصالح الضيقة و الصراع الداخلي هو الذي دفعهم بهذا الاتجاه"!! لكنه بدلا من ذلك و من البداية إلى النهاية تعامل مع الملف الكردي، و هو بحد ذاته ملف معقّد، بمطاطية و تعويم لا مبرر له، اللهم إلا الحفاظ على "الكــرامــة القومــية".. وأقول للأخ المعقب" أنك لو أعدت النظر في سلسلة المقالات لوجدت أنني انتقدت جميع مراحل المفاوضات التي جرت بين الطرفين، واتهمت القيادة الكردية بأنها كانت دائما تنخدع بدخولها في مفاوضات مع الحكومة، بل أنني في عام 1991 عندما دخلت القيادة الكردية في مفاوضات مع صدام كتبت في جريدة كردية كنت نائبا لرئيس تحريها أن المفاوضات التي تجريها القيادة الكردية مع صدام لا جدوى منها لأن الطغمة الحاكمة ليست مستعدة لتلبية المطالب الكردية مهما صغرت.ومع ذلك فأن الأخ المعقب يدرك مثلي تماما أنه ليس في السياسة عداوات أو صداقات دائمة بل هناك مصالح دائمة، فهكذا هي السياسة، وإلا ما سميت سياسة.
وأود في الختام أن أورد للأخ المعقب حقيقة عايشتها بنفسي، وهذه ليست دفاعا عن القيادة الكردية من منطلق أحساس قومي مفرط أو تبريرا لها في دخولها المفاوضات مع صدام، بل هي حقيقة موثقة في السجلات والوثائق الرسمية، فعندما هاجمت قوات الحرس الجمهوري مدن كردستان إثر الهزيمة المنكرة التي مني بها صدام في حرب تحرير الكويت، وهي الحرب التي أبقت فيها الولايات المتحدة على تشكيلات الحرس الجمهوري العراقي وحدها من غير أذى كما تكشفت حقيقة ذلك فيما بعد، أرسل صدام حسين عدة ألوية من الحرس الجمهوري لإعادة السيطرة على مدن كردستان بعد أن فجر شعبها إنتفاضته الجماهيرية العارمة وحرر جميع المناطق الكردستانية بما فيها مدينة كركوك، فهرب أكثر من مليوني إنسان كردي الى الجبال هائمين على وجوههم، وتناقلت وسائل الإعلام العالمية صور المآسي التي حلت بالعوائل الكردية في طريق هذه الهجرة القسرية، وكان يموت كل يوم عشرات الأطفال والنساء الحوامل والعجائز ويدفنون على جوانب الطرق الجبلية من غير أن يستدل عليهم أحد فيما بعد،وإنتشرت الأمراض الوبائية بين هؤلاء الفارين من بطش أجهزة صدام الدموية بسبب البرد القارص الذي كان يلفحهم في شهر آذار،ولفقدان الطعام حيث أن الجميع فروا بثيابهم من دون أن يتمكنوا من أخذ أي شيء يساعدهم على الطريق، ووصل معدل الوفيات بين هؤلاء الى ما يقرب ألفي شخص معظمهم من الأطفال والناس الذين لم يتعودوا الحياة في الجبال أو الصعود عليها، لأنهم كانوا من أبناء المدن، إضطرت القيادة الكردية تحت هذا الضغط الكارثي الى قبول الدخول في تلك المفاوضات العقيمة، ولكنها أدت بطبيعة الحال الى عودة مئات الألوف منهم الى مدنهم وقراهم بسبب توقف القتال بين الطرفين، فنجوا من الموت جوعا وبردا.ويحضرني بهذه المناسبة ما قاله أحد القياديين الأكراد حول تلك المفاوضات، حيث قال" صدر قرار مجلس الأمن الدولي رقم 688 الذي يقضي بوقف الإنتهاكات ضد حقوق الإنسان ويدعو الحكومة العراقية الى الحوار لمعالجة المشكلة الكردية، وقد ذهبت الى بعض القادة الذين كانوا يستعدون للسفر الى بغداد لبدء التفاوض مع صدام، وتوسلت اليهم أن يتريثوا قليلا ريثما يندرج القرار الدولي المذكور ضمن الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة ليكون ملزما على نظام صدام حسين تنفيذه، ولكنهم تعللوا قائلين أن هناك المئات يموتون كل يوم ولسنا مستعدين لتحمل وزر هذه الكارثة" ويستطرد القيادي الكردي قائلا" لو إستمعوا الى وجهة نظري والتزموا به لكان المجتمع الدولي سيكون مسؤولا عن تطبيق ذلك القرار وكنا سنحصل على كافة حقوقنا القومية المشروعة في أي مفاوضات نجريها مع صدام من دون قتال، ولكنهم لم يفعلوا".وهذه كانت أحد أسباب دخول القيادة الكردية في تلك المفاوضات العقيمة كغيرها..
شيرزاد شيخاني
sherzadshekhani@yahoo.com