إنجاز حماس ومهمات المرحلة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
لم تشكل نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية مفاجأة كبرى للمتتبعين، بقدر ما أكدت قدرة الشارع العربي على ممارسة العملية الديمقراطية بكل حرية ومسؤولية حينما تتوفر الظروف الموضوعية لذلك، وأكدت من جهة أخرى تجذر نفوذ الحركات الإسلامية واتساع رقعة تأثيرها في مختلف مناحي الحياة اليومية.
فالحركة الإسلامية راهنت منذ نشأتها على المواقع الأكثر تقدما وحساسية خصوصا في المجال الاجتماعي، والتواصل اليومي مع المواطنين من مختلف الشرائح والفئات، وفي مقابل تهافت التيارات الأخرى على الاستحقاقات السياسية والانتخابية، بغية الوصول إلى منافذ المسؤولية ومراكز القرار، ظلت الحركات الإسلامية زاهدة في المضمار السياسي، مستهلكة لخطابها الاحتجاجي المعتاد، ومكتفية بزرع بذور التواصل والتلاحم والانصهار مع القضايا الملحة للجماهير، حتى إذا ما واتتها الفرصة، وفسح أمامها المجال للتعبير عن حجمها الحقيقي على الأرض، وجدت أصوات الناخبين تنطق بألوانها في صناديق الاقتراع في تجاوب تلقائي مع مشاريعها وبرامجها.
وحركة المقاومة الإسلامية حماس إذ تحقق الفوز في مشهد ديمقراطي غير مسبوق بالأراضي المحتلة، إنما تقطف ثمرات عملها الدؤوب المتواصل منذ أكثر من عقدين من الزمن، استطاعت في غضونهما، بنضج تنظيمي وتكتيكي كبير، اكتساح الشارع الفلسطيني من خلال انتهاجها لخيار المقاومة ومواجهة مخططات الاحتلال الصهيوني، وآلته العسكرية الجبارة، وسطرت صفحات مشرقة في تاريخ أقوى وأطول وأنبل مقاومة في التاريخ الحديث، فجاء رد المواطن الفلسطيني بسيطا، شفافا، من خلال صناديق الاقتراع، وكأنما يعبر هذا المواطن النادر المثال عن العرفان بتضحيات المقاومة وإنجازاتها، بتشريفها له، عبر تكليفها بإدارة الشأن العام الفلسطيني ومصالحه واحتياجاته الواسعة، من أمن وأمان معيشي واستراتيجي.
ومهما تكن التحليلات حول أبعاد التحول الطارئ في الساحة السياسية الفلسطينية، ومدى تأثره بتعثر اتفاقات السلام، وعدم وفاء السلطة الوطنية الفلسطينية بكامل التزاماتها تجاه مواطنيها، والحديث عن فضائح الرشوة والفساد في بعض دوائرها، والارتباك المضطرد في أداء الحركات السياسية الفاعلة في الأراضي المحتلة، وعلى رأسها حركة فتح، كبرى فصائل منظمة التحرير، ورمز النضال الوطني الفلسطيني، ومفتاح تاريخه الطويل، والتي قبلت في موقف حضاري رائع بنتائج الانتخابات، وعبر كوادرها عن استعدادهم لأداء دورهم كمناضلين ديمقراطيين شرفاء في المرحلة القادمة سواء كشركاء أو كمعارضة، بيد أن هذه العناصر مجتمعة لا يمكن أن تشكل مبررا للتنقيص من إرادة شعب اختار حرا ومسؤولا الانحياز لبرامج المقاومة وشعاراتها.
ولكن ثمة أسئلة وإشكالات واقعية وموضوعية ينبغي على حماس الإجابة عليها، والتعاطي مع تفاصيلها، لعل إشكالية العلاقة السياسية مع العدو الصهيوني أبرز عناوينها، فالأسئلة التي تطرحها كافة الدوائر السياسية والإعلامية المحلية والعالمية آنية ومشروعة، إذ كيف يمكن لحركة تحمل مشروع الكفاح المسلح لدحر الاحتلال، أن تشكل طرفا في سلطة جاءت نتاجا لاتفاقات عقدت مع إسرائيل عدو حماس اللدود؟ وهل ستمضي حكومة حماس في نفس النهج التفاوضي الذي كانت ترفضه بشدة إلى وقت قريب؟ وكيف يتأتى لها الجلوس بالبزة العسكرية على موائد الحوار وطاولات التسويات السياسية؟
لقد عبرت حماس من خلال قبولها بالهدنة وخيار التهدئة لفسح المجال أمام مسلسل المفاوضات، ومن خلال الخرجات الإعلامية الأخيرة لكوادرها، عن تحول نوعي في خطابها السياسي، يقود إلى الاستنتاج بأن حماس سوف تحاول قلب موازين القوى لصالحها، باعتبارها قوة شعبية وازنة، تمتلك الرصيد الجماهيري المحمي بالأحزمة الناسفة والرشاشات، وجاءت تصريحات مسؤوليها حول عدم ورود المفاوضات كأولوية في أجندتها السياسية الحالية لتترك المجال مفتوحا أمام إمكانية تعديل هذه الأجندة أو إلغائها حسب تطورات الوضع على الأرض، بل وإمكانية تغيير مرتقب في أدبياتها ومنطلقاتها، وبعض شعاراتها، إذ لاحظ المتتبعون للانتخابات كيف أن حماس رفعت شعارات إصلاحية جعلت من المقاومة إحدى ثوابتها، ولكنها لم تشر أبدا إلى إزالة دولة إسرائيل من الوجود، بل إن تاكيد قياداتها على تأييد حماس لإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس على أراضي 67، كشرط لإقامة هدنة طويلة الأمد مع الكيان الصهيوني، هو دليل على تحول مبدئي في الخطاب السياسي للحركة، يرى البعض أنه استلهام لتجربة المقاومة الإسلامية اللبنانية في محاولة جر الطرف الإسرائيلي إلى تقديم تنازلات بلا تبادل اعتراف أو تعامل مباشر.
إن مهمة إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني على أساس تصورات وبرامج مستمدة من المنهج الإسلامي ومن خط المقاومة، هي إحدى أكثر المعالم خطورة وحساسية في المرحلة القادمة، نظرا لطبيعة حركة حماس كتنظيم سياسي وعسكري إسلامي، ونظرا أيضا لأن درجة استعداد الفصائل الأخرى غير الإسلامية لعقد شراكة مع الحاكمين الجدد قد تتضاءل بفعل الاختلاف الضارب في العمق على مستوى المرجعيات ووجهات النظر، وبالتالي فالمهمة تبدو غاية في الصعوبة، خصوصا في حالة عدم وجود شريك قادر على اقتسام أعباء المسؤولية، أو معارض متفهم لطبيعة الانتقال المفروض عبر الآلية الديمقراطية.
وعليه فإنه يبدو مفروضا على حماس، التعامل بمنطق مختلف مع الوقائع، فموقع المعارضة من خارج السلطة الذي مارست من خلاله الحركة مواقفها طوال سنوات، لا يكلف كثيرا من العقود والالتزامات، بينما الحال الآن على النقيض تماما، فحماس الآن ملزمة بالتعامل مع العالم كممثل للشعب الفلسطيني سواء من خلال واقعها الجديد كحكومة أغلبية ديمقراطية، خصوصا إذا نجحت في جعلها حكومة وحدة وطنية، أو من خلال منظمة التحرير الممثل الفعلي الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني على المستوى الأممي، وهي ملزمة أيضا بإنعاش مسلسل السلام العادل والشامل كما تتوق إليه شعوب المنطقة والعالم، وستجد نفسها أمام ضغط دولي كبير ينبغي توفر قدرة هائلة من الديبلوماسية والمناورة من أجل تدبيره وتحويله إلى طاقة عمل لصالح الشعب الفلسطيني، مثلما هي حريصة على توفير وضع اجتماعي واقتصادي بديل وملائم لتطلعاته واحتياجاته.
لقد كان الوضع الفلسطيني دائما قاطرة التحول في الأوضاع العربية الداخلية، إذ طالما اعتبرت القوى الوطنية والديمقراطية في البلدان العربية قضية تحرير فلسطين قضية مركزية في حركتها وأدبياتها، ولطالما اعتبرت حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين نموذجا يحتذى لدى باقي الجماعات والحركات الإسلامية في الوطن العربي، واليوم، تجد الحركات الإسلامية العربية على الخصوص نفسها أمام واقع جديد، فإحدى مكوناتها الأساسية تقود الآن العمل الوطني الفلسطيني، وقد تتعامل مع عدوها العقدي والتاريخي، وقد لا تستطيع تحقيق الكثير في ملف اللاجئين وفلسطينيي الشتات، وقد تتنازل ولو جزئيا مقابل تأمين حاجيات حيوية بيد إسرائيل مثل المياه والكهرباء، وقد تضطر للتخلي عن سلاح المقاومة، وقد تغير بعضا من منطلقاتها وأسس وجودها.
فهل يكون هذا التغيير عنوانا مغايرا لمرحلة جديدة تدخلها الحركات الإسلامية بالوطن العربي؟ هل ستعترف هذه الحركات بإسرائيل في حالة وجود تفاهمات مع حماس؟ وهل يمكن اعتبار التحول السياسي في الأراضي المحتلة، مؤشرا على بدء تحولات أعمق في الخارطة السياسية بداخل البلدان العربية؟ وكيف ستتعامل الأنظمة العربية مع هذا الوضع الجديد؟ هل ستبقى وفية لالتزاماتها مع القضية؟ أم أن مسلكية الوافد الجديد هي التي ستفرض طبيعة هذا، ورد فعل ذاك؟.
سعيد مبشور
كاتب مغربي
mabchour@myway.com
الدار البيضاء