بالعقل!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
ينبغى أن يسألنى أحدهم الآن عمّا أعنى بالضبط بهذا العنوان.. وأنا معه أتساءل: ما هو العقل هذا؟ أين نجد هذا الجسم الغريب؟ ماهى صفاته؟ أهو جسم حقــًا وكينونة أم مجرد رمز أو فكرة؟ هل هو جزء من تكويننا أم أنه ملكة أو صفة يختص بها البعض دونـًا عن الكل؟ من هو العاقل إذن وكيف نعرف أنه كذلك لو قابلناه صدفة فى الطريق؟ هل أصبح العقل شئ نادر الوجود حتى نسينا مكنونه؟ هل نقابل الكثير من العقلاء فى حياتنا اليومية؟.. هل أصبحنا كائنات "عاطفية" نفهم بقلوبنا, و"نحس" بشئ مثلا فنحكم أن فلان صادق أو أمين أو أن "وشه حلو علينا" فنرحب به ونحتضنه.. أو بعيد الشر, خبيث أو شرير أو "عينه وحشه" فنتجنبه ونحتاط منه؟.. بل وحتى فى أمور السياسة نقول أن البلد هذه "ناس جدعان" أو "رجالة" وهذا الرئيس "شهم وشجاع" أو على الجانب الآخر "ساذج وغبى", وتلك البلد "كذابة" و"ملاوعة" و "تكيل بمكيالين"؟ هل نحكم "عقولنا" أم "قلوبنا" عند قراءة جرائد الصباح؟
الذى دعانى لكتابة هذه الكلمات الآن هو العديد من التصريحات والأخبار اللامعقولة ـ فى نظرى ـ التى طفت فوق صفحات الجرائد أمامى مؤخرًا, والتى جعلتنى أتساءل عن العقل وماهيته.. وهل غاب بغير عودة أم أنه (راح مشوار وزمانه جاى) ولكن من أنا لأحكم بالعقلانية؟ ربما كان من "العقل" إذن أن أشارككم فى إشكالاتى وخواطرى هذه ثم نعاود السؤال فى النهاية لعلنا نجد الإجابة سويًا.. وذلك لأننى أثق فى فطرة المصريين وخبرتهم الحضارية المتراكمة عبر العصور, فنجدهم يستوقفوك إذا (سرحت حبتين) فى الكلام فيقولوا "معقوله؟" أو يحتجوا أمامك عند مناقشة أمر مستعصى على الفهم, فيشيروا إلى جانب الدماغ بإبهامهم, ويسخرون قائلين "طب إعقلها انت".. إذن فإستحضار "العقل" مطلوب وموجود عند الضرورة, حتى فى الثقافة الشعبية, حينما يطل أمر غريب أو شاذ, لا نستطيع التعامل معه بدون تواجد حُكم العقل..
المشهد الأول: قرية العديسات بالأقصر, والناس الغلابة ـ وأنتم طبعًا خير العارفين بلفظ "الغلابة"ـ يفاجأوا بالنار والتراشق بالطوب وسرقة ونهب المواشى والممتلكات والتظاهرات لأعداد غفيرة من الأفراد المجهولين لديهم, تحيط بمنازلهم وبكنيستهم الوحيدة, فيكتنفهم الذعر الممزوج بالفقر وقلة الحيلة, فيسقط بينهم قتيلين, رجل بالغ وطفل فى التاسعة, والعشرات من الجرحى, وضحايا الهلع المنهمر فوق الرؤوس.. نسمع أهل القرية يتذمرون من تباطؤ جهاز الأمن ـ أو تواطؤه ـ وعن إعاقة وصول سيارة الإسعاف لإنقاذ المصابين.. ثم نقرأ تكذيبات المسؤولين (فى الركن البعيد الهادى) على صفحات الجرائد, فيشاع بأن الرجل قد تزحلق فسقط على أم رأسه فمات! "معقول؟" يصرخ أحدهم, فهذا كلام لا يملأ الدماغ..
المشهد الثانى: طلع علينا الشيخ (فلان) قبل أيام ليفتى ببطلان الزواج إذا ما تعرى أى من الزوجين أمام الآخر أثناء ممارسة الجنس! "معقولة؟" قرار فورى وملزم ـ وبأثر رجعى ـ ببطلان الزواج! ثم ما هى عواقب ذلك البطلان؟ لو لم نحَكم "العقل" وصدقنا تلك الفتوى, فلنتعقب معًا مشهد من حياة أحد هؤلاء المتعرون, حتى لو كان ذلك المشهد قد حدث مرة واحدة ولم يتكرر.. فى صيف عام ألف وتسعمائة و ستة وستين, فى لحظة صفاء ونشوى, جلسة بين زوجين فى مقتبل العمر, جمعت بينهما جدران بيت وأبواب موصدة.. وحدث أن إستمعا إلى خطاب مؤثر للزعيم الخالد ـ قبل النكسة ـ ملأ الزوج من بعده بعبق الرجولة, وإنتشى بعدوى الفحولة مع عبارات الزعيم الرنانة عبر الأثير, فإهتزت مشاعره وقام وأحكم إغلاق ضلف النوافذ ـ بعد ما إنتهى الخطاب طبعًا ـ وإحتضن زوجته الشابة ـ حينئذ ـ وخلع عنه ملابسه, لأن الدنيا كانت حر ليلتها حيث النوافذ موصدة, وعمل عملته ليلتها, وشعر بالفخر بعدها, حيث لم يكن يدر يومها أنه تعرى أمام زوجته فبطل الزواج! نعم.. مايزال يعيش فى الحرام مع إمرأة غريبة عنه وقد إمتلأ بيتهم بالأبناء والأحفاد.. أولاد الحرام.. وكل هذا بسبب الزعيم الخالد وخطبه الرنانة! "طب إعقلها أنت بقى!" .. أو هيا بنا نتابع سويًا أحداث المشهد الثالث..
قبلها بعدة أيام كانت البلد قد إمتلأت حديثــًا عن فتوى إرضاع الكبير, والتى شاهدت عنه برنامجًا مثيرًا عبر إحدى الفضائيات, أصر من خلاله الشيخ الموقر ـ صاحب درجة الدكتوراه ـ على موقفه من الفتوى, زاعمًا بأن إتيانه بها مستمدًا من غزارة علمه وتخصصه الذى لايضاهيه فيه الإمام الشافعى نفسه! "مش معقول" قالها صديقى بعفوية عرَّت تلك الأطروحة من كل المحاورات المنطقية, والإثباتات, والدلائل, التى كان يأتى بها لبرهنة صحة فتواه.. لا يعقل أن يكون هذا هو حكم الشرع على البشر, فقديمًا قالوا "لايصح إلا الصحيح".. إذن لا يمكن أن يكون حل إشكالية تواجد المرأة فى المنزل مثلا مع رجل غريب عنها, وإن كان أحد مخدوميها, يكمن فى أن ترضعه المرأة, فيصير تواجده حولها مباركًا من وجهة نظر الخالق!.. أيعقل أن يكون وقع بصره عليها وهى فى كامل ملابسها أثقل وطأة من تعريها أمامه ورضاعته من ثدييها؟ ...
ولكن لم يقتصر ذهولى عند أصحاب الفتاوى من المعممين, أو حتى من ناحية شرقنا الأوسط الذى بات متناهيًا فى السلفية.. ففى المشهد الرابع المطل من العالم الجديد وبالتحديد من الولايات المتحدة الأمريكية, حيث "أفتى" إلينا الزعيم الدينى "بات روبرتسون", صاحب "منتدى السبعمائة" الأمريكى الشهير والمرشح السابق للرئاسة, قبل أيام قلائل بأنه يعلم بأن إصابة "شارون" بجلطة ونزيف دموى فى الدماغ , لم يكن إلا عقابًا سماويًا لإسهامه فى تقسيم "أرض الرب" و إستهتاره الذى دعاه أن يتنازل عن "غزة" للفلسطينيين, وأن ذلك العقاب الإلهى ـ أو اللعنة ـ سوف تلاحقه هو وكل من يتجرأ من بعده سواء من الإسرائيليين, أو الأمريكيين, أو حتى من دول الإتحاد الأوروبى, على التفريط فى أرض الرب هذه.. وكأن هؤلاء الفلسطينيون ليسوا أولادًا للرب خالقهم وراعيهم كما يرعى جميع أبناءه.. بل وكأنه هو قد إمتلك, دونــًا عن باقى البشر, معرفة مشيئة الله وحكمته, بل وغضباته وعقاباته, فيوزع آراءه المريضة تلك فوق رؤوس العباد, بلغة العالِم ببواطن الأمور.. يا رجل أحكم بالعقل! شارون فى السابعة والسبعين, ومثخن بسمنة فائقة وبمرض بتنظيم ضربات القلب, فهل يتبادر لنا أول ما يتبادر, حينما يصاب بجلطة وشلل, أن ذلك كان عقابًا من عند الله! معقولة؟..
ولم يختلف المشهد الخامس كثيرًا.. فعقب تصريح روبرتسون, ثم إعتذاره عنه, طالعنا الأسبوع الماضى السيد "ريىّْ ناجين" عمدة نيو أورلينز, تلك البلدة التى أطاح بها إعصار كاترينا فى الصيف الماضى, بأن ذلك الدمار لم يكن إلا إشارة بأن الله غاضب على أمريكا, وعلى السود منهم بصفة خاصة.. هكذا!! يغضب الرب فيقتل الألوف ويدمر منازلهم ومدنهم, ويشرد أطفالهم وييتمهم!! ثم ماذا عن الصالحين من بينهم؟ أيدمرهم (بالمرّه)؟ ثم ماذا عن الكوارث الأخرى التى حدثت, وتحدث كل يوم, وفى كل مكان؟ أغاضب الله على الأندونسيين والهنود والباكستانيين والأتراك و.. ثم لنفترض أنه غاضب على جماعة ما من البشر, أيبيدهم هكذا بدون رحمة أو إنذار ويدمر معهم آلاف الأبرياء!! وأخيرًا دعونى أتساءل "بعقلى" وأقول هل يعنى نجاة البلايين من البشر من تلك الكوارث المحيقة, والمجازر الإلهية, بأن الرب راضى عنهم وعن أفعالهم؟.. علمًا بأنى لم أشر بعد للرئيس الايراني محمود احمدي نجاد الذى قال إن اسرائيل كائنـًا سرطانيًا ويجب "محوها من الخريطة" .. ولا عن وزير التعليم المصرى الذى قرر فجأة فى منتصف العام الدراسى أن يتعطل العمل بالمدارس يومى الجمعة والسبت والمواد التى كانت ستدرس يوم السبت من كل أسبوع الظاهر أنها لم تكن مقررات (بنت ناس), وعلى رأى شويكار فى فيلم شنبو فى المصيدة "شئ لا يسدكه عكل"..
شريف مليكة