أصداء

مدخل لفهم حقيقة ما يجري في العراق

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

حرب... لا حرب

منذ تزايد الازمات وغياب الحلول وهيمنة الرؤى الضيقة وفتور الحس الوطني وبعد حادثة سامراء كثُر القول عن حرب اهلية بين طوائف العراق واشتدت الجدل بين من يعتقد بوقوعها وبين من يصر جازما بلا وقوعيتها، اطراف هذا القول والجدل يكاد يكون الجميع من ساسة ونخب واعيان وعامة الشعب. تهدف هذه المقالة الى تقديم رؤية مغايرة ( في نظر الكاتب ) حول السجال الدائر بين نفيها من جهة والقول بنشوبها من جهة اخرى، وقلت (مغايرة) لانني اعتقد ان كلا من الطرفين قد تطرفا في إجابتيهما وتقيمهما لما يجري على الساحة العراقية. سأحاول هنا ( اولا) الوقوف عند مشروعية الفوبيا العراقية من نشوب حرب اهلية خصوصا عند انسان القاع العراقي الذي اشّر للساسة العراقيين تفوق حسه الوطني ونضج ادراكه لحجم الطوفانات الحاضرة والقادمة، بعدها سأتناول بقراءة (مفهومية) مصطلح الحرب الاهلية مقارنا مفهومه الشائع مع ما اعتقده من مفهوم جديد للحرب الاهلية من زاوية الاليات والوسائل موضحا كيف ان وسائل الحرب الاهلية تبدلت وتغيرت لتناسب التحولات الكبيرة في القرن الواحد والعشرين، ثم اختم مقالتي بِرهان اللاحرب (المؤقت) من وجهة نظري.

الفوبيا من الحرب
ثمة مخاوف حقيقة تجول في نفوس وخواطر وعقول العراقيين من تفجر فتنة اهلية بين الطوائف والمذاهب تأتي على بقية امل بعراق ديمقراطي آمن. مخاوف مشروعة لاريب ارجعها البعض لتدخلات أجنبية إقليمية ودولية، وعزاها آخرون لمؤامرة داخلية.
هنا لا اروم دراسة هذين العاملين وتوابعهما ومدى مصداقيتهما على ارض الواقع، بل سأخذ عاملا اخرا جوهريا ( بنظري ) يكاد يكون مرجعا لبقية أسباب هذه الفوبيا. العامل هو داخلي ( جواني ) يعود الى بداية تصير الدولة العراقية في العقد الثاني من القرن العشرين المنصرم حيث ان الآلية التي على أساسها شيدت بها الدولة وتأسست لم تكن آلية وطنية عراقية محض، بل كان التأسيس لهذه الدولة تأسيسا قوميا من جهة وطائفيا من جهة أخرى هذا التأسيس اللاوطني للدولة العراقية الحديثة هو باعتقادي يشكل أساس المشكلة التي تصيب الآن العراقيين جميعا، حتى الذين ساهموا بتشييد ذلك الصرح اللامتوازن.
قلت انه تأسيسا قوميا من جهة بسبب انه اقصى ولم يعترف بحقيقة الديموغرافية العراقية المختلفة، كان تأسيس الدولة عروبيا قوميا وكان زعيمه ابنا لزعيم الثورة العربية، هذا البناء اشعر بقية القوميات والاقليات غير العربية بأنها مهمشة وانها على درجات ادنى من شقائهم الاكثرية.


واما التأسيس كان طائفيا من جهة ثانية، ذلك انه كان حكرا ( بدرجة كبيرة ) على طائفة واحدة من طوائف العراق وهي الطائفة الأقل عددا إزاء الطائفة الاخرى في الجنوب والجنوب الوسط مما أشعرها أيضا بالغبن والتهميش وعدم مساواتها مع الطائفة الحاكمة. وهو ما جسدته الأنظمة المتعاقبة منذ التاسيس حتى يوم السقوط. هذا البناء الخاطئ للدولة العراقية هو برأيي وراء هذا الاحتقان السياسي والقومي والعراك الديني والمذهبي في العراق. فلو كان البناء آخذا بعين الاعتبار حقيقة التنوع الفسيفسائي في العراق لما وجدت مثل هذه المخاوف الحقيقية من الحرب ولشعر الجميع بانهم عراقيون لا مسلمون ومسيحيون ومندائيون وآشوريون وعرب وأكراد وتركمان كما يشعرون الآن.

حرب
مصطلح الحرب الاهلية هو كأي مصطلح آخر خاضع للتقلبات والتحولات والتغيرات التي حدثت في العقود الاخيرة واثرت كثيرا في تغير دلالات الكثير من المفاهيم والمصطلحات لذا اجد من المنطقي أن نقف مع المفهوم لنرى هل ما زال محتفظا بذات المعنى وبوسائله القديمة الغابرة ام ان الامر تبدل. كان ينتقل الذهن ( في ما مضى) عندما نسمع بحرب اهلية مباشرة الى حرب المدن والشوارع والأزقة.. فهل ما زال كذلك ؟. وهل ان اختفاء المدينة والشارع والزقاق من الحرب وانتقالها الى ساحات اخرى اكثر فتكا ينفي عنها سمة الحرب الاهلية ؟.
النفي جواب لكلا السؤالين.. فقد حلّت ساحات ووسائل جديدة بدلا عن تلك البدائية القديمة في الحرب اهم منها واكثر فتكا ودمارا وهو ما سأوضحه.
معيار نشوب الحرب الاهلية كان (في الغابر ) الشارع او المدينة وعبرهما يتم الاعلان الرسمي لبدأ الحرب، اما الان فإعلانها (وخصوصا في العراق) لم يعد عبر الشارع بل انتقل الى وسائل اكثر تطورا وانتشارا ونتائجها اكثر خرابا وضحاياها اكثر عددا واهم هذه الوسائل التي يشتغل عليها صانعو الحرب وعرابوها لإشعال نزاع اهلي في العراق بين أبنائه وطوائفه هي :
1- وسائل الاعلام
تعتبر وسائل الاعلام بأضلاعها الثلاثة المقروءة والمسموعة والمرئية وسيلة مهمة يمكن لوحدها ان تشعل عراكا اهليا في العراق او تؤسس لمثل هذا العراك. وجماعات الشر في الداخل العراقي والخارج ادركت اهمية هذه الوسيلة ونجحت في جر عشرات الصحف والقنوات الاذاعية والتلفزيونية للعمل على الدفع باتجاه الحرب عبر ما تثيره هذه القنوات من نعرات طائفية وتاجيج للعواطف الدينية والمشاعر القومية وهو ما يتم العمل عليه في العراق حاليا.
2 - دور العبادة
من مساجد وحسينيات وكنائس وغيرها من أماكن العبادة التي يمكن استغلالها وتحويلها من منابر للايمان والعبادة والخلاص والمحبة الى منابر تبث الكراهية والبغض وتثير المشاعر تجاه الطوائف والقوميات والاديان المتنوعة. وهي وسيلة مهمة لا تقل خطورة من وسائل الاعلام اذا لم تكن اكثر نفوذا وتاثيرا في النفوس والعقول بسبب ما تستخدمه من خطاب ديني مقدس. وقد تمكن العاملون على ايجاد الحرب من استغلال بعضها لتمرير مخططاتهم الدنيئة.
3 - الاحزاب والتجمعات والمنظمات
وهي الوسيلة الثالثة من الوسائل التي نعتقد بإمكانية توظيفها والزج بها للترويج الى صراع أهلي في العراق والاشتغال على إحداث اقتتال داخلي لمصالح ومكاسب فئوية ضيقة لها. وقد استطاعت بعض الاطراف من تاسيس احزاب وهيئات تعمل في السر والعلن لاشاعة الفوضى والكراهية، بينما اتجهت اطراف اخرى الى الاستفادة من كيانات وتجمعات قائمة لبث سمومهما والنيل من الانسان العراقي. كما ان هذه القنوات المختلفة (إعلام،أحزاب ومنظمات، دور عبادة ) نجحت في زرع الشكوك في نفوس الطوائف والمذاهب تجاه بعضها الاخر لما يحصل لها من تطهير وابادة وقتل حيث اضحى معظم العراقيين عندما تحل عليهم كارثة يحيلوها ( نفسيا ) الى اعمال طائفة اخرى وهكذا بقية مواطني الطوائف والمذاهب المختلفة. وهذه مرحلة مهمة جدا لخلق النزاع، مرحلة تعد المواطن وتهيئه للقيام بالاقتتال.
يتأسس مما تقدم اننا اذا اقتنعنا باهمية الوسائل آنفة الذكر وانها اكثر ايلاما وتأثيرا أمكننا ان نجيب عن سؤال (حرب او لا حرب) بـ( نعم ) ثمة حرب اهلية تشتعل في العراق، واذا بقينا نرفض ونصر على ضرورة تحقق حرب المدينة والشارع والزقاق، فالجواب هو النفي، وهو بتصوري مكابرة وتبسيطا وابتعادا عن حقيقية ما يجري في العراق.
ومع ايماني ان ثمة حرب اهلية تدور رحاها في العراق، بيد انها ما زالت تفتقد الى
اطرافها الاساسيين وهم الطوائف والمذاهب والقوميات او على اقل تقدير تحتاج الى تجاوب وتفاعل منهم وهو ما لم يتحقق حتى اللحظة اذ انها ما زالت مقتصرة على طرف واحد هذا الطرف ليس طائفيا او مذهبيا او عرقيا وانما طرف عناصره بعض الساسة ورجال الدين واهل الثقافة، طرف وحّده الكيد والشر بالعراق وطوائفه وقومياته.

رهان اللاحرب
مازال ثمة رهان او اكثر يمكن التعويل عليه في عدم انجرار وانزلاق طوائف العراق نحو صدام اهلي مباشر.
اهم رهانات عدم الحرب بالمعنى ( التقليدي) هما رهانان يتمثلا بالاسرة العراقية (وهو الاهم) والتجارب السابقة للدول التي ذاقت مرارة الحروب الاهلية وانكوت بنيرانها.
الرهان الاول : الاسرة العراقية
الاسرة العراقية بتنوعها وألوانها العرقية والدينية الجميلة التي تكونت عبر تصاهر وتزاوج بين ابناء العراق جعلت كل اسرة عراقية عبارة عن عراق مصغر. هذا التنوع (يمكن) ان يمنح الجميع اطمئنانا بان شبح الحرب الاهلية (ربما) يبقى بعيدا عن العراقيين، إلّا ان تكون (اولا) بين الاسرة العراقية الواحدة ( الاب والام الزوج والزوجة ) ومن ثم يمكن القول بانتقال عدوَتها الى بقية العراقيين وهو ما يبدو على (درجة كبيرة) من الاستحالة. فلو كانت الاسرة العراقية منغلقة على انتماءاتها الدينية وأعراقها وطوائفها كما هو الحال في معظم الاسر التي شهدت بلدانها نزاعات اهلية كالاسر الامريكية والاسبانية ابان العراك الاهلي، فالاولى كانت منغلقة عرقيا(العنصر الابيض) ومذهبيا(المذهب الكاثوليكي) والثانية مذهبيا ( المذهب الكاثوليكي ) لجزمنا ان الحرب قادمة لا مناص، بيد ان قبول هذه الاسرة (الذي مازال مستمرا ) بمصاهرة عوائل ذات انتماءات مغايرة (يعيق) حدوث نزاع اهلي حقيقي في العراق.
الرهان الثاني : التجارب السابقة للشعوب
التجارب المريرة والمأساوية للشعوب التي عاشت حروبا طائفية وعرقية تاركة اعدادا مخيفة من القتلة والمعاقين ومخلفة دمارا وخرابا كاملا وشاملا لكل مرافق الحياة أعطت وتعطي دروسا للعراقيين ان نشوب نزاع لا يأتي الا بنتائج مروعة لجميع الاطراف وليس ثمة غالب او مغلوب، الموت والهلاك والخراب سيعم الكل دون استثناء. اذن الحوصلة المخيفة للتجارب المدمرة (يمكن) ان يراهن عليها العراقيون في عدم تفجر صراع اهلي بينهم.

حرب.. لا حرب
حاولت ان اكون ما استطعت عبر مقالتي واقعيا الى درجة كبيرة مشخصا خطورة ما يجري في العراق واضعا بعض الاجابات بين ( قوسين ) قناعة مني بعدم جدوى التشخيص المثالي (البارد ) للحالة العراقية من جهة وتاكيدا ان النزاع الاهلي
(التقليدي) في العراق على شفة حفرة اذا ما بقي الحال على حاله واذا ما ظل المستفيدون والمروجون يشيعون خطاباتهم دون رادع اخلاقي وانساني في الدرجة الاولى ووازع وطني في الدرجة الثانية.
الخلاصة ان حربا اهلية تجري في العراق تتجسد بـ(هجوم على المساجد ودور العبادة، اغتيال علماء ورجال دين، اختطاف، تطهير طائفي، تطهيرعرقي، تهجير، نزوح، ) والضحايا كثر ربما جاوزوا ضحايا بعض الحروب الداخلية، بيد انها ما زالت معلنه من طرف ( غير شعبي )، من طرف يشارك منهم الآن علنا في ما يسمى بالعملية السياسية، ويساهم آخر من وراء الحدود (من الشرق او الغرب) في خلق أجواء مناسبة عبر عملاءه لإيجاد صدام أهلي بين طوائف العراق.
بالرغم من الرهانين المتقدمين يبقى الصمود ذا حد وتبقى قدرة الطرف الشعبي رهن تحسن الاوضاع وضمور الاحتقان وغياب الخطابات الطائفية وإلّا فانزلاق الشعب نحو الحرب الأهلية يبقى قاب قوسين او أدنى خصوصا وقد هيأ وعد من قبل الاطراف الانفة التي تدفعه يوميا لإعلانها.


علي الحسيني

ali_alhwsini@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف