نجيب محفوظ من المحلية إلى الكونية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
حين يكون الغياب أكثر حضوراً ما الذي بوسع الموت أن يفعله ؟! سؤال يصدع كياننا الروحي بعشرات من الأسئلة المؤرقة، ويفيض بدهشةٍ لم تبددها أربعون يوماً مرّت على رحيل الروائي العبقري نجيب محفوظ.
إن الحديث أو الكتابة عن رجل بقامة محفوظ، بكل ما ورائه من تاريخ طويل ناهز القرن أو كاد، يبدو أمراً صعبا إن لم يكن مستحيلاً، ذلك أنه استوفى في حياته المراحل المختلفة بكل توتراتها وقلقها سواء في سلوكه الشخصي أو إبداعه العظيم.
لقد خاض محفوظ في إبداعه المجالات "الصميمة" في حياة الإنسان بأرفع المضامين الفنية راصداً تحوّلات بيئية واقليمية وكونية لا يستطيع التوليف بينها إلاّ قلم عبقري متفرّد، فقد أطلّ محفوظ على العالم من الحارة المصرية وأدخل تقنيات في العمل الروائي والقصصي جعلت من امكانية التواصل مع الثقافة العالمية شيئاً يسيراً وليس هماً أو مشكلة بحد ذاته.
وخلال المسيرة الفنية والابداعية الباذخة كُتبت عشرات الرسائل الجامعية والكتب عن محفوظ لكن أوصافاً للرجل "الظاهرة" تبقى عالقة في ذهن المتلقي بحسب انشغالات هذا المتلقي وتواصله.
واعتقد ان اكثر هذه الصفات قوة والملتصقة بمحفوظ هي "مورخ الطبقة الوسطى" أو "عاشق الطبقة الوسطى".
ويستطيع الباحث أو المهتم بأدب نجيب محفوظ تتبع هذه الصفة في كل أعماله وكذلك في حياته الشخصية ومواقفه السياسية المباشرة من القضايا التي شغلت الرأي العام حينها.
وحتى البدايات الروائية لمحفوظ التي تناول فيها التاريخ المصري الفرعوني كـ"رادوبيس" و"عبث الأقدار" و"كفاح طيبة"، كانت تمثّل تعبيراً عن حاجة الطبقة الوسطى إلى مفهوم خاص للهوية المصرية يمكن أن يتيحه ربط أجزاء التاريخ المصري الذي يصرّ المثقفون المصريون - ومنهم محفوظ - كثيرا على تماسكها بغير نشاز كسبيكة وحاصل للحضارات والشعوب التي حكمت في مصر منذ الفراعنة وحتى اليوم.
وخلال ذلك تتلاقى وتتقاطع مسارات الأحداث الكبرى في رواياته وأعماله من حقائق الأديان الكبرى إلى الانسداد السياسي والفساد مروراً بهذا الهاجس الجنسي الملح الذي يحكم أبطالاً مأزومين به وبطلات واقعات بين مقتل الشّبق وقوة التقاليد.
ولم تكن المؤاخذات أو الطعون على محفوظ في وقتها صحيحة إلاّ بحدود حاجة الباحثين والنقاد الأدبيين إلى تقويم نجيب محفوظ ومساعدته في رسم مسارات أعماله الابداعية بما يخدم حاجة المجتمع الروحية الى إبدعات بمستوى أعمال الرجل.
وبالفعل كان هناك من يؤاخذ محفوظ على الاعماق السيكولوجية (النفسية) التي تعامل بها مع شخصياته بما يضفي عليه دور المحلل النفساني لا الروائي المنطلق. ولا اعتقد ان ذلك صحيحاً لأنه من حيوية النقد الأدبي بمواجهة النص المبدع. ومن المنظور نفسه هناك من يؤاخذ محفوظ على ولعه بالتاريخ المصري وبالذات في مرحلة البدايات وأنا اعتقد ان ذلك بقي هاجسا رئيساً لدى محفوظ في إمكان وصل التاريخ المصري ببعضه.
وليس غريباً بهذا الصدد ان تكون اهتمامات محفوظ الأولى فلسفية بحتة وقد اختار ان يدرس الفلسفة في جامعة الملك فؤاد "القاهرة حاليا"، والتي حصل منها على درجة الليسانس عام 1934م، وكتب مقالات أولية في الفلسفة على صفحات الجرائد المصرية حينها.
من نحن.. إجابة المثقف
إن سؤال الكويتيين الآن - على سبيل المثال - عن من هو الكويتي هل يشكّل ملعباً للسياسيين وحدهم تقريباً دون وجود ثقافة بأبعاد روحية عميقة وفنية عالية تسهم في الاجابة عن هذا السؤال؟
لقد تولَّت الثقافة المصرية الاجابة أو المساهمة في الاجابة عن هذا السؤال "مصرياً" بأقلام طه حسين (( ثقافة البحر المتوسط )) وأحمد لطفي السيد (( الفرعونية )) وحسن البنا (( الجامعة والخلافة الإسلامية )) وغيرها. فيما عبر نجيب محفوظ عن هذه الاتجاهات صاهراً اياها في بوتقة الفن الرفيع المستند الى سؤال الوجود المبدع والقلق الوجودي الخلاّق.
فقد صاغ محفوظ شخصياته عبر هذه الأجواء الملتبسة والمتحوّلة واستطاع كأي مبدع كبير وعلى مدار التاريخ البشري ان يعطي الصفة الكونية للشخصية المحلية، فأوجاع هؤلاء محلية في الأساس وكونية في المدى والمنظور ويبقى الفارق دائماً في صياغة قلق الإنسان العام وبحثه عن أسرار الوجود في الصياغات الفنية الرفيعة وليس فقط الموضوعات الكبيرة.
وبقيت شخصيات محفوظ النسائية والرجالية حاضرة في ذهن القارئ العام والمثقف المختص والأكاديمي ولا يمكن لقارئ الأدب العربي عموماً والرواية العربية بشكل خاص ان يسقط من ذائقته أو ذاكرته شخوص تصارع الأقدار وتجد نفسها دائما في مأزق المدينة التي ترفض التحوّل، وعند هذه النقطة يجب الإمساك بفلسفة محفوظ في رؤيته للمجتمع والشخصية المصريتين.
فقد اعتمد محفوظ مركزياً على فكرة "البطراركية" أو "الأبوية" أو "التملك" التي صاغ عبرها أبطاله التسلطيين مثل "سي السيد في الثلاثية" و"الحرافيش" وكان في كل ذلك يضع تلك الشخصية وذلك المجتمع أمام قدره ومسؤولياته في تحدي الحضارة والمدنية. إن شخصية الحرفوش أو ذلك الهامشي الذي يفرض نفسه على المدينة وقيمها على الطبقة الوسطى تمثل استقراء عجز عنه العلماء والباحثين في علوم الاجتماع والنفس ولربما الفلسفة أيضاً.
إن الهاجس العام لشخصيات محفوظ كان حول الفقر والجنس والحرية وهي موضوعات مترابطة تعبّر عن تحوّلات المجتمع المصري والعربي. وقد اتيح لمحفوظ التعامل مع شخصيات بهذا المنحى دون ان ينتزعها من سياقها الروحي أو الاجتماعي أو التاريخي أو الطبقي.
فقد كان وفياً يتعاطف مع الأيديولوجيات والتيارات كافة، يسمع للماركسية ويتفهّم بعمق النزعة الدينية ويحاور كثيراً الفوضويين ويعطي مجالاً أوسع للوجوديين، ولعل التقاطع بين محفوظ وبين كل هذه التيارات على اختلافها أنهم جميعا باحثون عن خلاص مجتمعي يتقاطعون فيه ويتحاربون، يلتئمون ويتفرقون في ملحمة الحياة الكبرى داخل المجتمع وصيرورته.
التجريبية عند محفوظ
وبعد انتقال محفوظ من المرحلة التاريخية إلى الواقعية والحديث عن مشكلات المجتمع كما في روايات "القاهرة الجديدة" و"بداية ونهاية" و"زقاق المدق" و"خان الخليلي"، دخل في مرحلة التجريب المنضبط، وهو على العكس من التجريب الذي أودى بالتجارب الشعرية والروائية والتشكيلية للمبدعين العرب لأنه لم يستند إلى مرجعيات واضحة في نفوس هؤلاء المبدعين، فتغلّب الشكل لديهم على المضمون وفق مناخات التراجع الحضاري التي يعيشها هؤلاء وهي نفسياً التي تخلّص منها الروائي العالمي جابرييل غارسيا ماركيز مثلاً عندما أبدع الواقعية السحرية دون أن يسميها أو يخطّط لها والتي استطاعت احتواء مشاكل وهموم بلاده كولومبيا والاقليم اللاتيني كله ثم أفرز عمق التناول وفنيته عالمية وجدارة لهذا الأدب يستحقها بالفعل.
وبتطوّر الواقعية عند محفوظ نحو الرمزية كما في روايات "أولاد حارتنا" و"السمان والخريف" و"اللص والكلاب"، فإنه يصعب على المتتبع تبيّن حدود المذاهب الأدبية التقليدية في إبداعه، فقد مارس محفوظ الكتابة بالطاقات التي تتيحها الرمزية والواقعية الرومانسية محافظاً على لغة متألّقة تخالطها أحيانا الدارجة المصرية.
وليس غريبا أن تكون الأفلام السينمائية الناجحة في تاريخ السينما المصرية قد اعتمدت على روايات نجيب محفوظ. بل وكان محفوظ نفسه قد كتب سيناريوهات بعض هذه الأفلام منتصف خمسينيات القرن الماضي.
وقدّمت روايات محفوظ في السينما المثال مرة أخرى على قدرة الأدب العظيم في التعاطي مع مشاكل الناس وآمالهم، فاذا كان الكتاب نخبوياً - وهو ليس كذلك في أدب محفوظ - فإن شاشة عامة ومشاعة تسمح للاطلاع على ذلك الأدب الفذ بأيسر الطرق وأسهلها.
وفي كلا الحالتين يستطيع القارئ ان يقرأ محفوظ كما يريد، عموديا بالمحور الرمزي للموضوع أو أفقيا بالمباشرة الحكائية للعلائق التي ينسجها حول ذلك الموضوع.
لقد رحل نجيب محفوظ، ولكن لن يرحل السيد "أحمد عبد الجواد" الذي اشتهر بين العامّة بـ "سي السّيد" رمز الهيمنة والسيادة الذّكوريّة في مجتمعاتنا العربية؟! ولن يرحل "كمال عبد الجواد" أنموذج المُثقف الذي يتمزّقُ عقله ووجدانه بين الواقع والمثال، بين إدراكه لمواطن الخللِ في العالمِ من حوله وعجزه عن الفِعْلِ والتغيير؟! ولن يرحل أمثال أحمد عاكف في (خان الخليلي) وحميدة في (زقاق المدق) ونفيسة في (بداية ونهاية) وعُمر الحمزاوي في (الشّحّاذ)، وزهرة في (ميرامار) وسعيد مهران في (اللصّ والكلاب).
لقد رحل محفوظ ولم ترحل كل عائلته الكبيرة، فكانت عبقريته أن جمعت هذه النماذج البشرية وادمجتها في مشروع التكامل الحياتي والصيرورة الحضارية وقد أغنى بهذا الثقافة العربية كما لم يغنها أكثر من عشرين وزارة ثقافة عربية ومئات الجامعات، وهذه المحلية المرتبطة بالمضمون الإنساني عنواناً جعل من قامة محفوظ أرفع من نوبل التي استحقته.
عقيل يوسف عيدان
ayemh@yahoo.com
* باحث وكاتب كويتي