القدامة العربية بين الديمومة وظاهرة التقليعة الفكرية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
عندما وقف المفكر الحداثوي الرائد سلامة موسى على درابزين السفينة التي تمخر به عباب المتوسط نحو مصر كان يقرأ البيان الشيوعي وهو يلقي بأوراقه إلى البحر، في محاولة للبقاء بوجه القدامة التقليدية الضاربة جذورها عميقا في الحياة العربية. الغريب ان سلامة موسى، وهو (الفابي) المتمرس لم يستطع ان يؤسس فابية عربية بهذا المقدار او ذاك. لكنه عكف وبقوة مع ثلة من المفكرين المتغربين على تأسيس الحداثة العربية من خلال اتصالهم الدائم بالثقافة والفكر الغربيين ومحاولة تمثلهما.
لقد تربى اكثر من جيل على كتب سلامة موسى، لكني الآن احسب ان الجيل العربي الحالي لم يعد مهتما كثيرا بطروحات الحداثة التي دأب سلامة موسى عليها عقودا عديدة. وكان من الصعب عليه ان يفترض قيام (قدامة عربية) على هذا النحو بعد أن كان واثقا جدا من أنتصار الحداثة التي جلبها معه في معطفه وقبعته. كان سلامة موسى يريد للمصريين والعرب ان يطلعوا اولا على الإنجازات الفكرية الغربية، فهي كفيلة - كما توقع- بنفض غبار الماضي عنهم؟ لقد أخطأ سلامة موسى التقدير لأن ماضي العرب لم يكن مجرد غبار تاريخي سهل النفخ، فهو مايزال يحمل من معاني القوة والحركة ما يكفي كقدامة عربية.
ومن المفيد أن نعرج على المعالم الأساسية للقدامة العربية باعتبارها الملمح الرئيس المعارض في الوقت الحاضر للحداثة العربية المعاصرة. ربما يكون مصطلح القدامة العربية غير متداول على نطاق واسع في جغرافيا الثقافة العربية، وهو لا يعدو ان يكون مجرد ردة فعل مباشرة وسطحية- في نظر البعض- ناتج عن مفاهيم الحداثة وطروحاتها بكل اشكالها الكاسحة والموجية والتقليعية. لكننا نستخدمه هنا كمقاربة ضاغطة. ومن الضروري أن نجد النقيض دائما لكلّ حركة جديدة تتمثل في هذه الأفكار او تلك وهي قوانين في حركة الفكر الإنساني عموما ولا تخرج القدامة العربية عن هذا الإطار.
هل ان القدامة العربية تقليعة ستمر مسرعة او ببطء نسبي؟ وما الذي يناله العرب من انكفائهم على مفاهيم وطروحالت ورؤى ماضوية لم تقدم شيئا مهما لأجدادهم؟ وكلّ ما اورثهم هذا الكم الهائل من الخلافات الفقهية والصراعات التفسيرية والكلامية ووجهات النظر المختلفة للحوادث شبه الثابتة تاريخيا هو الإختلاف والإختلاف وحده؟ وهل الخوض في كلّ ذلك العالم القديم كفيل بإنتاج حركة فكرية بديلة عن الحداثة؟ ام أنها مجرد تقليعة كما هي تقليعات الحداثة الاولى؟
وإذا كانت الحداثة العربية المعاصرة-على علاتها وإخفاقاتها- قد نظمت نفسها وهي تمتلك موروثا غربيا كبيرا يوضح لها الطريق من حين لآخر، وهو يدعّمها بالقوة والحركة اللازمين، فإن القدامة العربية لا تقل في مصادر القوة عنها، إن لم تكن اشدّ منها صلابة ودواما. فالمفاهيم السكونية الماضوية والكيانات المقدسة وروحية (النقل) الشافطة التي تقترب من الصحيح والثابت والمثالي هي من أهم عوامل قيام القدامة العربية المعاصرة، فضلا عما تمتلكه القدامة العربية من كم هائل من المعلومات المخزونة والمشتتة في ذاكرة الأمة وتاريخها يجعل منها اكثر أقترابا للقطوعات الشعبية البسيطة في المجتمعات العربية والإسلامية. في حين بدأت وما تزال الحداثة كفكر تجديدي معمق تجاه الكون والمجتمع والتاريخ تسجل تراجعات مهمة ومتكررة في مجالات اجتماعية وثقافية وسياسية شتى وخاصة في الربع الأخير من القرن الماضي بعد أنهيار المشروع الإشتراكي السوفيتي وإنموذجه العربي الشمولي باعتباره من أهم نتاجات الحداثة العربية الحكومية في القرن العشرين.
كما ان صفة (الحداثة) التي منحت (مجانا) للانظمة العربية السياسية قد وضعتها من جديد في موضع الغموض والتساؤل الدائم لدى عموم القطوعات الشعبية متواضعة التعليم وقليلة الثقافة. واولئك على العموم هم (جيش) القدامة العربية المعاصرة والدعاة الجدد لطروحاتها. في وقت انكفأ الحداثويون العرب في ترجمة ما ترشح عن الغرب من نظريات حداثوية جديدة وجدت طريقها في ظل ترجمات عربية متحذلقة غالبا مما أبعد أنصاف المتعلمين عنها وقرّبهم من طروحات القدامة البسيطة والواضحة والمثالية برغم عدم احتوائها على حلول عملية إنسانية، وإتصافها بالقديم المتوارث دائما.
والمشكل الكبير لدى القدامة العربية يكمن في التنوع الذي ياخذ شكل العداء المستحكم بين عموم (الإجتهادات) التي تقدمها في التواصل مع الآخر، حتى ليخال المرء أنه امام (قدامات عربائية) مختلفة الرؤية والرؤيا غالبا، مما يضع القدامة امام ضرورة توحيد الخطاب من حين لآخر. لكن هذه الرغبة يصعب تحقيقها بسبب الخلافات العنيفة والأصولية التي تجتاح بنى وتكوينات القدامة العربية التي تقترب من طابع المقدس على نحو دائم. ففروع القدامة الإجتهادية ليست تنوعا كما هو عليه الحال لدى الحداثة، بل تتخذ دائما طابع الصراع والإلغاء إن لم يكن العنف والعنف المقابل. ومن هنا فإن القدامة العربية لا يمكنها أن تتجاوز ذاتها كما هو عليه حال الحداثة من خلال مشروعات ما بعد الحداثة وإمكانية إنتاج الأسئلة حول متغيرات الواقع والتاريخ من جديد.
القدامة العربية لا تمتلك أسئلة محددة بمقدار ما هي تحاول ان تمنح إجابات جاهزة إجتهادية لا تخرج غالبا عن النصوص المكتوبة. ومن الصعوبة بمكان توظيف تلك الإجابات في إنتاج افكار مغايرة كما هو عليه الحال في الطاقة الحية التي تعتمل في الحداثة. ومن هنا فإن إعادة أنتاج الحداثة العربية لاسئلتها واحدة من المهمات الأساسية كشرط للمواجهة. فرؤيا ورؤية العالم من خلال منظار الماضي مع قليل من مكياج الحاضر كتزويق لا بدّ منه غير كافية باي حال من الاحوال لأنتاج اسئلة حول ما يجب ان نكون عليه بإزاء عالم متغير ومتسارع حدّ التفلت.
ومما لا شكّ فيه ان القطيعة الكاملة مع الماضي العربي الذي حاولت ان تنتجه الحدتاثة العربية في بواكيرها او العمليات الساذجة لأنتاجه قد اوقعت الحداثة في اخطاء يمكننا ان نعدها ستراتيجية على المستوى الفكري. حقيق ان مستوى (التابو) في الفكر العربي كان وما يزال كبيرا وعارما إلا ان أعمالا مهمة من داخله لما تظهر بعد على نطاق واسع لكي تؤسس تيارا كبيرا ومتميزا. ونتج عن هذه الوضعية الشائكة ان عملت القدامة العربية على الإستيلاء على عموم الموروث وعدت نفسها (قيمة) عليه قيمومة أبوية راسخة. لذلك ومن اجل قطع الطريق على البحث الجاد من اجل إعادة الإنتاج للموروث، أتجهت الحداثة مباشرة نحو ما عرف بإلغاء الذاكرة كلها باعتبارها عائقا أمام التطور الفكري للعقل العربي. بيد ان تلك الحال لم تلبث طويلا حتى بانت عورتها الكالحة امام الهجمات غير المنظمة التي شنتهنا القدامة العربية وسيل الإتهامات التي طالت الحداثة العربية على نطاق واسع مما افقدها مواقع مهمة في الثقافة والإجتماع..
ومن هنا فإن كثيرا من أقطاب الحداثويين العرب لم يلبثوا ان بدأوا سلسلة من اللقاءات العابرة و كتابة بعض المقالات غير المعمقة لتعويض (عقدة الذنب) في إحداث القطيعة المفتعلة مع الماضي، وتدبيج مواقف سريعة ومفتعلة لرأب الصدع الكبير مع قليل من الفكر المبذول لتغيير آليات عمل علاقة الحداثة العربية بالماضي. ولكن سبق السيف العذل حيث أستطاعت القدامة العربية ان تحصد الكثير من الماضي موظفة أياه لصالحها الفكري، بل عدت نفسها أبا أوعرّابا في بعض المواضع أيضا.
ونحن- في هذه العجالة- نحاول ان نبحث في إطار القدامة العربية المعاصرة في حياتنا الفكرية والثقافية متلمسين طرقا وعرة في ذلك، بعيدا عن تجارب المعارضة اللفظية بين القدامة والحداثة التي سبق ان نوهنا عنها. فالقدامة حركة فكرية وثقافية إلى حدّ كبير وهي تمتلك مواقع مهمة في الحياة الثقافية والسياسية العربية على حدّ سواء، ولا يمكننا ان نتجاهلها بشطبة قلم كما فعل حداثيو التقليعة. وهي تحقق في كلّ يوم تقريبا نجاحات على أرض الواقع إن لم تكن إنتصارات (تكتيكية) هنا أو هناك، كما أنها في الوقت نفسه تحاول تجديد خطابها لكي يبدو كخطاب الحداثة من التماسك والقدرة على التوصيل. وهي تعمل في حياتنا يوميا ولها مشروعها الثقافي والفكري إلى جانب مشروعات الحداثة المختلفة التي بدأت في العالم العربي منذ مطلع القرن العشرين الماضي كقوة لها مشروعها الفكري والاجتماعي والسياسي، وهي تحاول كقدامات ان تطرح نفسها بديلا مناسبا. فالقدام العربية ليست شكلا واحدا يمكن الركون اليه.
ومشروعات القدامة تترى منذ ان بدأت بواكير الملامح للحداثة العربية، فقد ملئت رفوف المكتبة العربية بكتب الحداثة المؤلفة والمترجمة لكنها تضرب صفحا أو تتوارى عن مناقشة كتب القدامة العربية التي تصدر هنا وهناك.
لابد لنا من ان نفرق بين مفهومي الأصالة والقدامة باعتبارهما حالتي تعارض ظاهريين حيث يشيع ثمة تطابق خاطيء بين القدامة والاصالة و الثراث. ونحن في هذه (المحايثة) لا نريد ان نبريء ساحة التراث او الاصالة مما لحق بهما من صور القدامة والأستلاب لهما حتى بات من الصعب في الوقت الحاضر - في الاقل- وضع آليات فكرية محددة لتفهم الاصالة او التراث الذين يخضعان على نحو كبير لهيمنة الماضوية.
إن القوة التي تحوز عليها القدامة العربية مؤقتة ومرتهنة بهذه المرحلة التاريخية الشائكة من حياة الأمة التي شهدت وما تزال سلسلة من الإنهيارات المتواصلة، لأنها في واقعها الفعلي والرؤيوي لا تمتلك تلك الجاذبية الفكرية العارمة والقوة في التأثير العميق، وان طبيعة الملتحقين بها من أبناء الجيل العربي الحالي هم من الذين أعدوا نفوسهم لعالم مغاير. ومن هنا فإن على القدامة العربية ان تعمل على تجديد روحها وخطابها ومكوناتها وتوحيد رؤاها من حين لآخر، مما يبعد عنها وسائل الديمومة والحياة، ولكن ليس من السهولة إجراء ذلك برغم صدق المحاولات احيانا.
د. رياض الأسدي