فك الإرتباط
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
إنشغل العلماء والفلاسفة منذ بداية التاريخ الى محاولة التعرف على حقيقة الموت، فكانت لهم تصورات عديدة مستوحاة من مذاهبهم ومواقفهم الفكرية، فكان منهم من تصور الموت تصوراً "مادياً" فلم يَرواَ فيه أكثر من توقف الجسد عن أداء وظائفه الفسيولوجية لسبب طبيعي، أو لسبب مفاجئ يختم به العمر، وكان منهم آخرون تصوروه تصوراً "روحياً" يتم فيه فك الارتباط بين الروح والجسد ليكون ذلك مرحلة ضرورية للوصول إلى مرحلة أخرى جديدة تتجلى فيها الحياة تجلياً آخر أي الإنتقال من الدار الدنيا الى الدار الآخرة.
وفي فرنسا أدت معركة بناء النموذج العلماني إلى فك الارتباط بين الدولة والكنيسة التي لم تخلُ من كثير من الاحتقانات والمصادمات الفكرية والسياسية العنيفة طوال النصف الأول من القرن العشرين، حتى ثبتت مبدأ "العلمانية" في دستور عام 1946م، ثم في دستور 1958م، باعتبارها ركيزة من ركائز الديمقراطية والنظام السياسي، وشددت عليها كقيمة عليا تحكم حركة المجال الاجتماعي والسياسي العام.
وهذا هو مربط الفرس الذي سنتحدث عنه "فك الإرتباط" بين الضفة الغربية والشرقية أي بين الأردن وفلسطين وجاء هذا المقال متزامناً مع بالونات الإختبار المفاجئة التي أطلقها وزير الداخلية الأردني "عيد الفايز" وهو ماسمي نفض الغبار عن ملف قرار فك الإرتباط الذي أعلنه الملك حسين يرحمه الله في 31/7/1988م.
والسؤال المطروح بقوة الآن هو ما هي المبررات أو الدوافع التي حدت بالحكومة وفي هذا التوقيت بالذات لنفض الغبار المتراكم لملف يعتبر بحق من أخطر الملفات المتروكة ؟ ويعتبر من أكثر القرارات إثارة للجدل في حينه وهو القرار الذي تضرر منه آلاف من أبناء الضفتين الشرقية والغربية لما ترتب عليه من نتائج وإن كان هذا القرار قد بدا أن في ظاهرة الرحمة إلا أن باطنة العذاب ونخشى أن يكون إعادة النظر فيه أيضاً يؤول الى نفس النتائج السابقة ليبدوا في ظاهره الرحمة ومن باطنه العذاب مرة أخرى.
ومن هنا أناشد أعضاء اللجنة التي تشكلت لإعادة النظر بملفات آلاف الأفراد والعائلات التي عانت ومازالت تعاني من تطبيقات قانون "فك الارتباط" أن يكون هدفها الحقيقي والجوهري هو إعادة تصويب الاخطاء وتنقيح الاجراءات ورد المظالم الى أهلها وأن تكون عوناً لهم لا عوناً عليهم، كما أطالب القيادة السياسية والإستخباراتية التي تقود البلاد الى توضيح الخطوة السياسية الكبيرة التي من أجلها تم الإعلان عن فتح هذا الملف الكبير والخطير.
ومنذ الإعلان عن تشكيل اللجنة نتج عن ذلك أمرين في غاية الأهمية هما:
أولاً : الإعتراف الرسمي ولأول مرة بوجود تعسف وإجراءات ظالمة نتجت عن تطبيقات قرار "فك الارتباط".
ثانياً : أن هذا القرار لم يعد مقدساً أو محرماً وإن إمكانية مراجعته واردة ولاسيما أن المحكمة العليا الاردنية أفتت بانه قرار سياسي وسيادي وليس دستوريا بمعني ان من اتخذ القرار يستطيع التراجع عنه فمتخذ القرار هو الأب ومن يستطيع التراجع عنه هو الولد.
ولكي تقطع الحكومة الشك بالقين فلابد من قيام الجهات المعنية فيها بحملة علاقات عامة تعمل على توضيح المبررات المنطقية للسياسات الداخلية والخارجية ولايكفي تبريرات وزارة الداخلية التي كانت تستند الي اعتراف ضمني بوجود حالات تعرض فيها آلاف الافراد والعائلات علي المعابر والجسور للظلم والجور وأنها تبدي رغبتها وإستعدادها لإصلاح هذا الخلل في الوقت الذي لم تعلن القيادة السياسية والإستخباراتية عن نيتها أو هدفها السياسي.
ويرى بعض المحللين السياسيين والمخططين الإستراتيجيين أن الهدف من هذا الاعلان يتجاوز البعد الانساني والاخلاقي ويساعد أصحاب القرار في جس النبض وتلقي مؤشرات تحدد ردود فعل أنصار ومؤيدي قرار "فك الارتباط" في الشارع والنخبة وفي الضفتين الشرقية والغربية وكذلك ردود فعل خصوم هذا القرار من دعاة الوحدة بين الشعب الواحد في الضفتين.
ومن الممكن القول بأن من أطلق هذا البالون الذي لا يستهان بأهميته علي أمل ان تستشعر الجدل الممكن والتأثيرات المحتملة لأي ظرف سياسي او جغرافي او اقليمي يمكن ان يضطر الأردن لاحقا لمراجعة قرار "فك الارتباط" أو حتي التراجع عنه.
ومن المعروف ان آلاف من الفلسطينيين تضررت مصالحهم بسبب تقلبات المزاج الإستخباراتي والاداري الاردني علي الجسور والمعابر، وقد سبق وأن إشتكوا من التوسع في عملية استبدال البطاقات لان سحب البطاقة من لون واستبدالها باخرى من لون اخر يعني ببساطة حرمان الشخص من الاقامة في الاردن واعتباره زائرا بدلاً من كونه مواطناً مما تسبب في إثارة الجدل عشرات المرات ومما تسبب أيضا بانتقادات لآداء الحكومة الأردنية محلياً وعالمياً.
وعملية جس النبض اثمرت في الواقع فقد صرحت عدة شخصيات تبدو مقتنعة بالحفاظ علي قرار فك الارتباط كمنجز سياسي يعتقد انه يخدم الهوية الوطنية الاردنية لرفض محاولات المراجعة التي اعلنتها وزارة الداخلية علي اعتبار ان تطبيقات قرار فك الارتباط بنيت علي اساسها اوضاع قانونية وصدرت بموجبها قرارات قضائية والحديث عن المراجعة هنا يعني الغرق في حالة فوضي في الكثير من الاتجاهات.
وهذا الرأي تسانده نخب متعددة تتصور بان التركيز علي ما هو سياسي في مراجعة قرار فك الارتباط يعني اقتراب الخيارت السياسية الاقليمية التي ستحاول حل مشكلة فلسطين والفلسطينيين علي حساب الاردن والاردنيين.
ومن الواضح ان استدراكات الحكومة الاردنية كان لها غرض حكيم يتمثل في حصر جدل المخاوف السياسية من هذه المراجعة فالفرصة متاحة للاتهام والتشكيك والعودة لاسطوانة الخيار الاردني او الوطن البديل وانصار قرار فك الارتباط هم الاكثر تطرفا باسم الهوية الوطنية الاردنية.
فالاعتراف بوجود اشكالات وتجاوزات مست بحقوق المواطنين الاردنيين من اصل فلسطيني بسبب تطبيقات "فك الارتباط" شيء جديد والتحدث عن مراجعة اجراءات فك الارتباط شيء اخر.
ولهذا ننصح بالعودة الى الجذور التاريخية التي يجب عدم إغفالها وسنوضح ذلك في عجالة قصيرة لتكتمل الصورة لدى الفريقين، إذ أن مفردة الضفتين تعود الى تاريخ الإرتباط منذ إنضمام الضفة الغربية إلى الأردن في 5 نيسان 1950م، وبهذه المناسبة لابد من التذكير بأن الآباء والأجداد كانت لهم رؤية شمولية أوضح من الجيل السياسي الحالي وكانت لديهم طموحات أسمى وأكبر، فقد بدأ الأمير عبد الله جد الملك حسين بن طلال العمل على وضع بنية لإدارة الحكم في شرق الأردن، من العرب لأنه في ذلك الوقت لم يكن حول الأمير عبد الله من الأردنيين مَنْ هو مؤهل لإدارة الدولة.
فشكل حكومته الأولى التي كانت تسمى أمارة شرق الأردن في 11 نيسان 1921م برئاسة رشيد طليع لبناني درزي، وقد كانت في حقيقة الأمر حكومة عربية أكثر منها أردنية لإيمان الأمير عبدالله العميق بالقومية العربية سبيلا للتحرر والاستقلال، ولقد تألفت من سبعة أشخاص، كلهم عرب من سوريا ولبنان ما عدا أردنياً واحداً، وكانت النخبة المثقفة المتعلمة المحيطة بالأمير، من سورية والحجاز وفلسطين.
وكان لذلك أسباب عديدة منها، إنه لم يكن هناك طبقة من المتعلمين وأصحاب الخبرة في الأردن، ولأن الأمير عبدالله اعتبر شرق الأردن جزءاً من الدولة العربية التي يطمح إليها، وأن أمارة شرق الأردن ما هو إلاّ بداية، إذ إن النعرة الكيانية الضيقة التي نمت فيما بعد، لم تكن معروفة في ذلك الزمان، فكان العربي من أي قطر كان يعمل بشكل طبيعي في حكومة أي دولة عربية.
ولكن هذا الزمان قد ولى في القرن العشرين مع تقسيم وتثبيت الكيانات العربية وبالتالي ضمور فكرة القومية العربية ووأد التجارب الوحدوية العربية في مستنقع أبدي، وعندما ذكرنا أعلاه أن الآباء والأجداد كانت لديهم رؤية واضحة فقد كان الشريف حسين حاكماً في الحجاز، وإبناه فيصل في العراق وعبدالله في شرق الأردن، لا يرون في هذه الكيانات، إلاّ خطوة أولى لتأسيس الدولة العربية، التي تضم كل العرب في بلدان آسيا.
وعندما أصبح عبد الله الأول أميراً على شرق الأردن، كان يعاني من مشاكل كثيرة وجاءت قضية السيادة التي كانت موضع اهتمام كبير في تثبيت شرعية حكمه، عندما وافقت عصبة الأمم في 24 تموز 1922م على صك الانتداب البريطاني على فلسطين والأردن، وفي أيلول 1922م، أرسلت بريطانيا مذكرة رسمية إلى عصبة الأمم تطلب استثناء شرق الأردن من أحكام وعد بلفور.
وفي 25 أيار 1923م، إعترفت بريطانيا بحكومة شرق الأردن، وبعد مرور 23 سنة أعلنت بريطانيا، استقلال إمارة شرق الأردن في 22 آذار 1946م، بعد ذلك بشهرين بويع الأمير عبد الله بالعرش الهاشمي في الأردن وصار ملكاً على المملكة الأردنية الهاشمية في 25 أيار 1946م، وفي الأول من شهر كانون الأول 1949م، عقد مؤتمر أريحا الذي أوصى بضم الضفة الغربية إلى المملكة الأردنية الهاشمية، وفي 5 نيسان 1950م، تمَّ ضم الضفتين رسمياً.
لذا يجب أن لا تنسى الحكومة الأردنية التاريخ الذي بني عليه الإرتباط والأسباب التي بنيت عليها فك الإرتباط فمنذ الإرتباط 1950م الى فك الإرتباط 1988م، هناك ثمان وثلاثون عاماً من الوحدة في كل شيء أما بعد فك الإرتباط عام 1988م الى 2006م ثمانية عشر عاماً من التفرقة بين أبناء الضفتين وظلم وجور لحق بآلاف منهم.
وهناك من يبرر إتخاذ القرار بأنه عمل من اعمال السيادة، صدر بناء على قرارات مؤتمرات القمة العربية منذ مؤتمر قمة الرباط عام 1974م، الذي إعتبر منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وقرار مؤتمر الجزائر عام 1982م، الذي إعترف بالدولة الفلسطينية حيث اصدرت الحكومة الأردنية بتاريخ 31 /7/1988م، قراراً بفك الأرتباط مع الضفة الغربية ولم يكن قرارً تعسفياً بالمعنى المنصوص عليه في قوانين الشرعية الدولية كما أن المواطن الفلسطيني بعد صدور تعليمات فك الأرتباط عاد الى جنسيته الفلسطينية الصادر بمرسوم الجنسية الفلسطينية عام 1925م، وباستقراء هذه المبادئ لا يوجد أي مساس بحقوق الأنسان.
أما الإجراءات التي أتخذت بعد "فك الإرتباط" فقد تضمنت إجراءات مثل سحب وثائق إثبات الشخصية الأردنية من حامليها ( دفتر العائلة، جواز السفر، الهوية الشخصية، الغاء الرقم الوطني، إستبدال جوازات السفر العادية بأخرى مؤقتة، صرف بطاقة إحصاء الجسور ذات اللون الأخضر).
وتمت مناقشة هذا الأمر مراراً بين مجلس النواب والحكومة، أثر تطبيق تعليمات قرار "فك الإرتباط" ورفع لوزارة الداخلية مذكرة تضمنت حوالي (800) حالة، تم إستبدال وثائق إثبات جنسيتها الأردنية، خلافا لأحكام القانون وبدعوى خضوعها لتعليمات قرار "فك الإرتباط"، ولا زالت حالات سحب الجنسية إستنادا لهذه التعليمات تتكرر، من خلال مراكز العبور مع الضفة الغربية، اوعند مراجعة (كان مكان الإقامة هو المعيار لتحديد أن الشخص ما زال أردني الجنسية أو أصبح فلسطينيا، حيث ورد في المادة (2) من تعليمات "فك الإرتباط" : " يعتبركل شخص كان مقيما في الضفة الغربية قبل 31/7/1988م، مواطنا فلسطينيا وليس أردنيا" في حين جرى توسيع هذا المعيار ليشمل الفئات التالية : كل من ( حاز على جواز السفر الصادر عن (السلطة الفلسطينية،ومن يعمل بمؤسساتها، ومن حصل على جمع الشمل بموجب إجراءات سلطات الإحتلال الإسرائيلي، وكذلك من لم يكن مقيما في الضفة الشرقية قبل صدور قرار فك الإرتباط).
أن تعليمات قرار فك الإرتباط،تعتبر بكل المعايير القانونية من أعمال الإدارة،وإن ترتيب وضع الجنسية على أساس تلك التعليمات، يعتبر مخالفا لأحكام المادة (5) من الدستور، التي تنص على أن " الجنسية الأردنية تحدد بقانون " ولا يتضمن قانون الجنسية رقم (6) لسنة 1954م أي نص يجيز سحب الجنسية أو (فقدانها أو إسقاطها،تطبيقا لأية تعليمات أو لعدم تحقق شرط الإقامة في المملكة.
وقد كشفت التطبيقات الادارية لتعليمات قرار "فك الارتباط"، عن ضعف سبل الإنصاف القضائية والادارية المتاحة في التصدي للإنتهاكات التي تتعرض لها حقوق الإنسان، حيث تتكرر شكاوى المواطنين من أن اللجوء للقضاء الإداري للطعن بقرارات وزير الداخلية، أو غيره من المسؤولين عن قضايا الجنسية وإصدار الوثائق المثبتة قد أصبح غير ذي جدوى، وهنالك سوابق قضائية تستند الى تعليمات "فك الإرتباط" كبديل لقانون الجنسية وقانون جوزات السفر.
وطالما أن القضية الفلسطينية لم تحل بشكل جذري فسيبقى الوضع على ماهو عليه ولن يحصل الإندماج بين الشعبين في الضفتين مهما فتحت الملفات الساخنة لأن من يحدد العلاقة القانونية بين الفرد والدولة هي الأجهزة الإستخباراتية أما مؤسسات الدولة فهي أدوات تنفيذية.
مصطفى الغريب